لجريدة عمان:
2025-06-03@11:29:34 GMT

الرّوايـة التّـاريـخيّــة: الفـرد والجمـاعـة

تاريخ النشر: 29th, January 2025 GMT

لـعلّ واحـدا من أكـثـر الأسباب أثـرا في تداوليّـة أيّ سرديّـة أو في شيوعـها في المجتمع والثّـقـافة، أو في حقـبة زمـنـيّـة مّـا، مقـدرة صانعها على إحسـان صنـعـتها وخـلْع أردية الجاذبيّـة عليها. معنى هـذا، ابتـداء، أنّ السّـبـب الأساس في ذلك الشّـيوع لا يـردّ إلى وفـرة الإقـبال عليها من الجمهـور المتـلـقّي، فحسب وكما يـشيع الاعـتـقـاد عند الأكـثـر، بـل يـردّ إلى نـوعيّـة تكويـنـها كسرديّـة وإلى مـن يـقـوم بفـعـل التّـكويـن ذاك.

نعم، ما مـن شـكّ في أنّ لشـدّة الإقـبال عليها أثـرا في فـشـوّها؛ وما من شـكّ في أنّ لتـداوليّـتـها - في هـذه الحـال - عـلاقـة بقـوّة التّـأثـير والجاذبيّـة فيها، وبـقـدرتها الإقـناعيّـة وبـديـع حبكتها التي تصنـع لها في النّـاس تلك الهالة التي لها فيهم. مع ذلك، أليس هذا بشيء لا يمكنه أن يستـقـلّ بـذاته عن فعـل فاعـل يقـف خلفـه؛ أليس يرتبط ذلك كـلّه بـدور مركـزيّ يعود إلى عامـل التّأليـف والتّـركيب الذي يـكوّنـها فيصوغها في شكـل سرديّـة؟ بعبارة أخـرى، أليس تعـود شـدّة أثـر السّرديّـة في متـلـقّـيها إلى مستوى مؤلّـفها/مؤلّـفيـها وإلى ما يـحْـرزه/يحرزونـه من نجاح في مضـمار إتـقان صنعـة التّـأليف والتّـركيب: أعني صـنْـعـة السّـرد ونـظْـمـه؟

قـد يكـون مؤلّـف السّرديّـة معـلومـا لدى قـرّائها وقـد يكـون مجهـولا، ولكـنّ معلومـيّـتـه والمجهوليّـة لا تـغـيّـران كـثيـرا في حقيـقـتها كسرديّـة، أي كبنيـة من القـول حاملـة لمعارف ورسائـل ودلالات قـابلـة لأن تـقْـرأ وتـسْـتـوعى ويـسـتـنْـبط منها ما يسْـتـنْـبط بمعـزل عمّا إذا كان مصدرها معلومـا أو مجهولا. نعـم، ليس مـن شـكّ في أنّـه كلّـما كان مـؤلّـفها معلومـا، كان إدراك النّـاس فحـوى السّرديّـة أيسـر؛ إذْ هـي تـعْـرف بـه، مـن جـهـة، أو مـن شـأن العـلْـم بـه، عنـد قارئـها، أن يـلـقـي بعـض الضّـوء على مـا غـمـض معـناه فيها وأبْـهـم أمـره؛ وهو قـد يـعْـرف بها على نحـو أفْـيض ممّا يـعْـرف بأثـر آخـر له، مـن جهـة أخـرى. أمّا في حـال كـون مـؤلّـفـها مجـهولا، فلا يعـدو الجـهْـل بـه أحـد احتـماليْـن: أن يكـون جـهلا مؤقّـتا أو انـتـقـاليّـا يمكن مغالـبـته بالتّـدقيق الرّصيـن في لغـة السّرديّـة وزمـنـيّـتـها والأحـداث والنّصـوص التي تحيـل إليها؛ وتلك، بالضّـبـط، حـال المخطوطات التي يـجْـهـل مؤلّفـوها فـيـنصـرف مـن يحقّـقها إلى درسـها، الدّرس الدّقـيـق، قصـد استخـراج اسم مـؤلّـفـها: إمّـا على وجـه التّـحقيـق أو على جهـة الرّجحـان؛ أو أن يكـون جـهـلا مزمـنـا يتـعـسّـر معـه، إنْ لم يـسْـتحـل، إمكان بيـان مـن تـنْـسب إليه السّرديّـة.

الغـالب على هـذا النّـوع الثّاني مـن السّرديّـات أن يـأخـذ شكـل سرديّـات شـفـويّـة شعـبـيّـة: خـرافـات أو قصص أسطـوريّـة وروايـات لا تـاريـخيّـة وما في معـنـاهـا من سـرديّـات تـؤلّـفـها الذّهـنـيّـة العامّـة المسكونة بالتّـفكـير الميـثـيّ والعجائبيّ. ولقـد يكون بـعض من هذا النّـوع من السّرديّـات الشّـفويّـة المجهـول مؤلّـفـها/مـؤلّـفوها مكـتوبا أو مـدوّنـا، لكـنّ تـدويـنـه كتابـة لا يجعـل منه أثـرا منسـوبا إلى التّـراث المكـتوب، ولا ينـزع عـنه طبـيعـتـه الشّـفـويّـة البـرّيّـة Sauvage التي تظـلّ تلازمـه بما هـو نـوع خاصّ من السّرديّـات غير المعـلوم مصـدرها. على أنّ أظْـهـر ما تـنـماز بـه هـذه السّرديّـات الشّـفـويّـة أنّـها تكـون مـن إبـداع الجماعـة لا الفـرد الواحـد، ويتـمـيّـز فـعْـل الإبـداع فيها بكـونـه فعـلا دائـما مستـمـرّا في الزّمـن؛ بحيث يـزاد فـيها ويـعـدّل ويـطـمـس ويـجـرّد المعطـى المتناقـل مـن جيـل لجـيـل، على نحـو يـخْـلع على السّرديّـة دلالات متـنـوّعـة مستـقـاة من قـيـم أزمـنـة وأمكـنـة عـدّة. وهـذا يـعـني، في مـقام استـنـتاجيّ، أنّ هـذا النّـوع من السّرديّـات المجهـول مـؤلّـفـها (المعلـوم مؤلّـفـها الجماعـيّ) هي بمثابـة مـصـبّـات أو أحـواض رمـزيّـة تـصـبّ فـيها شخـصيّـة الجماعـة أو الأمّـة التي نشـأت بيـن ظـهرانـيها تلك السّرديّـات فتصير مرآة لها.

كـثـيـر من السّرديّـات التّـاريخيّـة معـروف النّسبـة إلى مـؤلّـفـه الفـرد: إمّـا تصـريـحا منـه بذلك في النّـصّ أو استـنـتاجـا بالتّـحليل العلـميّ. مع ذلك، لا يمنـع الباحـث نـفـسـه مـن الشّـعور بالاستغـراب أو الحيْـرة أمام ظـاهـرة إلـغـاء المـؤلّـفـيـن ذواتـهـم وفـرديّـاتـهـم في مؤلّـفـات يعيـدون فيـها ما قـاله الأوّلـون في تـآليـفـهـم، لا يـزيـدون على ذلك أكـثـر مـن إثـبات سلسلـة إسنـاد ربّـما اخـتلـفـت حلْـقـات منها في مـؤلّـف هـذا ومـؤلّـف ذاك مـن غير أن تـختـلـف المصادر الأولى المرجعـيّـة للسّلسـلة. يكـاد مؤلّـفو السّرديّـات، على كـثـرتهم، يشـبـهون بـعـضهـم في هـذه الحـال حتّى لا نـقـول إنّـهـم يستحيـلون مـؤلّـفا واحـدا متـكرّر الظّـهـور في التّـاريخ؛ بحيث نـلفيـهـم يتعاورون على تدبيـج الرّوايـة عيـنـها وعلى ترسيـخ اليـقـيـن بها بطـرق في الإقـنـاع مشهـورة بينـهـم. هكـذا تصيـر روايـة الفـرد الواحـد روايـة الجماعة كلّـها تردّدهـا وتعيـد إنـتاجـها من غير مـلل وتـنشـرها في الآفـاق. ثـمّ ما تلـبـث هـذه أن تصبـح روايـة رسميّـة لـدى السّـلطـة الحاكمـة وأجـهـزتـها تحْـدب عليها وتحيـطـها بالـقـدْسـنـة Sacralization، وهكذا - أيـضا - تزيـد تـداولـيّـتـها مـن خـلْع الحـرْمـة عليها إلى حـدّ يصير معـه التّـشكـيـك بـها عـدوانـا على حقيـقـة الأمّـة والجماعـة والتّـاريخ.

انتـقـال الرّوايـة مـن الفـرد إلى الجـماعة ومن الجماعـة إلى السّـلطـة، والإنحاء عليها بالتّـكـرار والتّـدويـر والتّعالي بـها عـن الاشتـبـاه والتّـسْآل هـو ما يـضـعـها في مرتبـة ما ينـعـقـد عليه إجمـاع الأمّـة فيصـنـع لها، بالتّـالي، أسبـاب السّلطان الذي يصير لها في النّاس إلى حـدّ اليـقيـن الإيمانيّ بـها. ومـا مـن سبـيـل إلى الحـدّ مـن هـذه الأوْكـديّـة المـزفـوفـة بها تلك السّرديّـات، في الثّـقـافة الذّهـنيّـة العـامّـة، إلاّ بوضعها موضع فحـص نـقـديّ يعيـد النّـظـر في ركـام من الأوهـام التي أحيـطت بـهـا لأحقاب متطاولة.

عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

“المسيرة الإيمانية وبناء الأمة ونجاة الفرد في ضوء الالتزام الجماعي والهجرة الإيمانية” المقاصد والدلالات التي وردت في الدرس الرابع للسيد القائد

يمانيون / تحليل خاص

 تناول السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي في الدرس الرابع ضمن سلسلة دروس القصص القرآني،  مفاهيم عميقة وأساسية حول المسيرة الإيمانية، مفهوم الهجرة وأبعادها، وأهمية بناء أمة إيمانية متماسكة. وفيما يلي قراءة في أبرز المقاصد والدلالات التي وردت في هذا الدرس كرؤى استراتيجية لبناء أمة إيمانية قوية تقوم على أسس من التعاون والتآخي في سبيل تحقيق أهداف إيمانية من خلال الحديث عن المسيرة الجماعية، الواقع الإيماني، والهجرة كالتزام إيماني، والحث على أهمية التوحد في المواقف الدينية وتبني الحلول الجماعية والفردية التي تضمن الالتزام بتعاليم الله في ظل البيئة المتغيرة.

المسيرة الإيمانية كمسيرة جماعية
التعاون على البر والتقوى: أول ما يلفت النظر هو التأكيد على أن المسيرة الإيمانية لا تقوم على أساس الأفراد بل هي مسيرة جماعية. وهذا التعاون في سبيل الله يتجسد في التآخي في الإيمان والعمل معاً من أجل أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. إنها دعوة لبناء أمة متماسكة تعمل من أجل الله وتنشد العدالة والحق في كل مناحي الحياة.
النهضة بالمسؤوليات الجماعية: يتحمل الجميع المسؤولية، سواء كانت دينية أو اجتماعية. هنا، يتضح أن الواجبات الجماعية أكبر من تلك التي تتحملها الأفراد في العزلة.

 الهجرة كحل إيماني
الهجرة بوصفها التزامًا إيمانيًا: الهجرة ليست مجرد انتقال مادي من مكان إلى آخر، بل هي قرار إيماني. عندما يواجه المؤمن بيئة لا توفر له الفرص للعيش باستقامة دينية أو يجد نفسه محاربًا ومضطهدًا، يصبح الحل هو الهجرة.
الهجرة كتحرُّك في سبيل الله: كما ورد عن نبي الله إبراهيم عليه السلام، فالهجرة ليست مجرد انتقال جسدي ولكنها تتعلق بالانتماء الإيماني والتفاني في خدمة دين الله. ولذلك، كانت الهجرة بالنسبة لنبي الله إبراهيم عليه السلام قرارًا إيمانيًا عميقًا بعد أن أكمل مهمته أمام قومه.
التوكل على الله: الهجرة تتطلب التوكل على الله سبحانه وتعالى، حيث أن الشخص الذي يهاجر يبحث عن بيئة أفضل له ليعيش فيها ويؤدي واجباته الإيمانية بشكل صحيح.

 الهجرة وارتباطها بالعزة الإيمانية
العزة والتزام المؤمن: في الآية {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} يوضح السيد القائد يحفظه الله أن العزة هي جزء أساسي من الإيمان، ولهذا فإن البقاء في بيئة مغلقة ومجتمعات محاربة للدين يعتبر غير مقبول إيمانيًا. الهجرة تهدف إلى التحرر من الذل وتوفير بيئة قادرة على توفير الأمان للإيمان والعمل بما يرضي الله.

الواقع الإيماني وبناء الأمة
تكوين الأمة المؤمنة: الجهد الإيماني لا يقتصر على مستوى الفرد، بل يجب أن يكون التحرك الجماعي هدفًا أساسيًا، لتكوين أمة مؤمنة تسعى للتعاون على البر والتقوى.
التعاون في الإيمان: كما قال الله في القرآن الكريم {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، هذا التعاون من شأنه أن يخلق قوة جماعية قادرة على التغيير، وتقديم نماذج إيمانية تصلح مجتمعات بأكملها.

 الاستمرارية والإنتصار من خلال الهجرة
الهجرة كخطوة في نشر الإسلام: كما في هجرة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة، كانت الهجرة من مفاتيح انتشار الإسلام وبداية لإنشاء الأمة الإسلامية. الهجرة تفتح آفاق جديدة لتحقيق الأهداف العليا للإيمان والدين، وتعتبر تحوّلاً مهماً في حياة الأمة.

 البركة والسعة في الهجرة
البركة الإلهية : الآية {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِد فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} تبرز البركة التي ترافق المهاجر في حياته. فالهجرة، رغم ما يترتب عليها من مشاق، تؤدي في النهاية إلى بركة ورزق لم يكن يتوقعه المهاجر.
المستقبل المعيشي: يُؤكد السيد القائد حفظه الله أن الهم المعيشي لن يكون عائقًا أمام المؤمن إذا كان هدفه الهجرة في سبيل الله، فإن الله سيفتح له آفاقًا جديدة.

 الصلاح كغاية نهائية
الصلاح كمفهوم جامع: الصلاح هنا يُعتبر الغاية النهائية في حياة المؤمن، حيث يُجمِع بين جميع الصفات الإيجابية المطلوبة من الفرد في سعيه لله، سواء كانت إيمانية أو أخلاقية. وبالتالي، فإن الإنسان الصالح يسعى لتحقيق الصلاح في نفسه وفي ذريته.
طلب الصلاح: ما يمكن استخلاصه من هذه الدروس هو أن الصلاح هو المنهج الذي يجب أن يسعى المؤمن لتحقيقه، سواء في نفسه أو في ذريته. عندما يكون الإنسان صالحًا في حياته، فإنه يسعى لتحقيق الاستقامة والعدل في محيطه.

خاتمة 
الدرس يوجه الدعوة لبناء أمة متماسكة تُعنى بالدين والإيمان، تؤمن بالعمل الجماعي والتعاون على البر والتقوى. كما يُظهر أهمية الهجرة كحل إيماني عندما تكون الظروف غير ملائمة، مع التأكيد على أن العزة الإيمانية وتحقيق الصلاح هما من الركائز الأساسية التي يجب أن يسعى المؤمن لتحقيقها في حياته.

مقالات مشابهة

  • ماهر فرغلي: منفذ هجوم كولورادو متعاطف مع الإخوان.. والجماعة تلتزم الصمت
  • “المسيرة الإيمانية وبناء الأمة ونجاة الفرد في ضوء الالتزام الجماعي والهجرة الإيمانية” المقاصد والدلالات التي وردت في الدرس الرابع للسيد القائد
  • إعلام القليوبية ينظم ندوة بعنوان «الإدمان خطر صامت يهدد الفرد و المجتمع»