في ظل استمرار الحرب في السودان لعامين كاملين، وتفاقم الأزمة الإنسانية التي وصفها الاتحاد الأوروبي بأنها «الكبرى في القرن الحادي والعشرين»، ينظر السودانيون بشيء من الأمل إلى مخرجات مؤتمر دولي يعقد في لندن، الثلاثاء، دعت إليه بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بمشاركة وزراء خارجية 20 دولة، لبحث سبل إنهاء الصراع في السودان، ومساعدة ملايين من المشردين السودانيين، في داخل البلاد وخارجها.

ورغم أن السلطات البريطانية استثنت أطراف النزاع السوداني من المشاركة، فإن وفداً من تحالف «صمود» (أكبر تجمع للأحزاب والقوى المدنية السودانية)، الذي يقوده رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك، يزور العاصمة البريطانية منذ أيام، للالتقاء بالمشاركين في المؤتمر، وتقديم مقترحات تساعد في الوصول إلى صيغة، تدفع في اتجاه السلام والاستقرار في السودان، وممارسة مزيد من الضغوط الدولية على الأطراف لوقف الحرب، وتقديم الدعم اللازم لمواجهة الكارثة الإنسانية التي تعيشها البلاد.

القيادي في «صمود»، وزير شؤون الرئاسة في حكومة حمدوك السابقة، خالد عمر يوسف، تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن أهداف الزيارة، والاستراتيجيات المطروحة، وتطلعات التحالف لإحلال السلام. كما تحدث عن آخر التطورات في السودان، مؤكداً وجود تواصل مستمر بين تحالفه وطرفي النزاع؛ قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وخصمه قائد «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي)، كما أكّد وجود تواصل مع إدارة الرئيس دونالد ترمب، في مسعى لإنهاء الحرب في السودان.

يؤكد يوسف أن مؤتمر لندن يمثل خطوة إيجابية لتوحيد الجهود الدولية، خاصة مع ضعف الاهتمام العالمي بالأزمة، رغم حجم الكارثة. ويشير إلى أن الأمم المتحدة تحتاج إلى 6 مليارات دولار لمواجهة الاحتياجات الإنسانية في 2025، لكن لم يتم جمع سوى 4 في المائة من المبلغ حتى مارس (آذار) الماضي. وقال: «حضورنا إلى لندن يهدف أيضاً إلى التواصل مع السودانيين في بريطانيا لتوحيد مطالبهم، ومع الوفود المشاركة في المؤتمر لعرض أفكار محددة، مثل إيجاد آلية تنسيق بين المجتمع الدولي، تعمل بصفة دائمة، لمعالجة الأزمة الإنسانية وتسريع جهود السلام».

مقترحات «صمود» للحلول العاجلة
كشف يوسف عن محاور المقترحات التي قدّمها التحالف، والتي تضمنت عقد اجتماع مشترك بين مجلس الأمن الدولي ومجلس السلم الأفريقي لاتخاذ إجراءات لحماية المدنيين وضمان وصول المساعدات، وعقد مؤتمر آخر للمانحين لسدّ الفجوة التمويلية للإغاثة، وتقديم الدعم اللازم لمواجهة الكارثة الإنسانية التي تعيشها البلاد، وإطلاق حوار سياسي برعاية أفريقية؛ الاتحاد الأفريقي ومنظمة «إيغاد»، المعنية بالسلام في القرن الأفريقي، مدعومٍ من مجموعة تنسيق دولية. إضافة إلى صنع حزمة ضغوط على طرفي الحرب، لوقف إطلاق النار فوراً، تمهيداً لحوار سياسي تحت رعاية أفريقية، وبدء التخطيط لإعادة الإعمار حتى قبل انتهاء الحرب.

ويقول يوسف، الذي يشغل في ذات الوقت منصب نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» من لندن، إن رئيس «صمود» د. عبد الله حمدوك أرسل رسالة بالمقترحات المذكورة لوزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، وعبره إلى المشاركين في المؤتمر.

مبادرة جيدة في وقت مفصلي
وصف يوسف اجتماع لندن بأنه «مبادرة جيدة للغاية أتت في وقت مفصلي».

وأوضح أن الكارثة الإنسانية الناتجة عن الحرب تقع على قمة القضايا الأولويات التي سيبحثها وفده مع أعضاء المؤتمر. وتابع: «مجرد عقد المؤتمر بهذا المستوى الرفيع أمر مهم، يمكن العالم من الإسهام في القضايا الرئيسية وقضية إحلال السلام في السودان».

وقال: «الحرب أثّرت على كل ولايات البلاد، وخلقت حالة من عدم الإحساس بالأمان، طالت حتى الولايات التي لا تشهد مواجهات عسكرية مباشرة، وهو أمر لا يمكن تفاديه إلا باتفاق ملزم للطرفين بوقف إطلاق النار، والامتناع عن أي أفعال عسكرية، سواء أكانت هجوماً برياً أم جوياً أم غيره، لذلك ندعو لندن إلى تبني حزمة ضغوطات على طرفي القتال».

انقسام المجتمع الدولي
وعند سؤاله عن ضعف الاهتمام الدولي، مقارنة بأزمات مثل غزة وأوكرانيا، وسوريا ولبنان، والانقسام الدولي حول التطورات في السودان، يجيب يوسف: «الحلّ يجب أن يبدأ من السودانيين، وتقع على عاتقهم المسؤولية الرئيسية». وأوضح أن «الانقسام الإقليمي والدولي المحيط بنا يزيد من تعقيد الأزمة، ويصعب على السودانيين الحلول، لذلك تواصلنا مع المجتمع الدولي ليسهل إيجاد حلول للأزمة وألا يعرقلها، وهذا هو الأساس في تواصلنا مع الأسرة الدولية». ويضيف: «الحرب لم تعد تهدد السودان فقط، بل أصبحت خطراً على أمن المنطقة، خاصة مع انتشار الجماعات الإرهابية في بعض دول الجوار».

خطر الإرهاب
وتابع: «ليس من مصلحة السودانيين والمجتمعين الإقليمي والدولي استمرار الحرب، فقد وضح الآن أنها تجاوزت كونها حرب سودانية داخلية، وبدأت تؤثر على الأمن والاستقرار في دول الجوار، وبدأت تتطور إلى حروب ونزاعات مماثلة في دول الجوار، مهددةً السلم والأمن الإقليمي والدولي».

وحذّر القيادي في تحالف «صمود» مما أسماه «تزايد الأنشطة الإرهابية داخل السودان»، ومن تأثيراته على المنطقة التي وصفها بأنها «حساسة للغاية»، وقال: «السودان يتصل بأكثر من إقليم استراتيجي؛ القرن الأفريقي، الساحل والصحراء، البحر الأحمر، شمال أفريقيا. لذلك فإن الحرب ليست مهددةً للسودانيين وحدهم، بل هي مهدد إقليمي ودولي، ومن مصلحة الأسرة الدولية وقفها».

دور أميركي في عهد ترمب
وحول التواصل مع الإدارة الأميركية الجديدة، أبلغ يوسف «الشرق الأوسط» أن تحالفه على اتصال مع إدارة الرئيس دونالد ترمب، بقوله: «لدينا اتصالات مع الأميركان، ونأمل أن تطور إدارة الرئيس دونالد ترمب رؤية واضحة لكيفية مساعدة السودانيين في إنهاء الحرب».

وأبدى يوسف أمله في أن تشمل جهود الإدارة الجديدة، العاملة على إسكات صوت البنادق حول العالم، السودان، وأن تبذل جهوداً مماثلة لوقف الحرب في السودان.

وأضاف: «للإدارات الأميركية المتتالية مواقف إيجابية تجاه السودانيين، فقد ظلت تعمل على إيجاد حلول تفاوضية منذ اتفاق السلام الشامل في (نيفاشا)، ونحن نأمل في دور أميركي في ظل إدارة الرئيس ترمب يسهل جهود السلام».

بصيص أمل رغم الدمار
أبدى يوسف تفاؤله بوقف الحرب، وقال: «لم نفقد الأمل في عودة الحكمة والتعقل لأهل الشأن، فالحرب أدّت إلى جرائم ضخمة في حق المدنيين، وتنذر بتفتيت البلاد، ووصلت مرحلة اللاعودة»، وأضاف: «نأمل أن ينبذ السودانيون العنف ويلجأوا لحل الخلافات عبر الحوار والسبل السلمية لإدارة تبايناتهم، وليس عبر البندقية».

وأرجع يوسف تفاؤله بنهاية الحرب إلى ما أسماه «تزايد واتساع قاعدة المؤمنين بالحلول السلمية باضطراد»، وقال: «هناك حوار وعمل مدني وتمسك بالحلول السلمية السودانية، لتعزيز جهود إنهاء الحرب في أقرب وقت».

تهديد وحدة البلاد
وعدّ يوسف الانقسامات العميقة بين السودانيين التي أحدثتها الحرب «أكبر خطر يواجه وحدة البلاد»، بموازاة مخاوف من تقسيم السودان، بقوله: «هناك استقطاب حاد بين مكونات اجتماعية عديدة في البلاد، سيخلق بيئة خصبة لمشروعات تفكيك السودان»، وتابع: «ظللنا نتحدث عنها قبل اندلاع الحرب، بأنها سيناريوهات قد تقود إلى تفتيت السودان، واستمرار الحرب سيؤدي إلى تفتيت البلاد، ويهدد وحدتها وتماسكها»، ورأى أن الوقف الفوري للقتال والانخراط في حوار جدي بين السودانيين هو الطريق الوحيد للحفاظ على وحدة السودان وسيادته.

الحرب هدفها وقف التحول المدني
رداً على حملات استهداف المدنيين الرافضين للحرب في تحالف «تقدم» سابقاً، و«صمود» حالياً، قال يوسف إن «الحرب في الأصل هي ضد التحول المدني الديمقراطي وقوى ثورة ديسمبر (كانون الأول) المجيدة، لذلك يستهدف دعاته وقوى الثورة»، وأضاف: «هناك قوى نشطة تستخدم الحرب لقبر آمال السودانيين في التحول الديمقراطي، واستهداف كلّ من ظلّ متمسكاً بهذه القيم».

وقال إن من أطلق عليهم «قوى الحرب والاستبداد» يرون في التحالف المدني خطراً على مشاريع «الاستبداد المحمولة على البنادق»، لذلك يوجهون بنادقهم إليه، ويوظفون آلتهم الإعلامية لشنّ حملات تضليل إعلامي ضد المدنيين، وتابع: «هذه ضريبة واجبنا في مقاومة مشاريع الاستبداد والحرب في السودان».

ورداً على الاتهامات بضعف تأثير «صمود»، قال يوسف: «لو لم يكن لنا تأثير لما انشغلت بنا قوى الحرب، فهي تحشد قواها وتستنفرها لمواجهة أي مبادرة يطلقها (صمود)»، ويضيف: «تظل القوى المدنية مصدر تأثير بخطابها العاقل في مواجهة خطابات الدمار والجنون، و(صمود) يعبر عن قاعدة واسعة من المناهضين للحرب والمبشرين بمشروع سوداني مدني ديمقراطي».

وحول علاقة تحالف «صمود» بتحالف «تأسيس»، الذي يسعى لإقامة حكومة موازية في مناطق سيطرة «الدعم السريع»، قال يوسف: «خلافنا الرئيسي معهم في الوسائل لبلوغ هذه الأهداف المشتركة». وأضاف: «نحن نؤمن بأن القوى المدنية الديمقراطية يجب أن تكون مستقلة كلياً عن طرفي الحرب، وتطرح مشروعات لإنهاء الحرب من موقع مستقل، وبالوسائل السلمية. هذه هي نقطة الخلاف الأساسية، والتباين بيننا ليس حول الأزمة السودانية، ولا الأهداف والغايات، بل حول طريقة الحلول».

وأكد يوسف أن تحالفه يرفض الاعتراف بأي شرعية قد تنتجها الحرب، بقوله: «الحكومة الشرعية هي تلك التي انقلب عليها العسكر في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وهذا هو موقفنا من قضية الشرعية، فالشرعية تأتي نتاجاً لعملية سياسية بتوافق السودانيين».

وكشف يوسف استمرار التواصل بين تحالفه وطرفي الحرب، بقوله: «تواصلنا مع قادة القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع لم ينقطع كلياً. وباستمرارٍ نتواصل معهم، بالرسائل والأفكار والمقترحات ودعوات وقف الحرب».  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحرب فی السودان إدارة الرئیس الشرق الأوسط

إقرأ أيضاً:

من الأندلس إلى الشرق الأوسط.. المستعرب الإسباني إغناطيوس غوتيريث يقدم رؤية نقدية تجاه الاستشراق الجديد

ماذا لو لم يكن العالم العربي "شرقا" على الإطلاق، بل جارا في "الوسط"، وأحيانا في "الغرب"؟ وماذا لو كانت هناك مدرسة معرفية لدراسته، عمرها ألف عام، تختلف جذريا عن "الاستشراق" الذي ارتبط بالهيمنة الاستعمارية؟

هذا التحدي المفاهيمي العميق يطرحه المستعرب الإسباني البارز، إغناطيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا، أستاذ الدراسات العربية بجامعة مدريد المستقلة، الذي يرى أن النموذج الأندلسي قادر على "بناء علاقة أكثر عدلا وتوازنا بين الغرب والعالم العربي". فمن منظور إسباني متجذر في تجربة الأندلس، يدعو دي تيران إلى إحداث ثورة في المصطلحات، واستبدال "الاستشراق" الموصوم سياسيا بـ"الاستعراب الإسباني" الذي نشأ في الأساس لدراسة النصوص العربية بموضوعية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2رشاد حسنوف: كيف يغير “الاستشراق الذاتي” الهوية الثقافية لأذربيجان؟list 2 of 2قراءة شاملة لجذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور المؤرخ الشاب زاخاري فوسترend of list

لكن رؤية دي تيران النقدية لا تتوقف عند هذا الحد، بل تمتد لتكشف بجرأة كيف أن المناهج التعليمية في بلاده "تسعى إلى التقليل من دور الأندلس في تشكيل الهوية الإسبانية" بدوافع أيديولوجية. كما يرى أن العالم العربي منح "أهمية مفرطة" للاستشراق، محمّلا إياه مسؤولية سياسات غربية لا يحركها البحث الأكاديمي، بل "خدمة المصالح الإمبراطورية".

على هامش مشاركته في المؤتمر الدولي الأول للاستشراق بالدوحة، وفي هذا الحوار مع "الجزيرة نت"، يغوص إغناطيوس غوتيريث دي تيران في الفروق الدقيقة بين تجربة بلاده المعرفية ونماذج الاستشراق المهيمنة، مقيّما مستقبل العلاقة بين ضفتي المتوسط، ومقدما رؤية تصحيحية لإرث الأندلس ودوره في بناء جسور أكثر إنصافا.

إعلان

وشارك غوتيريث -أستاذ اللغة والأدب العربي والتاريخ المعاصر في العالم الإسلامي في قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة مدريد المستقلة- في المؤتمر بورقة بحثية مهمة بعنوان "الدور التجديدي للاستعراب الإسباني في نموذج الاستشراق الأوروبي"، قدم فيها طرحا نقديا مغايرا لما هو سائد في الحقل الاستشراقي، وسلط الضوء على خصوصية الاستعراب الإسباني، وتجذره في السياق التاريخي والثقافي للأندلس، والاختلاف الجوهري في تمثلاته للعالم العربي والإسلامي مقارنة بالنموذجين الفرنسي والبريطاني.

درس اللغة العربية وآدابها (مستمعا) في جامعة القاهرة عام 1993 وجامعة دمشق عام 1994، أنجز رسالة الدكتوراه عام 2000 موضوعها "العلاقات الطائفية في لبنان وسوريا من حقبة التنظيمات العثمانية إلى نهاية القرن العشرين".

تولى تنسيق الدراسات الأفريقية والآسيوية، وهو الاختصاص الذي تندرج فيه مقررات اللغة والثقافة العربية في جامعته، وكان قد تبوأ أمانة سر قسمه للدراسات العربية والإسلامية طوال عقد من الزمن.

ترجم عدّة كتب من الإسبانية إلى العربية، ونقل إلى اللغة الإسبانية روايات عربية معاصرة لمؤلفين معاصرين مثل إبراهيم الكوني، وإدوارد الخراط، ومريد البرغوثي، وعالية ممدوح، وبهاء طاهر، وغسان كنفاني، ومازن معروف.

ومن ترجماته الشعرية إلى الإسبانية نخص بالذكر دواوين لمحمد الماغوط وسميح القاسم ومحمود درويش وسعدي يوسف وغيرهم.

كما ترجم إلى اللغة العربية بعض الأعمال الأدبية الإسبانية كـ"رحلة علي باي إلى المغرب" (2005)، وشارك في "أسبنة" كتاب "تاريخ الأدب الإسباني المعاصر" (2006)، ونشر مقالات بالعربية في صحف ومجلات عربية عدّة.

كتب عدة مقالات في الأدب الإسباني والعربي والعالم العربي المعاصر منها: "نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب" لشهاب الدين التيفاشي، و"اليمن.. مفتاح العالم العربي المنسي" (2014)، و"دراسة في الجنسانية العربية: الروض العاطر" (مدريد، 2015)، ونشر دراسة عن اللغة والثقافة العربيتين في إسبانيا مع مجموعة من الباحثين الإسبان الذين يكتبون بلغة الضاد عام 2016، و"الثورات العربية.. مسيرة متواصلة" (2017).

إعلان

كما نقل إلى اللغة الإسبانية "رسالة للجواري والغلمان" للجاحظ (2018)، وأسهم في دراسات ومؤلفات متعددة تبحث في أدب الرحلة، ومنها المقال المدرج في المجموعة التي نسقها الأديب نوري الجراح ("رحالة عرب ومسلمون").

pic.twitter.com/B5Pe9lHtj5

— الجزيرة نت | ثقافة (@AJA_culture) January 29, 2024

نود أن نسألكم عن الورقة البحثية التي شاركتم بها في المؤتمر، والتي حملت عنوان "الدور التجديدي للاستعراب الإسباني ضمن نموذج الاستشراق الأوروبي". ما الذي جعل الاستعراب الإسباني مختلفا عن غيره؟ ولماذا وصفتم دوره بأنه تجديدي داخل هذا الإطار الاستشراقي؟

أولا، نقول إن مصطلح "الاستشراق" يحمل في طياته العديد من المعاني المزدوجة والخطيرة. ولهذا السبب نحاول أن نسمي أنفسنا ومجال دراساتنا في العربية والإسلامية باسم "الدراسات الاستعرابية"، ونعتبر أنفسنا "مستعربين". لماذا؟.. لأن الاستعراب الإسباني قد بدأ منذ أكثر من ألف عام، وكان يركز على دراسة النصوص العربية بشكل موضوعي، وبالأخص النصوص الأندلسية.

ويرتبط هذا النوع من الاستعراب، قديما وحديثا، بأهداف استعمارية استيلائية تلفيقية، كما رأينا ذلك بوضوح في موجة الاستعمار التي ظهرت في القرن الـ19.

لذلك، فإننا ندعو إلى استعادة تلك المعاني الروحية، وتلك المواقف الفكرية التي يمكن أن نطلق عليها اسم "الاستعراب الأندلسي".

ونحن نعتقد ونؤمن بأن الأندلس يمكن أن توفر مادة تاريخية وأيديولوجية غنية، نستطيع أن نستمد منها موضوعات جديدة. بل أكثر من ذلك، نرى أن النموذج الأندلسي يمكن أن يشكل مثالا يحتذى به في تبني معايير جديدة لبناء علاقة أكثر عدلا وتوازنا بين الغرب، أو العالم الأوروبي، وبين العالم العربي.

"في حوار سابق، تحدثتم عن منظور الأندلس بوصفها جسرا للتواصل بين الشرق والغرب، لكنكم رفضتم في حينه رؤيتين: الرؤية الأوروبية التي تنكر التاريخ العربي والإسلامي في الأندلس، والرؤية المقابلة التي تتشبث بخيال رومانسي يتجاهل واقع الأندلس المركب. وقد عبرتم عن موقف نقدي تجاه كلا المنظورين. فهل وجدتم في هذا المؤتمر حضورا لمثل هذا الطرح النقدي في تناول موضوعي الاستشراق والاستعراب؟ إعلان

أعتقد أن هذا المؤتمر يعبر عن مفهوم معين للاستشراق، وهو المفهوم المرتبط بالجانب السياسي المؤدلج للاستشراق. وكما ذكرت سابقا، فإننا لا نفضل استخدام هذه التسمية.

أولا، لأنها تعتمد على مفهوم جغرافي، في حين أننا -نحن في إسبانيا، وأعتقد أن هذا ينطبق أيضا على شعوب أوروبية أخرى- لا نرى أن العالم العربي يحتل موقعا في "الشرق"، بل نراه يحتل موقعا في "الوسط" وأحيانا في "الغرب".

وثانيا، فإن هذه الدراسات التي تعرف بـ"الاستشراقية" ظهرت أساسا في القرن الـ19، وكانت موجهة لأغراض محددة، تمثلت في تقديم صورة معينة -غالبا ما تكون سلبية أو غير دقيقة علميا وموضوعيا- عن العالم العربي والإسلامي.

وبناء على ذلك، فإننا نبتعد عن هذه الرؤية، ونسعى إلى تصحيحها، ونأمل في بناء رؤية مستقيمة وسليمة، تستند إلى الوقائع المادية، والأدلة، والمنطق. هذا هو ما نطمح إليه.

وأعتقد أن "الأندلس"، في نظر العرب أنفسهم، يمكن أن تمثل أيضا هذه الرؤية المتوازنة: رؤية تقوم على التماس، والاحتكاك، والتواصل المستمر بين الحضارة الأوروبية القديمة والحضارة العربية القديمة كذلك.

في ورقتكم التي قدمتموها في المؤتمر، تناولتم واقع المناهج التعليمية في إسبانيا الحديثة، وفي أوروبا بشكل عام، لا سيما في ما يتعلق بمنظور التعليم لحقبة الأندلس، وكيفية تناول هذه المرحلة في المدارس والجامعات. وقد عبرتم عن رأي نقدي في هذا السياق. فكيف تقيمون المناهج التعليمية من هذه الزاوية؟ وكيف ينظر الباحثون والأكاديميون المتخصصون إلى تجربة الأندلس ودورها في التاريخ الأوروبي؟

للأسف الشديد، لا بد أن نقول إن الحقبة الأندلسية لم تنل نصيبها من الإنصاف والحضور كما ينبغي، وخصوصا في المدارس، وتحديدا في المناهج التعليمية. فالأندلس، على الرغم من كونها فترة تاريخية شديدة الأهمية، تأسيسية وتكوينية في آن معا، لا تحتل مكانة تذكر في هذه المناهج.

إعلان

وهذا يدل، من جهة، على انحدار المعايير التربوية في بلادي، لكنه -وربما يكون الأمر أكثر خطورة- يدل، من جهة أخرى، على تراجع الاهتمام المتعمد بالأندلس، وكأن هناك نوايا سياسية وأيديولوجية معينة تسعى إلى التقليل من دور الأندلس في تشكيل الهوية الإسبانية.

نحن، من جانبنا، نحاول أن نعيد الاعتبار للأندلس، وأن نعيد تقديمها تقديما سليما، بوصفها مرحلة أساسية في بناء الهوية الإسبانية. ولا يمكن لأي قراءة جادة لتاريخ إسبانيا الحديث أن تتجاهل الخصائص والمميزات الفريدة التي اتسمت بها الأندلس.

شهدنا في هذا المؤتمر تركيزا لافتا على ما يعرف بـ"الاستشراق الجديد"، ودور مراكز البحث والدراسات السياسية في تشكيله. برأيكم، إلى أي مدى لا يزال للمنظور الاستشراقي، سواء التقليدي أو الجديد، تأثير في تشكيل السياسات التي تنتهجها القوى العالمية تجاه منطقة الشرق الأوسط؟ وهل ترون أن هذا التأثير لا يزال فاعلا ومباشرا في رسم ملامح تلك السياسات؟

باعتقادي الشخصي، أن الاستشراق قد نال أهمية مفرطة، خاصة في الدول العربية، إذ يعتقد كثير من العرب أن الاستشراق كان له دور كبير، بل نصيب الأسد، في تشكيل الرؤية السياسية الغربية للإسلام والعالم العربي. وأرى أن الاستشراق يمثل جزءا من منظومة فكرية وأيديولوجية تسعى إلى تبرير الدور الأوروبي أولا، ثم الأميركي ثانيا، على مستوى العالم.

ومن هنا، فإن ما نسميه اليوم بـ"الاستشراق"، أو "المساعي الاستشراقية"، أو "الرؤى الاستشراقية"، ربما يمكن التعبير عنه بشكل أدق بوصفه رؤية الثقافة الغربية بشكل عام، كما تتجلى من خلال وسائل الإعلام وبعض الكتابات والأدبيات. وقد يكون أولئك الذين نطلق عليهم لقب "المستشرقين" جزءا من هذه الآلية، لكنهم لا يشكلون بالضرورة جوهر الرؤية الفكرية أو الطليعة التكوينية للعالم الغربي كما نعرفه اليوم.

إعلان

فالسياسات الاستعمارية الحديثة، في القرن الـ21، لا علاقة لها بذلك الاستشراق الأكاديمي الذي يمارس اليوم في الجامعات. هذه السياسات تنتمي إلى مجال آخر تماما، مجال خدمة المصالح الإمبراطورية، والمصالح السياسية والاقتصادية والجيوسياسية. وهو أمر يمارسه فاعلون آخرون، لا علاقة لهم بالمستشرقين، لا من قريب ولا من بعيد.

ما أريد قوله هو أنه أحيانا نسمع من يقول إن فلانا قد تهجم على الثقافة العربية، أو قال إن الإسلام ديانة متخلفة أو دون المستوى، أو ادعى أن المسلمين لا يزالون يعانون من "تخلف عقائدي"، فنصف هذا الشخص بأنه "مستشرق". لكن ماذا نعني حقا عندما نطلق على أحدهم صفة "استشراقي" أو "غير استشراقي"؟

بالنسبة لي، المستشرق -بغض النظر عن موقفه من العرب أو المسلمين- هو شخص ينتمي إلى مدرسة فكرية وعلمية محددة، وهي المدرسة المعنية بالدراسات العربية والإسلامية. ويفترض به أن يكون ملما باللغة العربية، متقنا للعلوم الإسلامية، وذا دراية جيدة بالمجتمعات الإسلامية.

لكن، في المقابل، نجد أن الكثير من أولئك الذين يهاجمون الإسلام والعرب -بحق أو بغير حق- لا ينتمون إلى هذه المدرسة، ولا يعرفون اللغة العربية، ولا يفقهون شيئا عن المجتمعات الشرقية. وبالتالي، لا يمكن أن نعتبرهم جزءا من هذا الحقل المعرفي. هذا هو ما أريد التأكيد عليه، أحيانا نحمل الاستشراق أدوارا لا علاقة له بها.

فالكثير من هؤلاء لا يفقهون شيئا في الثقافة أو الأدب أو التاريخ، وكل همهم أن يؤثروا في سياسات دولهم الداخلية، ويحاولون إقناع حكوماتهم باتخاذ مواقف معينة تجاه بعض الدول العربية أو الإسلامية. وغالبا ما تكون هذه المساعي التوجيهية أو النفوذية مدفوعة بمصالح اقتصادية وسياسية محددة.

وهل يشارك بعض المستشرقين -بأسمائهم- في هذه العمليات؟ للأسف، نعم.. لكن المدرسة الاستشراقية، في معناها الأكاديمي والعلمي العميق، أكبر بكثير من هذه الاستخدامات السياسية والأداتية الضيقة.

إعلان شهدنا في المؤتمر العديد من النقاشات حول موضوع "الاستغراب".. فكيف ترون هذا المفهوم؟ وهل هناك منظور بديل أو نوع من المعرفة يمكن أن يتبناه أبناء الشرق تجاه الغرب؟ وهل تعتقد أن هناك واقعا أو مناهج للدراسات الاستغرابية في الوقت الحالي؟

مرة أخرى، ما هو المقصود بمفهوم "الاستغراب"؟.. إذا كان الاستغراب يقابل الاستشراق من حيث الدلالات السلبية للمصطلحين، فإنه يكون خطأ يقابل خطأ. فإذا كان الاستشراق عملية لا يمكن اعتبارها إيجابية من الناحية العلمية، نظرا لكونها ملفقة ومسيسة، فإن الاستغراب -إذا اعتبر رديفا له أو معادلا له- لا بد أن يقع في الخطأ ذاته.

على كل حال، فإن "الاستغراب" تسمية غريبة أيضا، ولا أعلم إلى أي مدى يمكننا الحديث عن "استغراب" منظم أو ممنهج. وأتصور أن هناك بعض المفكرين والمثقفين، بل حتى بعض العلماء من العرب، ممن يتحدثون عن الغرب بطريقة سلبية وغير علمية، لكن هذه ليست مدرسة فكرية يمكن أن نفيد منها أو نركن إليها.

جرى الحديث في المؤتمر عن العلاقة بين السياسات العربية تجاه فلسطين وما يرتبط بالمنظور الاستشراقي. وربما تتفقون على أن لهذا المنظور بعض الأسس والواقع، حيث طالما نظر المستشرقون إلى هذه الشعوب على أنها بدائية أو غير متحضرة. وكان ذلك بمثابة رسالة للإنسان الغربي، ليتحمل مسؤولية "تحضير" هذه الشعوب وتأهيلها لتكون جاهزة للعيش في العصر الحديث. وهذا المنظور قد استخدم على الأقل في فترة منتصف القرن الماضي في تشكيل السياسات التي أسست للاستعمار البريطاني ومن ثم للتأسيس الإسرائيلي.. فما رأيكم حول هذا الأمر؟

مرة أخرى، إذا كنا نعتبر المستشرقين اليوم أولئك الذين يعملون في إطار أكاديمي ومنهجي محدد -أي في مجال دراسة العالم العربي والتاريخ الإسلامي، على سبيل المثال- فلا بد أن نقر بأن عددا كبيرا منهم يقفون اليوم إلى جانب القضية الفلسطينية.

إعلان

ولو ذهبنا إلى العديد من الجامعات، والمؤسسات الأكاديمية، والمراكز البحثية، وسألنا أولئك الذين يعرفون العالم العربي ويكتبون عنه، لوجدنا أن نسبة عالية منهم -من إسبانيا إلى روسيا-يتعاطفون مع الفلسطينيين ويدعمون قضيتهم. والسبب في ذلك أنهم يعرفون القضية معرفة حقيقية، ولديهم إلمام عميق بما يجري على الأرض، أكثر من غيرهم.

لذلك، لا ينبغي أن نحمل الاستشراق المعاصر مسؤولية الموقف الغربي المؤيد، في معظمه، لإسرائيل أو للمشروع الصهيوني. فالمشكلة لا تكمن في الاستشراق، بل في منظومة من المصالح الاقتصادية والسياسية الليبرالية، وكذلك في الضغوط التي تمارسها الآليات الدعائية الصهيونية، وهي آليات قوية ما زالت تهيمن على صناعة القرار وصياغة الرأي العام في الغرب.

ومن هنا، يجب أن نميز بين الأمرين. هناك "مستشرقون"، يعانون كثيرا لأنهم يوجهون انتقادات صريحة للصهيونية وللسياسات الغربية الداعمة لنظام تل أبيب، وهم يقفون ضد هذه السياسات، لكن الثقافة المؤسسة في الغرب -أي الآلية الثقافية الغربية- هي التي تصنع هذه الرؤية المنحازة.

ومع ذلك، فأنا متفائل. وأعتقد أن هذه الآلية وهذه الصناعة الأيديولوجية في تراجع، وأن الصهيونية ستفقد تدريجيا قوتها ونفوذها. وهذا أمر ضروري جدا، لأن الصهيونية لا تمثل مصيبة على الفلسطينيين فحسب، بل هي مصيبة أيضا على العدالة الإنسانية، وعلى استقرار العالم بأسره.

مقالات مشابهة

  • وزير الداخلية الألماني يكشف عن أرقام مقلقة للجماعات المتطرفة في بلاده: نحتاج إلى رد حازم
  • من الأندلس إلى الشرق الأوسط.. المستعرب الإسباني إغناطيوس غوتيريث يقدم رؤية نقدية تجاه الاستشراق الجديد
  • الأردن من أفضل دول الشرق الأوسط بنمو عدد السياح الدوليين
  • تقرير دولي: الدبلوماسية المصرية تزداد توهجًا ونشاطًا مع تعقُّد أزمات الشرق الأوسط
  • احتجاجات حميدتي بصوت خالد عمر!
  • زاخاروفا تسخر من زيلينسكي.. يتوسل العالم للحصول على السلاح
  • «السوربون أبوظبي» تستضيف مؤتمر «جمعية محاضري القانون البيئي»
  • وزير الخارجية يبحث مع نظيره التركي تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط
  • الإمارات مركز بارز للتكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط
  • العيد في اليمن.. رقصة صمود على إيقاع الفرح رغم جراح الحرب