إستنفار الجهاديين و خروج الإرهابيين من السجون هل تفتح الباب أمام دعشنة الواقع السوداني؟
تاريخ النشر: 24th, August 2023 GMT
إستنفار الجهاديين وظهور كتيبة البراء بن مالك وخروج الإرهابيين من السجون هل تفتح الباب أمام دعشنة الواقع السوداني؟
الهادي محمد الأمين
(مع تزايد حدة التصعيد العسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع رمت القوات المسلحة السودانية بورقة مشتعلة في ساحة الصراع المسلح بين طرفي النزاع حيث أعلن الجيش السوداني حالة الإستنفار والتعبئة العامة وتجييش الشباب وفتح معسكرات التدريب في مناطق متفرقة بالعاصمة الخرطوم ومدن الولايات الأخري الأمر الذي أدي لتدفق المقاتلين الجهاديين الذين سبق وأن شاركوا في مسارح العمليات بجنوب السودان في عقد التسعينات من القرن الماضي في وضع يتماثل مع معسكرات الدفاع الشعبي وبما يشبه إستدعاء (الحالة الجهادية) في فترات سابقة من حكم الإنقاذ في ذات الوقت الذي ظهرت فيه عناصر كتيبة البراء بن مالك التي تستوعب جهاديو الحركة الإسلامية الذين إنخرطوا ضمن ألوية الجيش السوداني وأعلنت الحركة الإسلامية مقتل العديد من كوادرها في مقدمتهم أمين منظومة الفكر والتأصيل بالحركة الإسلامية محمد الفضل عبد الواحد عثمان الأمر الذي حرّك الكثير من الشكوك والهواجس حول طبيعة وشكل إلتحاق مقاتلي الحركة الإسلامية بصفوف القوات المسلحة كمتطوعين وهل من الممكن أن يفتح هذا التطور المفاجئ أبواب التطرف الديني وإنتقال الحرب من كونها حرب عسكرية إلي معارك ذات طابع ديني عقائدي ومن ثمّ ظهور العناصر الراديكالية والمتطرفة وصعودها علي سطح الأحداث في ظل إحتدام النزاعات المسلحة) ؟
{إصطفاف عقائدي جديد}
• تجئ هذه الهواجس والمخاوف في وقت تداولت فيه مجالس المدينة علي نطاق واسع أن هناك تحالفاً برز علي السطح بين قيادات النظام البائد التي زارت مدينة كسلا مؤخراً ومقاتلي حركة الإصلاح الإسلامي الإرتري التي يتزعمها (أبو الحارث) آدم إسماعيل وتعد الحركة أكبر فصيل جهادي مسلح معارض لنظام الرئيس إسياسي أفورقي في أسمرا ورغم أن العمليات العسكرية المسلحة لحركة الإصلاح الإسلامي الإرتري تنطلق من داخل الأراضي الإرترية حيث تتوزع معسكراتها وأماكن تمركزاتها إلا أنها إرتبطت إرتباطاً وثيقاً بشرق السودان وذلك من خلال إستقرار العديد من قياداتها في مدينة كسلا حيث كانت الحركة في وقت سابق تقاتل تحت راية حركة الجهاد الإسلامي الإرتري وظهرت مؤخراً بمسمي حركة الإصلاح الإسلامي الإرتري وتأسست داخل الحدود الشرقية لتضم عناصر مقاتلة من الجماعة السلفية ومن حركة الأخوان المسلمين ولها شبكة علاقات واسعة مع حركة الشباب المجاهدين في الصومال وقد يُشكّل هذا التحالف تطوراً جديداً وخطيراً في مسارات النزاع المسلح بالسودان بفتح جبهة قتال جديدة في شرق السودان تكون نقطة ساخنة بطابع ديني له إمتدادات محلية وإقليمية بالنظر لشكل العلاقة بين النظام البائد والحركات الجهادية سواءً الإرترية أو الصومالية ، هذا وتزعم قوات الدعم السريع أنها تقاتل حالياً كتائب المتطرفين والعناصر الراديكالية التي تحركها الحركة الإسلامية في الخفاء ومن وراء ستار وقامت بالقبض علي محمد علي الجزولي أبرز مؤيدي داعش في السودان ولم تُفرج عنه حتي الآن .
{تسخين المشهد}
• وقطعاً لا يمكن قراءة هذه التطورات بمعزل عن جملة من المستجدات في المشهد السوداني الراهن علي ضوء خروج العديد من سجناء السلفية الجهادية والقاعدة وداعش الذين كانوا محتجزين في عدد من السجون السودانية وتم إخلاء سبيلهم بعد عمليات إقتحام السجون وتحرير المعتقلين وفرار كثير من الموقوفين في سجني الهدي شمالي أم درمان وسجن كوبر العتيق بالخرطوم بحري ومن بين المعتقلين إلي جانب المتطرفين السودانيين مقاتلون من جنسيات عربية وإفريقية كانوا متورطين في تنفيذ عمليات إرهابية وكذلك خروج متطرفين مصريين كانوا يخضعون لمحاكمة أمام القضاء السوداني ومن بين أخطر العناصر التي أُخرجت من المعتقلات أبو حذيفة السوداني أحد أبرز رفقاء أسامة بن لادن وألّف أبو حذيفة السوداني في العام الماضي كتاباً حمل عنوان “الأمير المنسي” رسالة إلي “أبي مصعب الزرقاوي بلاد النهرين” يدعو فيه إلي بناء تشكيلات عسكرية وتأسيس جبهات قتال بالسودان والتخطيط لتنفيذ عمليات إرهابية وتفجيرات ضد أهداف غربية بالسودان تلاه إصدار كتاب آخر تحت عنوان “الآن جاء القتال ، رسائل حرب للمجاهدين في السودان” يحث فيه العناصر المقاتلة لمهاجمة المصالح الغربية واستهداف الوجود الأجنبي ومقاتلة الأمريكان وسبق ذلك قرار السلطات السودانية بالإفراج عن عبد الرؤوف أبوزيد أحد المدانين قضائياً بالإعدام لتورطه في حادثة إغتيال الدبلوماسي الأمريكي جون مايكل غرانفيل في مطلع العام 2008 وسجّلت واشنطن إعتراضاً علي قرار الخرطوم بإطلاق سراح عبد الرؤوف أبوزيد مؤكدة أنه لا زال مُدرجاً ضمن قوائم الإرهابيين الدوليين عاليْي الخطورة .
{جبهات قتال}
• وعلي الرغم من أنه لا توجد إحصائية رسمية ترصد وتحصر أعداد المقاتلين المتطرفين في السودان ولا أحد يستطيع أن يحدد علي وجه الدقة تأثيرهم وأمكنة وجودهم وخارطة إنتشارهم وفي أي موقع يتخندقون ؟ إلا أن واقع الحال يشير إلي وجود كثير من المقاتلين لا زالوا منخرطين في صفوف الجماعات المقاتلة سواء تحت لواء القاعدة أو تحت مظلة داعش هذا عطفاً علي العائدين للسودان من جبهات القتال في سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان ونيجيريا والصومال ومالي فضلاً عن عناصر ظلت لفترات طويلة مطلقة السراح لم تطالها حملة الإعتقالات هذا خلافاً للمتطرفين الذين يعملون تحت الأرض وفي الخفاء كخلايا نائمة لم تظهر علي السطح بعد غير أن أكثر العناصر المتطرفة ظهوراً خلال الفترة السابقة تلك التي بدأت تؤسس لـ (إرهاب الظل) و (الإرهاب الزاحف) مثل قائد الدبّابين الناجي عبد الله ومحمد علي الجزولي والناجي مصطفي والذي سبق وأن جمع عدداً من المقاتلين الملثمين قبل عدة شهور في منطقة نائية بولاية النيل الأبيض وهم يحملون الأسلحة الرشاشة وهددوا بإستهداف المُطبّعين مع إسرائيل بالسودان وتسببت هذه الواقعة في إعتقال الناجي مصطفي ومحاكمته قبيل إندلاع الحرب في الخرطوم وفي رمضان الماضي ظهرت تحركات نشطة من جماعات جهادية إتخذت الإفطارات الرمضانية مناسبة لبداية تأسيس تشكيلات ومنظومات قتالية لإجهاض الإتفاق الإطاري بحجة أنه يؤسس لسودان علماني .
{فيروس الإرهاب}
• والشاهد أن السودان وإلي وقت قريب إرتبط بالحروب الدينية والنزاعات المسلحة ذات الطابع العقائدي التي فتحت الطريق أمام بروز التطرف والإرهاب وظهور الفصائل الجهادية مما أدي لوضع السودان في اللائحة السوداء وتصنيفه كدولة راعية للإرهاب ومهددة لدول الجوار الإفريقي وللأمن الإقليمي بالمنطقة منذ العام 1997 فعقب قيام الإنقلاب العسكري الذي نفذته الجبهة الإسلامية القومية في العام 1989 بدأت حركة التجييش و(الجَهْدَنة) والتعبئة والإستنفار وفتح معسكرات التدريب من خلال ما يعرف بقوات (الإحتياط) أو (القوات المساندة) و (المليشيات المسلحة) وتطورت هذه المسارات خلال حرب الجنوب في عهد الإنقاذ إلي قوات الدفاع الشعبي من خلال (قيادة قوات الدفاع الشعبي) كمظلة عسكرية و (المنسقية العامة للدفاع الشعبي) كمظلة شبه عسكرية وتولدت في ذلك الوقت أدبيات الجهاد (زاد المجاهد ، خلافة المجاهد ، أعراس الشهيد) علاوة علي شعارات وهُتافات القتال وظهور دعايات وروايات أقرب للأساطير منها إلي الحقيقة علي شاكلة أن الملائكة تقاتل مع المرابطين في الثغور وكذلك زفاف القتيل إلي الجنة ليتزوج من الحور العين وما يصاحب ذلك من ثقافة الإنشاد الحماسي (الأناشيد الجهادية) المستوحاة من أشعار أقطاب الأخوان المسلمين كـ (سيد قطب ، يوسف القرضاوي وعمر النامي) فهذه الأشعار كانت تعمل علي شحن وتهييج العاطفة الدينية وتُغذّيها بالحماس وشكلت الزاوية أو الركيزة التي تأسست عليها فكرة الألوية وفلسفة الكتائب الجهادية والفصائل المقاتلة وهي جزء من الفكرة العامة لحركة الأخوان المسلمين المُعتمِدة علي الأجنحة العسكرية والمُتناسِلة من الأجهزة الأمنية السرية التي أسسها زعيم الأخوان المسلمين حسن البنا وأسندت قيادتها لعبد الرحمن السندي .
{سودنة التطرف}
• وإتجهت الإنقاذ خلال فترة حكمها إلي توطين وسودنة شعارات الجهاد وتحويل القتال ضد الحركة الشعبية بجنوب السودان إلي حرب دينية بحجة أن الحركة الشعبية تستمد سندها الإقليمي والعالمي من المؤسسات الكنسية والنصرانية ومن ثمّ اتخذت الحرب طابعها الديني وظهرت قيادات سياسية ومدنية عرفت بـ (المجاهدين) وتوسعت الظاهرة عبر عدد من المسميات كـ (الدبابين ، الطيارين والقوات الخاصة والمرابطين) وقد تمازج وتلاقح المكون المحلي الذي أفرزته سياسات الإنقاذ بوجهها الآيدلوجي المتشدد مع المكون الخارجي من خلال إستقبال واستقطاب الخرطوم لما كان يعرف وقتها بـ (المجاهدين العرب) بقايا حركة الجهاد الأفغاني الذين تدفقوا نحو السودان بعد أن عمِدت الحكومة السودانية برئاسة عمر البشير بانتهاج (سياسة الباب المفتوح) وسمحت هذه السياسة بدخول أسامة بن لادن وجيشه وقيادات الجماعات الإرهابية مثل أيمن الظواهري بالإستقرار في العاصمة الخرطوم حيث طاب لهم المقام وتم تأسيس تيار أصولي متشدد تحت مسمي (المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي) وتحولت الخرطوم وقتها لنقطة لتجميع المقاتلين الأفغان حول العالم ليجدوا المأوي والملاذ الآمن ليتم وقتها تشكيل جبهة قتال واسعة تضم العناصر السودانية مع الكوادر المقاتلة القادمة عبر الحدود ومن مختلف الجنسيات وحدوث تزاوج أسس لأول جبهة قتال عالمية شكلت النواة الأولي لتنظيم القاعدة وهي (الجبهة الإسلامية المُقاتِلة) حيث وقعت حينها العديد من الحوادث الإرهابية في مقدمتها مجزرة مسجد الثورة الحارة الأولي بأم درمان في العام 1994 والتي نفذها عبد الرحمن الخليفي أحد طاقم الحراسة المكلفة بتأمين أسامة بن لادن فمحاولة إغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك أثناء إنعقاد أعمال قمة منظمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا في العام 1995 وكذلك تفجيرات سفارتي أمريكا في نيروبي ودار السلام خلال العام 1998 وفي الخرطوم وقعت حادثة إغتيال الدبلوماسي الأمريكي جون مايكل غرانفيل مطلع العام 2008 ثم محاولة إغتيال رئيس الوزراء الأسبق عبد الله حمدوك في مارس 2020 وإنكشاف الخلايا الإرهابية في عدد من مناطق الخرطوم والتي تسببت في مقتل 5 من جنود وضباط مكافحة الإرهاب إلي جانب مقتل 7 من الإرهابيين في سبتمبر وأكتوبر 2021 ثم ظهور فتاوي دينية تجيز إغتيال رئيس بعثة اليونتامس بالسودان فولكر بيرتس .
{النقطة السوداء}
• وعوداً علي بدء فإن التطرف الديني في السودان تزاوجت فيه السلفية الجهادية مع حركات الإسلام السياسي والقاعدة وداعش إضافة إلي التأثر بأدب وفلسفة الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني وهذه الإصطفافات يستفزها التحدي الأمني والعسكري ممثلاً في الوجود الأجنبي علي صعيده المسلح كـ(القوات أممية ، حفظ السلام والمراقبة ، قوات هجين متعددة الجنسيات) وكذلك التدخلات الأجنبية العسكرية كما هو الحال في العراق ، أفغانستان والصومال علي سبيل المثال علي الرغم من أن إرهاب حركات الإسلام السياسي يختلف في (لونيته وبصماته) عن إرهاب القاعدة وداعش بيد أن الظروف والتحولات قد تعمل علي توليد الإرهاب من جديد له طبعة مختلفة مثل الحالة السودانية في وقتها الراهن من خلال ما يعرف بـ (مناخ البيئات المتأزمة) و (ظروف الإنتقال) من واقع حكم عمر البشير إلي واقع إنتقالي آخر بعد إندلاع الثورة السودانية 2019 ثم عهد الفترة الإنتقالية بحكوماتها المختلفة التي إنتهت بإنقلاب البرهان في العام الماضي ثم ظهور النزاع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع مؤخراً وهي مرحلة (العوامل المحفزة) و بروز (العوامل الكامنة) التي تفرّخ التطرف الديني والإرهاب من خلال ظهور الشبكات أو التشكيلات المسلحة وهو ظهور يحمل العديد من أنماط ونسخ الإرهاب كـ (إرهاب الظل ، إرهاب الجزر المعزولة وإرهاب الذئاب المنفردة) ويجعل من السودان (بؤرة مشتعلة) ودولة مقر للإرهاب وممراً للإرهابيين ونقطة ساخنة مشتعلة ذات إحتراق داخلي وخارجي تجعل السودان واقعاً ضمن الطوق أوالشريط الجهادي بدءاً من حركة الإصلاح الإرتري في إتجاه الشرق وحركة الشباب المجاهدين في القرن الإفريقي وإتصالاً بحركة بوكو حرام في نيجيريا وتشاد هذه بالإضافة إلي الجماعات الإرهابية في غرب ووسط إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء .
نقلاً عن باج نيوز
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
إقرأ أيضاً:
مدن سودانية تنهض من رماد الحرب والخرطوم تتراجع
في وقت ينهار فيه قلب السودان، تقف مدن أخرى على هامشه لتعلن عن صعود جديد يُعيد رسم الخارطة الجغرافية للنفوذ الاقتصادي والعمراني. الخرطوم، العاصمة التي كانت ترمز إلى مركز القرار والسيطرة، تشهد انحسارا مدمرا بفعل الحرب التي اندلعت قبل أكثر من عامين، تاركة خلفها فراغا سكانيا ومؤسساتيا، في حين تنمو على أطراف المشهد مدن مثل بورتسودان وعطبرة والقضارف وشندي والدبة، لتتحول إلى حواضن بديلة للدولة والاقتصاد والمجتمع.
هذا التقرير يرصد تحولات هذه المدن في ظل الانهيار المتسارع للعاصمة، ويستعرض كيف بات الهامش مركزا مؤقتا وربما دائما.
مدينة بورتسودان، المعروفة بـ"دُرّة الشرق"، تقع على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وقد شهدت تغييرات عميقة منذ اندلاع الحرب في الخرطوم. حيث تحولت المدينة إلى مركز إداري بديل للحكومة، وأصبحت ملاذا للنازحين والفارين من مناطق الصراع، ومقصدا للعابرين بحرا وجوا.
كما جذبت المدينة المستثمرين ورجال الأعمال الذين نقلوا إليها نشاطهم التجاري، وأصبحت مقرا للمنظمات الدولية والإنسانية والسفارات الأجنبية.
ويُعدّ مطار بورتسودان الدولي الآن المنفذ الجوي الوحيد الذي يربط البلاد بالعالم الخارجي، مما ضاعف من أهميته الاستراتيجية. أما الميناء البحري الوحيد في السودان، فقد اكتسب بدوره أهمية اقتصادية متزايدة منذ إنشائه في أوائل القرن الماضي، وأصبح أحد أركان الاقتصاد الوطني في ظل انقطاع العاصمة.
وفي ظل هذا الانتعاش، شهد القطاع العقاري في المدينة تضخما كبيرا في الأسعار، حيث تضاعفت إيجارات العقارات بشكل جعلها بعيدة المنال عن أصحاب الدخل المحدود، مما أدى إلى ظهور تفاوتات اقتصادية بين الوافدين الجدد والسكان الأصليين.
عطبرة وشندي والقضارف.. صعود صناعي وزراعي وعمرانيفي شمال السودان، برزت مدينة عطبرة -التي تُعرف بـ"مدينة الحديد والنار"- كواحدة من أبرز المدن التي نهضت بوتيرة متسارعة.
إعلانعطبرة التي كانت مركزا تاريخيا للسكك الحديد، استفادت من موقعها الجغرافي عند تقاطع الطرق القومية بين الخرطوم وبورتسودان وحلفا، ومن تدفق رؤوس الأموال الهاربة من مناطق النزاع، خاصة تلك العاملة في قطاع التعدين الأهلي للذهب.
وانتقل إلى المدينة عدد كبير من العمالة التي كانت تعمل في القطاعات غير المنظمة، وارتفع عدد السكان من نحو 75 ألفا إلى نحو مليوني نسمة، وفقا لما صرّح به علي عسكوري، المسؤول السابق في وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، لموقع الجزيرة نت.
وقال عسكوري: "في كل مكان في عطبرة ترى العمارات ترتفع، والمراكز التجارية تنمو، والشركات والمناطق الصناعية تتسع". وقد رافق هذا التوسع نمو في سوق الذهب، حيث أصبحت ولاية نهر النيل (التي تنتمي إليها عطبرة) مع ولاية البحر الأحمر تنتج نحو 70% من الذهب في السودان، بعد انتقال مصفاة الذهب إليها وبناء برج خاص بسوق الذهب.
أما في شرق السودان، فقد جذبت ولاية القضارف -التي تُعد من كبريات مناطق الإنتاج الزراعي- رؤوس أموال ضخمة وكبريات الشركات، حيث شُغّل نحو 32 مصنعا في مجالات متنوعة، مما أسهم في تقليص الفجوة الغذائية، وتوفير فرص عمل واسعة للشباب والعمالة في المجالات الحرفية والمهنية.
وقد أدى توافد المستثمرين إلى انتعاش سوق العقارات وارتفاع أسعار الإيجارات، لا سيما في سوق القضارف والسوق العمومي والمحال التجارية، إلى جانب تحسن ملحوظ في القوة الشرائية ومعدل الدخل، رغم تصاعد البطالة والتضخم في بقية مناطق السودان.
وفي مدينة شندي الواقعة شمالي الخرطوم، استقرت عشرات المصانع التي غادرت العاصمة بعد الحرب. وقد خصصت المحلية مدينة صناعية متكاملة استوعبت هذه المصانع، بحسب ما أوضح المدير التنفيذي لمحلية شندي، خالد عبد الغفار، للجزيرة نت.
وتشمل الصناعات الجديدة في شندي إنتاج المواد الغذائية، والكراسات، والمياه المعدنية، والعصائر، والشاي، والصابون، واللحوم، بالإضافة إلى صناعات البلاستيك والعطور والأواني المنزلية، ومعدات الكهرباء، والسباكة، وتعليب الخضروات، وتجفيف البصل.
كما خصصت شندي مواقع لمعارض السيارات التي كانت تتركز سابقا في الخرطوم، وسوقا جديدا لمواد البناء، إلى جانب انتقال تجارة الأحذية والملابس والعطور من سوق سعد قشرة الشهير في بحري إلى أسواقها. وتشير بيانات محلية إلى أن عدد سكان شندي تضاعف أكثر من 5 مرات، وارتفعت إيجارات السكن والمتاجر بدرجة غير مسبوقة.
وفي شمال السودان، تحولت مدينة الدبة الواقعة على منحنى نهر النيل إلى ميناء بري ضخم، وأصبحت مركزا حيويا يربط بين الأقاليم الشمالية والغربية والشرقية.
تُستقبل في المدينة السلع والبضائع القادمة من المثلث الحدودي مع مصر وليبيا، بالإضافة إلى الواردات القادمة من مصر مباشرة.
وباتت المدينة نقطة توزيع مركزية للسلع إلى ولايات دارفور وكردفان، كما أصبحت ملتقى للنازحين الذين هربوا من تدهور الأوضاع الأمنية والخدمية في تلك الأقاليم، بحثا عن الاستقرار والتعليم والخدمات الصحية لأطفالهم.
إعلانوقد ارتفع عدد سكان الدبة من نحو 50 ألفا إلى أكثر من 500 ألف نسمة خلال عامين فقط، مما جعلها تتحول من مدينة صغيرة إلى مركز اقتصادي ناشئ. ويُعزى ذلك إلى موقعها المفتوح على الصحراء، مما سهّل تحوّلها إلى نقطة عبور لسلع التصدير من كردفان ودارفور نحو بورتسودان أو شمالا نحو معبر أرقين الحدودي مع مصر.
التحولات العميقة التي تشهدها مدن مثل بورتسودان، وعطبرة، والقضارف، وشندي، والدبة لا تمثل مجرد رد فعل ظرفي على الحرب الدائرة في الخرطوم، بل تكشف عن إعادة توزيع حقيقي للثقل السكاني والاقتصادي في البلاد.
هذه المدن أصبحت في غضون عامين فقط محاور جديدة للنمو والعمران، واستوعبت موجات النزوح والاستثمار التي كانت تتركز سابقا في العاصمة.
لكن يبقى التساؤل الجوهري: هل سيقود هذا الصعود إلى تغيير دائم في الجغرافيا السياسية والاقتصادية للسودان؟ أم أنها لحظة طارئة ستتبدد مع نهاية الحرب؟ الأكيد أن واقع ما بعد الخرطوم لن يشبه ما قبلها، وأن المدن التي كانت على الهامش باتت تمتلك الآن مفاتيح جديدة لمستقبل البلاد.