لجريدة عمان:
2025-10-16@02:18:03 GMT

حاراتٌ ضيعها أهلها

تاريخ النشر: 6th, January 2025 GMT

يؤثر النمط العمراني الذي تعيشه المجتمعات البشرية في طبيعة التفاعل بينهم في شتى المجالات، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فيُمكن أن يحدد لهم ما إذا كانت هذه العلاقات تراحمية أم مادية بحتة، ولذلك فإن الاهتمام بالنمط العمراني الذي يبقي على الإنسان في تعامله مع غيره مهم لتعزيز تطور الفكر البشري.

في عُمان، كثيرٌ من الحارات بنيت لتكون بهذه الطريقة، فتجد أن البيوت متقاربة أو متلاصقة ببعضها، يفصل بينها طريق للمشي، ولذلك فإن كثيرا من القرى كانت تعيش بناءً على سواعد أبنائها في توفير الاحتياجات البشرية المتعددة، فتجد من يشتغل في الزراعة ومن يشتغل في التجارة وفي البنيان وغيره.

ذكر لي الشيخ محمد بن سعود الدغيشي، والد الكاتب والشاعر الصديق علاء الدين الدغيشي، أن جده وأعمامه كانوا يعملون في البنيان، فيبنون البيوت والمساجد وغيرها، وتكون العلاقة بين المؤجِّر والمؤجَّر علاقة يسودها التراحم والعاطفة الإنسانية أكثر من المادة، مما جعلني أفكر كيف تحول المجتمع العماني من هذه العلاقة التراحمية إلى العلاقة المادية في كثير من الأحيان مع القوى العاملة الرخيصة التي تشغل هذه الأشغال؟ الجواب البسيط بسبب التطور الذي عاشته عُمان، فجعلت الأغلب يهتم بالوظائف الإدارية أكثر من هذه الأشغال، لكنني أفترض أن نمط الحياة الذي اضطر إليه الإنسان بسبب النمط العمراني قد حدد أيضا كثيرا من المفاهيم في هذه العلاقة، فكثيرٌ منا يعيش غريبا في بلده، وفقد العلاقة مع الأرض والناس والمكان، فيبدو أنه يعيش حالة انفصال بينه وبين المجتمع.

إن النمط العمراني الذي يعتمد على التقوقع داخل البيوت في حارات تملؤها السيارات وقلة التفاعل البشري، تحدد هذا النوع من العلاقات الاجتماعية التراحمية، لأنها تحتم على المرء أن يعيش في حالة من الفردانية، فبيت مسور بسور، ثم طابق أو طابقين، ثم الغرفة، ثم جزء من الغرفة، وهكذا تتقلص المساحة إلى أقل فأقل حتى تصل إلى نوع من الانعزالية الفردانية.

وللأسف لم يتم الاهتمام بالحارات القديمة بسبب هجرة أهلها إلى أماكن أخرى أكثر حداثة، فبقيت متهدمة على أركانها، أذكر منها هنا على سبيل المثال، قصرى في الرستاق، وحارة اليمن في إزكي.

حارة قصرى حارة قديمة في الرستاق، كبيرة ببيوت كبار أغلبها يتكون من طابقين بُنيت بالجص والحجارة، سُميت قصرى لأن فيها قصور بمعايير الزمن الذي بُنيت فيه، تتقابل البيوت فيها وتتراص دون وجود ما يسورها، وأغلبها مبنيّ بطريقة تضمن الخصوصية العائلية، فالفناء في وسط البيت لا خارجه، مع وجود طرق تضمن المشي والالتقاء بسكان الحارة أثناء تقضية المشاوير اليومية أو إنهاء الأعمال. أسست الفاضلة زكية اللمكية متحفا مجاورا للحارة اسمه بيت قصرى الغربي، وكان منزلا لوالدها، وأخبرتني أثناء زيارة المتحف أن البيت كان متهدما لكنها أعادت ترميمه وتعديله مع الحفاظ على نفس التصميم والغرف التي كانت فيه، وقالت إنها تعبت كثيرا في الحصول على التحف المعروضة فيه حاليا. يزور المتحف العديد من الزوار من داخل عُمان وخارجها.

أقول: ماذا لو تم الاهتمام بالحارة أيضا وعاد الناس للسكن فيها لإعادة الحياة فيها فتُشكل أنموذجا لأنسنة الحارة يُمكن اتباعه في حارات أخرى؟ فهذه حارة ضيعها أهلها! وبأهلها لستُ أعني ورثة الممتلكات فيها فقط، لكني أعني الجميع ممن ارتضوا أن يعيشوا في بيوت منغلقة على ذاتها وضيعوا هذا الإرث الاجتماعي والعمراني الذي يهتم بالمكان والإنسان على السواء.

أما حارة اليمن فهي حارة في إزكي، وهي كذلك حارة كبيرة وممتدة، فيها بيوت قديمة بُنيت بالجص والحجارة، تتنوع أحجامها، بين الصغير جدا الذي يشبه الغرفة، وبين الكبير في طابقين. في الحارة مسجدان، واحد صغير، وجدتُ على سقفه خشبة مكتوب عليها اسم الشيخ عبدالله بن محمد بن غيث الدرمكي، مع آية «إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله...» وأن الفراغ من بنائه كان في سنة 1388هــ، وجامع كبير بمساحة واسعة نسبيا. في الحارة الكثير من الشواهد العمرانية، لكن أهمها هي طريقة بناء الحارة، فهي من جانب دفاعية لأنها مسورة وعليها ما لا يقل عن أربعة أبراج، ومن جانب آخر تراعي الإنسان في تعامله مع غيره، وكيفية الالتقاء والتفاعل مع ساكني الحارة الآخرين. المثير للاهتمام، أن بجانب الحارة القديمة هذه -التي لا يهتم بها أحد وتركت لأن يجور فيها الزمن والأشباح- بيوتا أخرى حديثة، يُمكن للناظر من خلال هذا المشهد أن يدرك تقارب أولئك القدامى وتراحمهم، وتباعد هؤلاء المعاصرين. فهذه حارة أخرى ضيعها أهلها!

كم حارة أخرى، كان ينبغي أن تشكل أنموذجا معماريا يُمكن أن يُحتذى به لبناء الحارات الجديدة مع عدم إهمال الحارات القديمة هذه وإحيائها، لأن هذا الأنموذج هو الذي يهتم بالإنسان ويجعله في علاقة تراحمية دائمة مع جيرانه مع حفاظه على خصوصيته وأهله.

ما أود قوله، هو أننا يجب أن ندرك أهمية ما ضيعناه من أيدينا، وسوء ما عشنا فيه، هذه الغربة عن بعضنا لا تزيدنا إلا نفورًا، فهي سيئة على جميع الأصعدة، مما ولد مشاكل أخرى، مثل الاعتماد الكامل على السيارة في التنقل، الذي ولّد بدوره مشاكل أخرى أكبر وأكثر ضررا، فيجب أن ندرس هذه النماذج قبل أن نفقدها تماما، ونؤسس لمجتمعات ومدن وقرى مؤنسنة تتناسب مع طبيعة معيشتنا وأفكارنا، وأن نستلهم من أنفسنا طريقة حياتنا لا من غيرنا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العمرانی الذی

إقرأ أيضاً:

استرداد 5 وحدات سكنية بالعاشر من رمضان لمخالفة النشاط والحفاظ على الطابع العمراني

 نفذ جهاز تنمية مدينة العاشر من رمضان حملة موسعة أسفرت عن استرداد خمس وحدات سكنية بعد ثبوت مخالفتها لشروط التخصيص وتحويلها إلى أنشطة غير سكنية بالمخالفة للقانون، وذلك في إطار الجهود المكثفة التي تبذلها أجهزة المدن الجديدة للحفاظ على المظهر الحضاري ومنع أي استخدامات مخالفة داخل التجمعات السكنية.

جاءت هذه الحملة تنفيذًا لتوجيهات المهندس علاء عبد اللاه مصطفى رئيس جهاز تنمية مدينة العاشر من رمضان والمشرف على جهاز حدائق العاشر، ضمن خطة الجهاز لتكثيف المرور الميداني والمتابعة الدورية داخل مختلف المجاورات السكنية، لضمان التزام المواطنين بالاستخدام المخصص للوحدات ومنع أي تغيير في النشاط يؤدي إلى الإخلال بالطابع العمراني أو إزعاج السكان.

وتم تنفيذ قرارات الاسترداد في عدد من المجاورات تشمل 13 و38 و40 و47، بمشاركة إدارة الحجز الإداري ولجنة استرداد الوحدات السكنية الملغاة، إلى جانب شرطة ومباحث التعمير والأمن، حيث جرت عملية التنفيذ وفق الإجراءات القانونية المعتمدة وبشكل منظم يراعي حقوق جميع الأطراف.

وأكد رئيس الجهاز أن هذه الخطوة تأتي ضمن نهج واضح تتبعه هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة لضبط المخالفات وتحقيق الانضباط داخل المدن الجديدة، مشيرًا إلى أن الوحدات السكنية تم تخصيصها بغرض الإقامة فقط، وأن أي استغلال لها في أنشطة تجارية أو خدمية يمثل إخلالًا صريحًا بشروط التخصيص ويعرض المخالف للمساءلة القانونية والإدارية.

وشدد على أن جهاز المدينة مستمر في تنفيذ الحملات المفاجئة على مختلف الأحياء والمجاورات السكنية لرصد أي مخالفات أو محاولات لتغيير النشاط، مؤكدًا أن الهدف الأساسي هو الحفاظ على جودة الحياة داخل المدينة وحماية الاستثمارات العقارية من أي ممارسات عشوائية تؤثر سلبًا على قيمتها أو على راحة السكان.

ودعا جهاز تنمية مدينة العاشر من رمضان جميع المواطنين إلى الالتزام بالاستخدام السكني للوحدات المخصصة لهم، وعدم الإقدام على أي تغيير في النشاط دون الحصول على موافقات مسبقة من الجهات المختصة، مؤكدًا أن التعاون بين الجهاز والمواطنين هو السبيل الأمثل للحفاظ على المظهر الحضاري للمدينة واستدامة التنمية العمرانية فيها.

مقالات مشابهة

  • مونيك سوسكسمانيغسيه: جوهر العمل العمراني هو الإنسان.. والاقتصاد يأتي لاحقًا
  • الانسحاب العاطفي.. صمت المشاعر الذي يهدد العلاقات الزوجية
  • استرداد 5 وحدات سكنية بالعاشر من رمضان لمخالفة النشاط والحفاظ على الطابع العمراني
  • فاصل خرساني.. النقل تبدأ عزل حارة الأتوبيس الترددي على الطريق الدائري
  • توثيق حارة السويق بنزوى ضمن أنشطة الحفاظ المعماري بجامعة التقنية
  • من يهتم؟.. ترامب داعيًا الرئيس الإسرائيلي للعفو عن نتنياهو
  • المتحولون لحجر.. لماذا يهتم الفلكيون بـ 19 عمودا صخريا في كينيا؟
  • مجلس النواب يعزي في وفاة منتسبي الديوان الأميري القطري
  • قبيسي: على الدولة أن تعبّر عن وجودها من خلال حماية أهلها واستنكار الغارات
  • الشيخ جاسم بن جبر آل ثاني: «SK» تُــقـدم مشــاريع نوعــــيــة تُعـزز المــشــهد العــمــراني في قـطر