في عالم يتشكل من جديد تحت وطأة التحولات الجيوسياسية الكبرى، يبرز التقرير الإستراتيجي العربي لعام 2024 الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية كأداة تحليلية فريدة. هذا التقرير الذي حمل عنوان "2024: شهادة على زلزال التحولات الكونية" ليس مجرد وثيقة بحثية، بل هو تشريح دقيق لنظام عالمي ينهار وآخر يولد على أنقاضه.

يقدم التقرير رؤية متكاملة للتحولات التي تهز أركان النظام الدولي، من صعود آسيا كقوة اقتصادية وسياسية إلى تراجع النموذج الليبرالي الغربي، مع تركيز خاص على تداعيات هذه التحولات على المنطقة العربية ومصر كفاعل إقليمي رئيسي.

صعود الشرق وترنح الغرب

يكشف التقرير عن تحول جوهري في موازين القوى العالمية، حيث لم يعد الصعود الآسيوي مجرد انتقال للثقل الاقتصادي، بل تحولاً في مفهوم القوة ذاته. فالصين، التي أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لم تكتف بهذا الإنجاز الاقتصادي، بل قرنت ذلك بتطوير قوتها العسكرية وسعيها لحسم النزاعات الإقليمية لصالحها، كما هو الحال في بحر الصين الجنوبي . هذا التحول يشكل تحدياً مباشراً للهيمنة الأمريكية، حيث بدأت واشنطن تنظر إلى التحركات الصينية على أنها محاولة للهيمنة على شرق آسيا وإضعاف النفوذ الأمريكي هناك .

أزمة النموذج الليبرالي الغربي

يوثق التقرير أزمة عميقة يعيشها الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، حيث تتعارض الإرادة الشعبية مع آلة الهيمنة التقليدية. فبينما يعيد ترامب إنتاج الشعبوية كرد فعل على غياب المشروع الاستراتيجي الموحد، تستمر المؤسسات العميقة في الحفاظ على سياسات الهيمنة التقليدية. هذه المفارقة تذكرنا بمراحل انهيار الإمبراطوريات الكبرى، حيث تبدأ بالانهيار من الداخل قبل أن تظهر علامات الضعف للعالم الخارجي .
يرصد التقرير حالة الجمود التي تعيشها الأزمات العربية، حيث فشلت الحلول السياسية وجهود الأمم المتحدة في تحقيق تقدم ملموس، بينما استمرت التفاعلات العسكرية دون حسم واضح. هذا الجمود يعزى إلى كثرة التدخلات الخارجية التي تتبع كل منها أجندة خاصة لا تتوافق بالضرورة مع حل الأزمات . في سوريا مثلاً، استمر الصراع في منطقتي إدلب وشرق الفرات كتجسيد للمصالح المتضاربة للقوى الدولية والإقليمية .
يخصص التقرير حيزاً كبيراً لتحليل دور مصر في هذه البيئة الإقليمية المضطربة. فمصر لم تعد مجرد دولة عادية، بل تحولت إلى "معمل تجارب لتوازنات مستحيلة" – قاطرة أمنية تتحرك على سكك الاقتصاد الهش، تحاول الحفاظ على الاستقرار الإقليمي بينما تعيد تعريف دورها في عالم لم يعد الغرب يهيمن على مفاهيمه وقيمه .

العدالة الدولية: بين المثال والواقع

يكشف التقرير عن تناقض صارخ في نظام العدالة الدولية، حيث تحولت محكمة الجنايات الدولية إلى ساحة للصراع الجيوسياسي بدلاً من أن تكون منصة للعدالة. فبينما تدان إسرائيل لفظياً بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، تمارس الولايات المتحدة وصايتها الفعلية على القانون الدولي، مما يكشف زيف أسطورة "المجتمع الدولي" التي أخفت لعقود هيمنة القوة على الحق .
ما يميز التقرير الاستراتيجي العربي هو منهجيته الفريدة التي تجمع بين عمق المؤرخ وحدس المحلل الاستراتيجي. فالبيانات الجافة تتحول إلى سرديات حية، والأرقام تقرأ كرموز ثقافية، والخرائط تفسر كلوحات لفناني الكوارث الجيوسياسية. هذه العبقرية التحليلية تجعل من التقرير ليس مجرد تحليل للأحداث الجارية، بل أداة لفهم التحولات العميقة التي تشكل عالمنا .

بين نهاية نظام وولادة آخر

يتركنا التقرير أمام سؤال وجودي: هل نحن أمام نهاية النظام العالمي الحالي أم ولادة نظام جديد من الفوضى المنظمة؟ الإجابة التي يلمح إليها التقرير تشير إلى أننا قد نكون على أعتاب عصر جديد من "حرب الجميع ضد الجميع"، لكن هذه المرة بأسلحة حديثة مثل البيانات والتحالفات السائلة والهويات المائعة .
في النهاية، يثبت مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية برئاسة الدكتور أيمن عبد الوهاب ، من خلال هذا التقرير- الذي يرأس تحريره الدكتور معتز سلامه، ومدير التحرير الدكتور حازم محفوظ- أنه ليس مجرد مركز أبحاث، بل حارس للأسئلة الكبرى في زمن يحاول الكثيرون فيه تسويق الإجابات الجاهزة. التقرير ليس مجرد تحليل للعام 2024، بل هو دليل تشغيل لعالم فقد دليله، ومحاولة جادة لفك طلاسم مرحلة انتقالية معقدة، حيث تموت العقائد السياسية القديمة قبل أن تكتمل ولادة البدائل .

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية المزيد لیس مجرد

إقرأ أيضاً:

التعلُّم واكتساب المهارات.. سلاح في عالم مُتغيِّر لا يرحم

 

 

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

 

جاء إعلان الأمم المتحدة عن أهداف التنمية المستدامة الـ17 بهدف تخليص العالم من المشكلات التي يعاني منها، خاصة تلك المجتمعات التي تعاني من الفقر والبطالة وتدني مستوى التعليم والصحة، خاصةً الدول التي عانت من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، ودخلت في صراعات مسلحة داخلية أو خارجية.

هذا الإعلان الأممي بمستهدفاته السبعة عشر، وخلال خمسة عشر عامًا، مثَّل فرصة لتلك الدول التي ترغب في التخلص من مشاكلها، وهناك عديد الدول التي استفادت من البرامج التنموية التي رافقت هذا المشروع، خاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا.

الهدف الرابع بالتحديد والمتمثل في "ضمان التعليم الجيد والمنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعليم للجميع مدى الحياة"، يُعد من بين الأهداف المهمة التي جاءت في مصفوفة التنمية المستدامة، واعتبرُ هذا الهدف هو الركيزة الأساسية لتحقيق بقية الأهداف لما يمثله من نقطة ارتكاز يمكن البناء عليها، والارتباط المباشر مع باقي الأهداف، وأهمية أن تبدأ التنمية الحقيقية من خلال توفير التعليم والتدريب الجيد ليكون التغيير مبنيًا على أساس صلب وفعال، ولذلك جميع التجارب الناجحة للاستفادة من هذا البرنامج الأممي انطلقت من ملف التعليم وعلى سبيل المثال لا الحصر رواندا؛ حيث بدأت التغيير من خلال منظومة التعليم.

ما دفعني للحديث عن هذا الأمر في الحقيقة هو ما تابعته وتابعه الجميع خلال الفترة الماضية في قضية المُسرَّحين عن العمل وملف الباحثين عن عمل كذلك، وهذا الأمر جعلني أطرح تساؤلات عديدة في ذهني؛ وهي: هل أنتج تعليمنا وثقافتنا وأسلوب حياتنا أفرادًا لا يؤمنون إلّا بالوظيفة؟ وهل هم غير قادرين على التكيُّف مع التغييرات التي تحدث ومنها احتمالية فقدانهم للعمل؟ وهل نحن جميعًا في مأمن من فقدان أعمالنا في أي لحظة؟ وإذا حدث ذلك، فما الحلول التي لدينا وكيف سنتعامل مع الوضع؟

عديد الأسئلة التي لا توجد إجابات لها، ولا ألومُ فيها أحدًا؛ فالسائد في المجتمع يصبح واقعًا حتميَّ القبول!!

لم يكن العُماني في أي يوم وأي مرحلة من مراحل التاريخ الماضي والحاضر، سوى إنسان مُثابر ومُتقبِّل ومُتكيِّف لكل الظروف، ومُتسلِّح بالمهارات والمعرفة ولديه قابلية للتماشي مع الظروف المختلفة، وما زال العُماني صاحب همَّة عالية ولا يقبل أن يكون عالةً على الآخرين، ويرفض إلّا أن يكسب من عمل يده، غير منتظر للإحسان، وهو قادر على العمل. هكذا كان الآباء قبل وجود الوظيفة وهكذا سوف يستمر الأبناء، ومهما كانت الظروف والأسباب فهذه السمات لا تتبدل في شعب عرف عنه الجد والاجتهاد.

وعودٌ على بدء.. علينا أن نبحث ونناقش ونتحدث بصوت مسموع: هل أنتج تعليمنا أفرادًا بمهارات القرن الواحد والعشرين؟

هذا التساؤل جدير بتغيير واقع التعليم بشقيه حتى نتجنب الوقوع في التحديات التي تكلفنا الكثير لعلاجها إن كانت الإجابة لا، وإذا كان غير ذلك فعلينا التحسين والتطوير؛ لأن سباق الزمن هو التحدي الحقيقي والأكبر في عالم متسارع متغير لا يكف عن التجديد في كل لحظة، ووسط هذا التطور الهائل والسريع في التكنولوجيا فإن المواكبة ليست خيارًا؛ بل هي إلزام وطريق لا مهرب منه، وما زال هناك وقت ولدينا كلّ الأدوات اللازمة للتحول والتغيير والمنافسة.

إنَّ التحديات التي تنتظر الأجيال كبيرة جدًا، واجتيازها يتطلب الاستعداد الجيد لها، والعيش مع أفكار قديمة لا يساعد الفرد على التفاعل الإيجابي مع الواقع؛ إذ لم تعُد الوظيفة هي الضمان الوحيد الذي يمكن للفرد أن يحققه ويعيش حياته بشكل مستقر وسليم، ومع التغييرات التي تحدثت عنها مُسبقًا، حتى بنية الوظائف ونوعها سوف تتغير. واليوم نشاهد نمو شركات تدار بالفرد الواحد أو مجموعة بسيطة دون وجود مقر لها، وهناك وظائف سوف تختفي وسوف تظهر غيرها، ومن أجل التمكن من العيش في هذا العالم يجب أن يتسلح الفرد بخاصيتين مهمتين وهما القدرة على التعلم الذاتي، والقدرة على اكتساب المهارات.

لقد تخطى العالم فكرة الشهادات العلمية وخاصة عالم المال والاقتصاد، وأصبحت الشركات الكبرى تتنافس في استقطاب الفرد متعدد المهارات والكفايات، هذا الفرد الذي يمكنه تحقيق عوائد ونتائج أفضل، وينمو بالأعمال بشكل أفضل وأسرع، وهي خصائص مهمة في عالم الأعمال، لذلك من الحكمة أن يفكر شبابنا في هذا الجانب بشكل جديٍّ، خاصة وأن عملية التعلم والتدريب لم تعد صعبة في وجود التكنولوجيا الحديثة، ولا يتطلب الأمر من الفرد سوى مهارات التعامل مع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ليستفيد مما فيها من مميزات، فالتعليم والتدريب عن بعد متوفران وفي جميع المجالات، والمؤسسات التعليمية الرائدة أصبحت متاحة للجميع، وهذه ميزات لم تكن موجودة سابقًا.

إنَّ التقوقع وانتظار الفرص والزمن يمُر، لن يُغيِّر من واقع الإنسان شيئًا، والركون إلى ما سوف يُقدَّم إليك من فرص لا يجعلك مُميزًا عن غيرك، وسوف تكتشف بعد فوات الأوان أنك أهدرت الوقت، وكان بالإمكان القيام بأمر يُغيِّر من واقعك وحالك. وهذه ليست دعوة لعدم البحث عن فرصة وظيفية، وإنما نافذة لفكرك لعلها تكون سببًا في صياغة مستقبل أفضل لكل باحث عن عمل، والخيار لك: هل تريد الانتظار أم التحرك نحو أهدافك، واكتشاف قدراتك ومهاراتك وتنميتها، لتفتح لك باب النجاح؟!

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • خرطوش في شريان الفخذ.. التقرير الطبي الأولي لجثمان بطل السباقات الدولي هيثم سمير
  • شيخ الأزهر: عالم اليوم يمر بظروف حرجة وأزمة أخلاقية عاصفة
  • أنس الشريف:رحيل الصوت وخلود الصدى
  • بعد إخلاء سبيلها| مفاجأة في التقرير الشامل بحجم المعاملات المالية للبلوجر لوليتا
  • إعدام 300 ألف بيضة و170 ألف طن صادرات.. التقرير الأسبوعي لـسلامة الغذاء
  • النقابة التونسية تدفع ثمن خياراتها السياسية
  • الحديث عن حرب أهلية مجرد حكي صالونات
  • تعلن محكمة جنوب الأمانة بصورة من التقرير النهائي للمكلف بالتثمين الى المنفذ ضده/ نصر الجهيم
  • التعلُّم واكتساب المهارات.. سلاح في عالم مُتغيِّر لا يرحم
  • برشلونة يعيد شارة القيادة لشتيغن بعد توقيعه على التقرير الطبي