إرث الهُوية.. تمكين للمستقبل
تاريخ النشر: 2nd, February 2025 GMT
خليل العبري
تتوالى الضربات على رأس المسمار فوق سطح السفينة على شواطئ مدينة صور العفية؛ لتُبحِر بعد ذلك وتبدأ رحلة التصدير والتعريف بمكونات الهوية العُمانية، والبضائع المحمّلة من التمور والليمون المُجفَّف، وغيرها من البضائع التي اعتاد التجار على تصديرها.
وسط صُراخ نواخذة السفينة وأمرهم بإنزال الأشرعة التي حيكت بأيدٍ عنوانها "لا تعرف للهزيمةِ سبيلًا"، حاملةً معها هوية الإنسان العُماني وثقافته، لتُصدرها للعالم من شرقه إلى غربه.
إنَّ ارتباط مفهوم المواطنة ارتباطاً وثيقاً بين الإنسان والأرض التي ينتمي إليها تُكون علاقة تتخللها مجموعة من الحقوق والواجبات، وكذلك تخوِّله لأن يكون مواطنًا ذا صفة قانونية في وطنه، وكونه مواطنًا فلا بد أن يكون على أهبة الاستعداد لأي واجب يطلبه منه وطنه، أو ولي أمره، وذلك من منطلق قولِ الله العزيز في محكم كتابه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْاِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ اِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).
ومن جانب آخر، يُعزى مفهوم الهوية العُمانية دائمًا إلى مجموع الخصائص والسمات التي يُعرف بها العُمانيون داخل وطنهم وخارجه. وتُبدي تلك الخصائص روح الانتماء لديهم، وتكون السبيلَ دومًا إلى تقدم مجتمعهم وازدهاره. وقد تجذّرت روح الهوية في الإنسان العُماني واستقى الوطنيّة بتباين أطيافه، حتى أينعت ثمارًا يستلذ بها غيرهم في أخلاقهم، وزهورًا يتنعّمون فيها برحيق كلماتهم، وخير من يمثّل ذلك هم شعراؤهم، فقد أسهبوا بأجزل الشعر وأجمله في حب وطنهم وانتمائهم إليه، حينما تغنّى الشاعر العُماني ذياب العامري في قصيدتهِ المعروفة "أنتِ المحبة"، وجعل علاقته بعُمان علاقة الرباط المقدّس، الذي لا يُمكن أن ينفكَّ، فيقول:
ماذا يضيرك لو عشقتك مرة
وضممت قدك بكرة وأصيلا
وسدنت في محراب حبك خاشعا
أدعو الإله مرتلًا ترتيلا
أن يحفظ الود المقدس بيننا
وبأن تكوني الحب والتقبيلا
وبأن تكوني زهرة عطرية
لا تعرفين إلى الذبول سبيلا
والتاريخ العُماني الغني والمتنوع قد شكّل أسس الهوية العُمانية منذ الأزل؛ إذ تجسدت فيه قيم الهوية العُمانية والمواطنة من خلال التعاطي الشديد مع أعداء هذه الأرض، ولين التعامل مع الأصدقاء. فقد أثبت العُمانيون أنَّ هذه الأرض الطيبة الطاهرة لا تقبل أي نَفَسٍ خبيث يجعل الحقد عنوانًا له، وذلك من خلال تعاملهم مع مختلف المستعمرين الطغاة لهذه الأرض، فقدّم العُمانيون أنفسهم وأموالهم ذودًا عن تربة الوطن الطاهرة، وفي سبيل حرية هذه البقعة التي لا تنبت إلا طيبًا. وهذا الأمر لا يعدو إلا أن يكون تمثيلًا عن اعتزازهم وتمجيدهم لهويته السليمة وانتمائهم لوطنهم عُمان.
كذلك، كانت السفن العُمانية تجوب بحار العالم في الشرق والغرب لتحقيق الغايات الاقتصادية والسياسية والدينية لوطنهم ودينهم، فهذا هو الشيخ أحمد بن النعُمان الكعبي يُبحر في أول رحلة دبلوماسية بحرية عربية في عام 1840م. كل تلك الرحلات والمسافات الطوال لهي دليل على وعي العُماني في ذلك الوقت بأهمية تصدير هويته وتعريفها للعالم بأسره.
واليوم، وسط هذا الانفتاح الكبير في العالم، والوصول إلى مراحل متقدمة في مواضيع الذكاء الاصطناعي. لهو ذو أثر كبير وفرصة عظيمة لتجديد ترسيخ الاعتزاز بالهوية العُمانية. ويظهر ذلك جليًا من خلال الأدوار التي تقوم بها الحكومة الرشيدة في سبيل التسهيل والتيسير لحياة المواطنين اليوم، وذلك عبر تطوير أدواتها، وتحسين خدماتها بشتى أنواعها، باستخدام محركات الذكاء الاصطناعي المختلفة التي تصب مصالحها جميعًا للإنسان العُماني- بعون الله- الأمر الذي ينعكسُ إيجابًا على رضا المواطنين من خلال تعاملهم مع تلك الجهات المختلفة، وهو الأسلوب الذي يعزز في أنفسهم بأن انتماءهم واعتزازهم بوطنهم لهو محل تقدير لدى حكومتهم الرشيدة واهتمام منها.
ختامًا.. إنَّ تأكيد المقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم- أعزّه الله- على ضرورة الحفاظ على عنصر الهوية العُمانية التي يُنظر إليها بصفة كونها لبِنة أساسية في بناء المجتمع العُماني وصمام أمان للمجتمع اليوم، وتوجيهه السامي إلى ضرورة التصدي لكل المخاطر والتحديات التي تواجه هذه اللبنة، هو كفيل بأن يُدرك المرء مدى أهميتهما في بناء المجتمع، والحفاظ عليه. فهي الدرع الحصين وخط الدفاع الأول الذي يحمي فلذات هذا الوطن الكريم وبُناتهَ، التي من مكوّناتها اللغة العربية، والدين الإسلامي إلى جانب السمات الشخصية للإنسان العُماني التي تكونت عبر العصور.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بوصلتك نحو قيادة الأعمال في السوق العُماني (3)
د. سلام محمد سفاف **
dr.salamsafaf@gmail.com
الاستشراف الاستراتيجي: كيف تقود الشركات العُمانية صناعة المستقبل؟
ماذا لو استطعتَ رؤية تحولات السوق العُماني بعد 5 سنوات؟ كيف ستغير استراتيجيتك لو عرفت أن الطلب على الطاقة المتجددة سيتضاعف بحلول 2030، وأن 40% من الوظائف الحالية ستختفي بسبب الذكاء الاصطناعي؟
والآن، تخيل أن لديك خيارين:
الاستشراف الاستراتيجي هو الخيار الثاني، وهو الفرق بين القائد الاستراتيجي والمدير.
بعد أن ناقشنا في المقالتين السابقتين كيف نخطط ونصمد، حان الوقت لنعرف كيف نُشكّل المستقبل؟
تعتمد العديد من الشركات في السوق العُماني على التخطيط وتهمل جانب الاستشراف الاستراتيجي، وقد يعتبره البعض تكاليف غير ربحية على الرغم من أنها تشكل حزام الأمان في وجه مطبات المتغيرات المتسارعة في السوق وتطوراته وعدم استقراره أحياناً، كما أننا نواجه أيضاً إشكالية التحليل التقليدي المعتمد على أدوات مثل SWOT Analysisأو PESTEL Analysis، حيث يقع معظم قادة الشركات في فخ الاكتفاء بهذه الأدوات فقط خلال عملية تحليل البيئة الداخلية والخارجية، والتركيز على دراسة البيانات في الوقت الحاضر وعدد من السنوات الماضية كتحليل الطلب على مشتقات النفط، وبالتالي تَوقع نمو قطاع النفط دون مراعاة التحول العالمي للطاقة، وهذا يعني إهمال إشارات المستقبل.
إذاً، ما الفرق بين الاستشراف الاستراتيجي والتخطيط؟
يدرس الاستشراف الحالة المستقبلية "ماذا بعد؟"، بينما يركز التخطيط على الحالة الراهنة "ماذا لو؟". يبني الاستشراف سيناريوهات مستقبلية مثل محاكاة تأثير الذكاء الاصطناعي، بينما يعتمد التخطيط على تحليل البيانات الحالية والتاريخية فقط باستخدام أدوات مثل SWOT.ويواجه مستقبل الشركات العُمانية تحديات خاصة، أهمها:
ثقافة "الانتظار والترقب" ونقص البيانات المستقبلية. فخ التكنولوجيا: التركيز على الأدوات بدلاً من الرؤية المستقبلية، فالتحول الرقمي أداة وليس هدف. الاستشراف الانعزالي: عدم مشاركة النتائج مع الجهات الحكومية وعقد ورش لمحاكاة الأزمات.خارطة طريق الاستشراف الاستراتيجي: كيف تبدأ؟
تدريب 20% من الموظفين على التفكير الاستشرافي، وتشكيل وحدة استشراف داخلية من الثلاثة الأكثر كفاءة منهم. اعتمد أداة تحليل الاتجاهات الكبرى "Megatrend Analysis"، وهي تقنية تُمكّن الشركات من توقع التغيرات المستقبلية في السوق من خلال تحليل الاتجاهات الحالية والتنبؤ بالتطورات المستقبلية التي سيكون لها تأثير كبير على الأعمال، ويتم استخدامها في دفع عجلة الابتكار وتحسين الاستراتيجيات. تابع ثلاثة اتجاهات عالمية تؤثر على قطاعك، واختر سيناريو واحد وحضّر له.نموذج عُماني ناجح في استشراف المستقبل: كيف تقود OQ "أوكيو" التحول نحو الطاقة الخضراء والابتكار؟
في عام 2024، برزت مجموعة أوكيو العُمانية كنموذجٍ رائد في استشراف المستقبل، حيث نجحت في الجمع بين الابتكار التكنولوجي والتحول الطاقي المستدام، مدعومةً برؤية استراتيجية تواكب تطلعات سلطنة عُمان لتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2050. ومن أبرز محطات هذا النجاح:
تأسيس وحدة الابتكار: (OQX) أطلقت أوكيو هذه الوحدة كذراعٍ بحثي وتطويري يهدف إلى معالجة التحديات التشغيلية والبيئية عبر تقنيات مبتكرة. وفي عام 2024، نفذت الوحدة 3 مشاريع تجريبية متوقع أن توفر 2.6 مليون دولار من التكاليف، إلى جانب تطوير أول ملكية فكرية للشركة في عُمان مع التركيز على مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة.2- التحول نحو الطاقة الخضراء: تبنت أوكيو مشاريع استراتيجية لقيادة التحول الطاقي، أبرزها:
مشروع "هايبورت الدقم" للهيدروجين الأخضر. تطوير 300 ميجاوات من مشاريع الطاقة الشمسية والرياح في محافظتي الوسطى وظفار. مشروع مرسى للغاز الطبيعي المسال في صحارالذي سيعمل بالكهرباء المتجددة بنسبة 100% ليصبح أحد أقل المصانع كثافةً للانبعاثات عالميًا. شراكات دولية ودعم الاقتصاد المحلي: عززت أوكيو التعاون مع لاعبين عالميين مثل توتال إنرجيز كما رفعت إنفاقها على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المحلية إلى 900 مليون دولار، مما يدعم التنويع الاقتصادي.تمثل أوكيو نموذجًا فريدًا للشركات الوطنية التي تدمج بين الابتكار والاستدامة، لتصبح عُمان وجهةً رائدة في اقتصاد الطاقة الجديدة، وهي تقدم لنا مجموعة من الدروس المستفادة:
التحول يبدأ قبل أن تضطر إليه. السوق المستقبلي لا يشبه سوق اليوم. أعد تعريف هويتك قبل أن يبدأ الأخرون.أخيراً، المستقبل ليس مكانًا نصل إليه بالصدفة؛ بل هو مساحة نصنعها بالخيارات الاستراتيجية اليوم. في هذه السلسلة، انتقلنا من التخطيط إلى الصمود ثم إلى القيادة، وها نحن ندرك أن الفرق بين الشركات التي تنجو وتلك التي تزدهر يكمن في قدرتها على استشراف الغد قبل أن يُطل برأسه.
كما علمتنا "أوكيو"، التحول يبدأ عندما نرفض أن نكون رهائنَ للماضي، ونختار أن نكون مهندسين للمستقبل. والسؤال الآن: هل ستكون أنت القائد الاستراتيجي الذي يقرأ اتجاهات السوق، أم المدير الذي يلهث وراءها؟
الفرصة بين يديك.. والأرض العُمانية مليئة بالموارد والرؤى. تذكر فقط: أن العالم يتغير، لكن المستقبل يُبنى دومًا بأفكار الجريئين.
*************
** سلسلة مقالات تحوّل المفاهيم النظرية إلى أدوات عملية، تنقلك من أساسيات التخطيط الذكي إلى فنون الصمود أمام العواصف الاقتصادية، وصولًا إلى استشراف المستقبل بجرأة، نقدم لك خلاصة الخبرة الاستراتيجية لتحول التحديات إلى فرص نمو واعدة.
ونأمل أن تكون هذه المقالات دليلًا عمليًا لكل قائد يُريد أن يصنع مستقبله بيده في السوق العُماني الواعد.
** أستاذ زائر في الكلية الحديثة للتجارة والعلوم
** وزيرة التنمية الإدارية سابقًا بسوريا
رابط مختصر