ليلة المتاريس (9 نوفمبر 1964): علم الثورة المضادة (1-2)
تاريخ النشر: 9th, November 2024 GMT
تبقى ليلة المتاريس (ليلة 9 نوفمبر إلى 10 نوفمبر 1964) أكثر الثقوب عمقاً في دراسات ثورة أكتوبر 1964. فهي من مهملات الثورة حتى قال الأستاذ كمال الجزولي إنه جف نشيدها " المتاريسُ التي شيَّدَتها، في ليالي الثَّورةِ الحمراء هاتيك الجُّموعْ" على حلق الراديو وحنجرة مغنيه محمد الأمين (كلمات مبارك حسن خليفة وتلحين مكي سيد أحمد).
وبالنتيجة خلت دراسات ثورة أكتوبر مما سماه الدكتور عبد الله جلاب "الثورة المضادة" في مقاله في الكتاب الذي حرر الدكتور حيدر إبراهيم في 2014 في مناسبة الذكرى الخمسين للثورة. وكانت ليلة المتاريس هي الفيصل بين من كان هدفهم مواصلة الثورة لعملية التغيير المؤسسي التي بدأت بسقوط النظام القديم وتعميقها، وبين من اكتفوا من الثورة بزوال النظام العسكري محافظين على قواعده الاجتماعية والسياسية. فكانت الثورة عند الأخيرين نقلة بسيطة من النظام العسكري إلى البرلمانية التي لهم من الغزارة البشرية ما يؤمن لهم بسط نفوذهم على الحكم البرلماني. فقد رأوا مرأى العين كيف أجرت الثورة تغييراً منقطع النظير في تركيبة الحكم بتمثيل جمهرة الكادحين من عمال ومزارعين في مجلس الوزراء بما لم يحدث قبلها ولا بعدها. وجاءت ليلة المتاريس، كما وصفها كمال الجزولي في كلمة أعاد نشرها قبل أيام، بضروب من الجذرية الجماهيرية المبدعة بما جعل القوى التقليدية وشيعتها تخشى من عواقبها وعواقب مثلها.
فرضت تلك الليلة استقالة الفريق عبود، الرمز المتبقي من النظام العسكري في إطار مساومة انتقال الحكم كلية للمدنيين. وفرضت كذلك اعتقال الضباط العظام أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة وإرسالهم إلى سجن زالنجي. وهكذا استكملت ليلة المتاريس دورة الثورة على النظام العسكري بنقض المساومة التي فرضها ميزان القوى في آخر أكتوبر 1964، وبدأت العقوبة على الانقلابيين خارقي الدستور ممن استظلوا بالمساومة وخرجوا مطلقي السراح. وعاد حزب الأمة والاتحادي والإسلاميون بعد "نكسة الثورة" للتمسك بنص المساومة لاحقاً في البرلمان في 1965 بقرارهم رفض محاكمة مدبري انقلاب 17 نوفمبر 1958.
لم ترتعب القوى التقليدية من المتاريس فحسب، بل ارتعبت أيضاً قوى البرجوازية الصغيرة، واليمينة منها خاصة في حركة الإسلاميين، التي قادت الثورة من خلال جبهة الهيئات (الهيئات المهنية والنقابية للخريجين والأفندية خاصة). فقد حمّلوا الجبهة وزر الانجرار وراء ما زعموا أنه إشاعة أهاجوا بها البلد ليلة المتاريس. ورأوا في الليلة جذرية سياسية لا قِبل لهم بها. فبدا لهم أن الثورة قد شبت عن طوقهم وركبت طريق الجذرية الخطر. فقرروا كبح الجماح. فبدأت طوائفهم حملة الانسحاب من جبهة الهيئات. وبدأ الانسحاب بنقابة أساتذة المعهد الفني. ثم توالى تصحير عضوية الجبهة. وأذكر بحزن شديد اجتماع الجمعية العمومية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي صوت لصالح مشروع قرار من الاتجاه الإسلامي بالانسحاب من الجبهة. وترك معشرنا في اليسار في العراء. ولم تقم لجبهة الهيئات، التي كانت تعد لتكون كياناً سياسياً ثابتاً في السياسة السودانية، قائمة. وجرى بالطبع استعادتها في انتفاضة 1985 وتمتعت بعمرها القصير مرة أخرى.
دخلت ليلة المتاريس أدب الثورة المضادة كليلة ليلاء من وسواس الشيوعيين. فهي عندهم بنت إشاعة. فعدوا كل ما جاء في أسبابها حيلاً شيوعية. وحتى المرحوم شوقي ملاسي المعدود من حلفاء الشيوعيين قال إن الانقلاب المضاد الذي خرجت جماهير المتاريس لرده على أعقابه كان وهماً. وستجد نفس العقيدة في رسالة السفير الأمريكي لوزارة الخارجية الأمريكية. وستجد مع ذلك في رواية الأستاذ فاروق أبو عيسى، التي نقلها عنه كمال الجزولي، دلالات قوية على أنه كان هناك ما كان يدبر للثورة الظافرة. فالقوات المسلحة قبل يومين من ليلة المتاريس طردت من صفوفها شباب الضباط الذين وقفوا مع الثورة الشعبية وهم بالاسم: فاروق حمد الله، والرشيد أبو شامة، وتوفيق محمد نور الدين، وفيصل حماد توفيق، وجعفر نميري. ولما سئل عبود قال إنه إجراء داخلي متعلق بالجيش. وقادت جبهة الهيئات تظاهرات ضخمة في ليلة السابع من نوفمبر من استاد الخرطوم حاصرت بها مجلس الوزراء واضطرت عبود لاسترجاع الضباط المطرودين.
وخيمت على الناس من بعد ذلك مخائل ثورة مضادة تأتي من داخل الجيش باسم ما عرف ب"تأديب الأفندية" الذين تطاولوا على "الجهادية." وتولد من ذلك خبر التحرك المضاد ليلة التاسع من نوفمبر، ليلة المتاريس. وجاء بالخبر لجبهة الهيئات شباب من اشلاقات الجيش تأخر آباؤهم عن البيت، فسعوا إليهم في معسكراتهم، ووجدوهم في حالة استعداد يَلقي عليهم الضباط خطباً عن تطاول الأفندية ووجوب تأديبهم. فتصرفت جبهة الهيئات على ضوء هذه المعلومات في مناخ تواترت فيه وقائع ومؤشرات التحرك المضاد ضد الثورة.
ونسأل، متى قبلنا جدلاً أن ليلة المتاريس بنت إشاعة، ألا تقوم أضخم أطوار الثورات على إشاعة؟ سننظر إلى حالة شائعة "ثورية" من الثورة الفرنسية في كلمة قادمة.
لمعرفة تفاصيل ليلة المتاريس أنظر فاروق أبو عيسى، نجم الليلة، في كتابه "عشرة أيام هزت السودان". وأخذ كمال الجزولي من فاروق الرواية عن الليلة ونشر مقالاً دقيقاً عنها تجده على الرابط:
https://sudanile.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%A8%D9%82%D9%84%D9%85-%D9%83%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%88%D9%84%D9%8A
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: النظام العسکری کمال الجزولی
إقرأ أيضاً:
ميادة ونور في ليلة جرشية طربية حلبية
صراحة نيوز- بشوق السنين جاءت مطربة الجيل ميادة الحناوي حاملة سلال الغناء الراقي لتملأ فضاء المسرح الجنوبي شجنا في أولى مشاركاتها بمهرجان جرش بمساعدة الفرقة الموسيقية الأردنية بقيادة المايسترو الدكتور هيثم سكرية.
وبدأت ميادة الحفل بأغنية هي الليالي كده. كلمات الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وألحان عمار الشريعي.
وبحضور وزير الثقافة مصطفى الرواشدة والفنان مصطفى كامل نقيب الموسيقيين المصريين والفنان خالد زكي، حيت ميادة الجمهور.. ورحبت بالوفود المصرية التي تزور الاردن
ثم غنت “مهما يحاولوا يطفوا الشمس” ومنها :
“مهما يحاولوا يطفوا الشمس، مهما يزيدوا
مهما يقولوا مهما يعيدوا، إنت في قلبي إنت وبس”. وهي من كلمات الشاعر عمر بطيشة وألحان صلاح الشرنوبي.
ومع نغمات العود التي استهلت بها الأغنية الشهيرة الحب اللي كان ومنها : كان ياما كان،
والاغنية كلمات وألحان الموسيقار بليغ حمدي. وأكدت ميادة الحناوي أن ذائقة الجمهور لا تزال بخير.. فقدمت أغنية أنا بعشقك كلمات وألحان بليغ حمدي. ونالت في الختام التكريم من وزير الثقافة مصطفى الرواشدة والمدير التنفيذي للمهرجان أيمن سماوي.
نور مهنا
ومن ميادة الحناوي الى المطرب الحلبي أيضا نور مهنا الذي يشارك لأول مرة في مهرجان جرش. حيث عزفت الفرقة الموسيقية بقيادة مجدي شريدة مقطوعة أغنية قارئة الفنجان للعندليب عبد الحليم خافظ وألحان محمد الموجي.
أطل نور مهنا وقدم أولا أغنية
يا عود سمعنا خلي الليل يطول.
وكسب إعجاب الجمهور المتعطش للطرب الأصيل. فامتلأ الفضاء بالاهات ويا عين يا ليل.
وحيا نور مهنا الأردن وأبناء فلسطين العظيمة.
ثم انطلق بأغنية (لعل وعسى) كلمات عيسى أيوب وألحان عصام رجي. ومع نغمات آلة القانون كان موال :
( رأيت مليحة كالغصن مالت) تبعها بأغنية ابعثلي جواب التي طالما تغني بها المطرب الراحل صباح فخري.
تبعها بأغنية الزمن ضيع حبيبي. كم قدم نور مهنا بعد وصلة عزف على آلة الكمنجة أغنية
ربة الوجه الصبوحي ومنها خمرة الحب اسقنيها،
عيشة لا حب فيها جدول لا ماء فيه.