أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما حكم البسملة لمن بدأ القراءة من وسط السورة؟فقد ذهبتُ إلى المسجد وأردت أن أتلو بعض آياتٍ من القرآن خارج الصلاة، فشرعت في التلاوة من منتصف سورة الأنعام، فاستعذت بالله ثم شرعت في التلاوة مباشرةً دون الإتيان بالبسملة، فهل ما فعلته هذا صحيحٌ أو خطأ؟".

وقالت إنه يجوز لمن بدأ القراءةَ من وسط السورة، أو أي موضعٍ منها -غير أولها- خارج الصلاة، قراءة البسملة أو عدم قراءتها، ولا إثم على من تركها ولم يأتِ بها، والأولى أن يأتي بالبسملة استحبابًا، استجلابًا للبركة ومرضاةً لله تعالى، وتأسيًّا بما بدأ الله سبحانه وتعالى به كتابه.

حكم قراءة البسملة عند افتتاح التلاوة وفي أوائل السور

المقرَّرِ شرعًا أنَّ البسملةَ جزءُ آيةٍ من القرآن الكريم وليست أجنبيةً عنه، وردت في سورة النمل في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل: 30]، وليست آية من سورة التوبة، وإنما الخلاف في غير ذلك. يُنْظَرُ: "رَدُّ المُحتار على الدُّرِّ المُختار" للعلَّامة ابن عابدين الحنفي (1/ 491، ط. دار الفكر)، و"المغني" للإمام ابن قدامة الحنبلي (1/ 347، ط. مكتبة القاهرة).

وقراءتُها عند افتتاح التلاوة في أوائلِ السور مستحبٌّ، لا سيَّما وأنَّ جميعَ القُرَّاءِ درجوا على افتتاح سور القرآن بها عدا سورة براءة -التوبة-، كما جاء ذلك مُقرَّرًا في كتب القراءات وعلوم القرآن والفقه. يُنْظَرُ: "حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع" للإمام الشاطبي (ص: 9، ط. مكتبة دار الهدى)، و"سراج القارئ المبتدي وتذكار المقرئ المنتهي" للعلَّامة ابن القاصح البغدادي (ص: 30، ط. مطبعة مصطفى البابي)، و"البرهان في علوم القرآن" للإمام بدر الدين الزركشي (1/ 460، ط. دار إحياء الكتب العربية ودار المعرفة).

لماذا لا يستجيب الله دعائي؟.. الإفتاء تحذر من 3 أفعال شائعةأدعية الحج من مغادرة المنزل إلى الوصول للأماكن المقدسة.. احفظها الآن

حكم قراءة البسملة في بداية القراءة من وسط السورة خارج الصلاة
من بدأ القراءة من وسط السورة أو من أيِّ موضعٍ غير أولها ولو بآيةٍ واحدة (وهو المسؤول عنه) خارج الصلاة، فقد نصَّ علماءُ القراءات على أنَّ القارئ مُخيَّرٌ بين الإتيان بالبسملة أو عدم الإتيان بها، قال الإمام الشاطبي في "حِرْز الأَمَانِي وَوَجْه التَّهانِي في القراءات السبع" (ص: 9):  [وَلَا بُدَّ مِنْهَا فِي ابْتِدَائِكَ سُورَةً    سِوَاهَا وَفي الأَجْزَاءِ خَيَّرَ مَنْ تَلَا] اهـ.

وقال العلَّامة شهاب الدين أبو شامة الدمشقي في "إبراز المعاني من حِرْز الأَمَانِي" (ص: 69، ط. دار الكتب العلمية): [كُلُّ آيةٍ يبتدأ بها غير أوائل السور خَيَّر المشايخ فيه فسوَّغوا البسملة فيه؛ لأنه موضع ابتداء في الجملة كما يُسَمَّى في ابتداء الوضوء والأكل والشرب، و "مَنْ تَلا" فاعل "خَيَّرَ"، و "تَلا" بمعنى: قرأ، كَنَّى بذلك عن أهل الأداء، ولو كان "خَيَّرَ" بِضمِّ الخاء وكسر الياء لكان حَسنًا أي: خُيِّرَ التالي وهو القارئ في ذلك. والله أعلم] اهـ.

ونصَّ على ذلك أيضًا الإمام ابن الجزري في متنه: "طَيِّبَة النَّشْرِ في القراءات العشر" (ص: 38، ط. دار الهدى) حيث قال:

[بَسْمَلَةٌ، وَالسَّكْتُ عَمَّنْ وَصَلَا وَفِي اْبتِدَا السُّورَةِ كُلٌّ بَسْمَلَا

سِوَى بَرَاءَةٍ فَلَا وَلَوْ وُصِلْ وَوَسَطًا خَيِّرْ وَفِيهَا يَحْتَمِلْ] اهـ.

قال الإمام ابن الجزري في "شرحه لطَيِّبَةِ النَّشْرِ" (ص: 48، ط. دار الكتب العلمية): [قوله: (وَوَسَطًا)، أي: وسط السورة، يعني ألفاظها وأجزاءها، هذا الموضع الثالث وهو أوساط السورة، فالقارئ فيه مُخيَّرٌ بين الإتيان بالبسملة فيه بعد الاستعاذة، وذلك سوى براءة، فإنه يحتمل التخيير فيها كغيرها، ويحتمل المنع من البسملة فيها] اهـ.

وقال في "النشر في القراءات العشر" (1/ 265، ط. المطبعة التجارية الكبرى): [يجوز في الابتداء بأوساط السور مطلقًا سوى (براءة) البسملة وعدمها لكل من القُرَّاء تخيَّرًا، وعلى اختيار البسملة جمهور العراقيين، وعلى اختيار عدمها جمهور المغاربة وأهل الأندلس] اهـ.

ويُؤيِّدُ الحنابلة ما ذهب إليه جمهور القُرَّاء من أنَّ القارئ للقرآن خارج الصلاة "مُخيَّرٌ" بين الإتيان بالبسملة أو عدم الإتيان بها حال بدء التلاوة من وسط السورة، حيث نصُّوا على عدم المنع من قراءة البسملة في وسط السورة كأولها.

قال العلَّامة شمس الدين ابن مفلح الحنبلي في "الآداب الشرعية والمنح المرعية" (2/ 326، ط. عالم الكتب): [وتستحب قراءة البسملة في أول كل سورة في الصلاة وغيرها نصَّ عليه وقال: لا يدعها، قيل له: فإن قرأ من بعض سورة يقرؤها؟ قال لا بأس، فإن قرأ في غير صلاة فإن شاء جَهَرَ بالبسملة وإن شاء لم يجهر] اهـ.

وذهب الشافعية في المعتمد من مذهبهم إلى استحباب البدء بالبسملة وعدم تركها حال بدء التلاوة من أول السورة أو وسطها خارج الصلاة.

قال الإمام شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (1/ 475، ط. دار الفكر): [لو قرأ خارج الصلاة استحب له الابتداء بالتعوذ والتسمية، سواء افتتح من أول سورة أم من أثنائها] اهـ.

وذهب أكثر الحنفية إلى أنَّ من بدأ القراءة من وسط السورة يكفيه أن يبدأ قراءته بالاستعاذة فقط دون البسملة، لا سيَّما وأنَّهم يرون في المعتمد من المذهب عندهم أنَّ البسملة ما جُعِلَت إلا للفصلِ بين السور، وليست بآيةٍ تامَّةٍ من سور القرآن إلا من سورة النمل فقط، لذلك رأوا أنَّ من بدأ تلاوة القرآن من أول السورة فإتيانه بالبسملة حَسَنٌ، مراعاةً للخلاف الوارد في كَوْنِ البسملة آية من أول كُلِّ سورة أم لا.

قال العلَّامة الطحطاوي الحنفي في "حاشيته على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح" (ص: 260-261، ط. دار الكتب العلمية): [يُسَنُّ لمن قرأ سورةً تامّةً أن يتعوَّذَ ويُسَمِّي قبلها، واختلف فيما إذا قرأ آيةً، والأكثر على أنه يتعوَّذ فقط... لا خلاف أنَّه لو سمَّى لكان حسنًا لشبهة الخلاف في كَوْنِهَا آيةً من كل سورة، ثم هل يخص هذا بما إذا قرأ السورة من أولها أو يشمل ما إذا قرأ من أوسطها آياتٍ مثلًا؟ وظاهر تعليلهم كون الإتيان بها لشبهة الخلاف في كونها آيةً من كل سورة يفيد الأول كذا بحثه بعض الأفاضل] اهـ.

وأما المالكية: فقد تعرضوا لقراءة البسملة في أثناء سورة براءة لا أولها والذي ينسحب على باقي سور القرآن الكريم، والمفهوم من كلامهم أنَّهم لم ينصوا على خصوص المسألة، إلا أنَّ بعضهم يذكر قولي العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي القائل بالكراهة، والعلامة الشمس الرملي الشافعي القائل بالندب بدون ترجيح، وكأن الأمر عندهم على التخيير بين الكراهة والندب؛ بينما رجَّح الشيخ الأمير الأخذ بقول الرملي بندب قراءتها في أثناء السورة.

قال الشيخ الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 3-4، ط. دار الفكر): [وتحرم في ابتداء براءة عند ابن حجر، وقال الرملي بالكراهة، وأما في أثنائها فتكره عند الأول وتندب عند الثاني، ولم أر لأهل مذهبنا شيئا في ذلك، وليس لها حالة وجوب إلا بالنذر، ولا يقال: إن البسملة واجبة عند الذكاة مع الذكر والقدرة؛ لأنا نقول الواجب مطلقُ ذكر الله لا خصوص البسملة كما عليه المحققون] اهـ.

وقال الشيخ الأمير في "المجموع" ومعه "ضوء الشموع شرح المجموع في الفقه المالكي" (1/ 18، ط. دار يوسف بن تاشفين): [وتحرم في المحرمات على الأظهر، وفي ابتداء براءة عند ابن حجر، وقال الرملي بالكراهة، وأما في أثنائها فتكره عند الأول وتندب عند الثاني، ولا أعلم نصًّا لأصحابنا، والظاهر موافقة الرملي] اهـ.

وأَمَرَ الشرع الحنيف بذكر الله عز وجل قبل كُلِّ عمل، استجلابًا للبركة ومرضاةً لله تعالى، وأفضل الذكر البِدْءُ بما بدأ الله تعالى به أشرف كتبه المُنزَّلة وهو "القرآن الكريم" فقد بُدِأَ بالبسملة، فيستحب ابتداء بها سائر الأعمال.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ أَقْطَعُ» رواه الدارقطني.

قال العلَّامة الملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (5/ 2071، ط. دار الفكر): [«كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ»، أي: ذي شأنٍ واعتبارٍ يُرْجَى منه حُسْنُ مآلٍ في النهاية، «البال» الحالُ والشأن، و«أَمْرٍ ذِي بَال»، أي: شريفٍ يُحْتَفَلُ به ويُهتم به، والبال في غير هذا القلب، وقال غيره: إنما قال: ذو بال؛ لأنه من حيث إنه يشغل القلب كأنه ملكه وكأنه صاحب بال... «أقْطَعُ» أي: مقطوع البركة على وجه المبالغة أي: أقطع من كُلِّ مقطوع... وفي رواية فهو «أبتر» أي: ذاهب البركة] اهـ.

الخلاصة
بناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فيجوز لمن بدأ القراءةَ من وسط السورة، أو أي موضعٍ منها -غير أولها- خارج الصلاة، قراءة البسملة أو عدم قراءتها، ولا إثم على من تركها ولم يأتِ بها، والأولى أن يأتي بالبسملة استحبابًا، استجلابًا للبركة ومرضاةً لله تعالى، وتأسيًّا بما بدأ الله سبحانه وتعالى به كتابه.

طباعة شارك حكم قراءة البسملة عند افتتاح التلاوة وفي أوائل السور البسملةَ القرآن الكريم

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: البسملة القرآن الكريم قراءة البسملة فی القرآن الکریم خارج الصلاة فی القراءات دار الفکر من أول ل سورة

إقرأ أيضاً:

غزة في سورة الفجر

بينما أتأمل في سورة الفجر -التي تذكرنا بالأيام العشر الأولى من الشهر الذي ودعناه بالأمس مع استقبال عام هجري جديد- تلمس قلبي الآية التي يقول فيها الله تعالى: «كَلَّا بَل لَّا تُكرِمُونَ اليَتِيمَ وَلَا تَحضُّونَ عَلَى طَعَامِ المسكينِ»، فقفزت إلى مخيلتي صور أطفال غزة الجائعين، الذين يعانون من شظف العيش وألم الجوع والعطش والموت، حينها رجعت لأول السورة للبحث عن دلالات وإشارات وعظات تحيلنا إلى الواقع الذي نعيشه، وكيف أن هذه السورة حين تتلوها وتتأملها، تشعر وكأنها نزلت اليوم، لا قبل أربعة عشر قرنا، فأنت تستطيع تلمس كل آية من آياتها لتجد لها مثالا في الواقع ولكن الآية التي تأمرنا بإكرام اليتيم، وتحضنا على إطعام المسكين، هي الآية المفتاح لفكرة التتبع في هذه السورة العظيمة، فهذه الآيات تذكير حي بواجبنا الديني والإنساني تجاه المستضعفين من إخواننا في غزة وفلسطين، ونداء للاستيقاظ من غفلة القلوب تجاه معاناتهم، ومد يد العون لهم بكل ما نستطيع.

فابتداء من الفجر الذي أقسم الله به في هذه السورة حين قال عز من قائل: « وَالفجر (1) وَلَيَالٍ عَشر (2) وَالشفعِ وَالوتر(3) وَالليل إِذَا يَسر (4) هَل فِي ذَلِكَ قَسَم لِّذِي حِجر(5)»، فالله أقسم به تعظيما، والتفاتا لأهمية هذا الوقت، فهو إحدى آيات الله الدالة على عظمته، فنور الفجر ينبثق من حالك الظلمة، فهو يماثل انبثاق نور الهداية من ظلمات الضلال، وهو مؤذن بانقلاب الحال، كما أقسم الله تعالى بمخلوقاته من الأزمنة والأوقات، وبعدها قال عز وجل إن في ذلك القسم تفكرا وتأملا لذي حجر أي لذي عقل.

ثم نجد أن الله عز وجل ذكر أحوال الأمم والحضارات المادية المتغطرسة، التي تشبه الأمم المتغطرسة في عصرنا من يملك القوة لكنه لا يملك الرحمة، فقال عز وجل: « أَلَمتَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ لعِمَادِ (7) الَّتِي لَم يخلق مِثلُهَا فِي البلد (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ لصَّخرَ بِالوادِ (9) وَفِرعون ذِي الاوتادِ (10) الَّذِينَ طَغَواْ فِي البلادِ (11) فَأَكثَرُواْ فِيهَا الفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيهِم رَبُّكَ سَوطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِلمِرصَادِ (14)»، فذكر قوم عاد وحضارتهم التي تعتبر من أعظم الحضارات في التاريخ الإنساني، فهي حضارة مكن الله لها ووصفها بأنها ذات أعمدة عمرانية عظيمة، وأنها لم يخلق مثلها في البلاد، لعظيم ما وصلت إليه، فماذا فعل الله بها، وكذلك حضارة أصحاب الحجر، الذين وصف الله قوتهم فقال إنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا فارهة، وذلك لعظمة ما مكن الله لهم من قوة وقدرة وعلم، كما أورد ذكر فرعون الذي بنى الأهرامات العظيمة التي تشبه الجبال، فجميع هذه الأمم والحضارات امتلكت القوة، فاستعلوا بها على البشر، فظلموا وطغوا وتجبروا، فكان مصيرهم الدمار الإلهي.

فصب الله عليهم العذاب صبا، فأهلك عاد بالريح، فقال الله عز وجل في سورة الحاقة: « وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ»، وأهلك ثمود بالصيحة، فقال تعالى في سورة الحجر: « فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ»، وأما فرعون وجنوده فقد أهلكهم الله بالغرق فقال الله تعالى في سورة البقرة:« وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ».

وهذا هو حال دول الطاغوت اليوم، من أمثال دولة الاحتلال ومن يساندهم من دول الغرب الذين أكثروا الفساد في الأرض فقتلوا أكثر من 60 ألفا من أبناء غزة، وجرحوا أضعاف هذا العدد، واحرقوا الأخضر واليابس، ودمروا المساكن، وهم يمعنون في تعذيب أهل غزة وظلمهم وتجويعهم.

بعدها ذكرت سورة الفجر حال الإنسان مع الابتلاء بالخير والشر، ويقول المفسرون إن ورود كلمة «الإنسان» في القرآن تأتي دائما في صفة الذم، فالله في سورة الفجر ابتلى الإنسان بالإكرام، والتوسعة في الرزق، كما أنه يبتليه بتضييق الرزق عليه فقال تعالى: « فَأَمَّا الانسانُ إِذَا مَا بتلاه رَبُّهُ فَأَكرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أكرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عليهِ رِزقَهُ فَيَقُولُ رَبّي أَهننِ (16)».

تأتي الآيات التي تصف أخلاق المجتمع الظالم، فتجد فيها أوصافا تطابق واقعنا أمام غزة اليوم: «كَلَّا بَل لَّا تُكرِمُونَ ليَتِيمَ (17) وَلَا تَحَضُّونَ عَلَى طَعَامِ لمِسكِينِ»، فاليوم أصبحت مدينة غزة كلها أيتاما ومساكين، فهل حضضنا الناس على إطعامهم، فالله تعالى قال: ولا تحاضّون، أي لا يشجع بعضنا بعضا على إغاثة المساكين، فكيف بمن يسكت أو يثبط أو يساوم على جوعهم؟ ومما يدمي القلب ويعتصره مشاهد الجوع والدماء التي تختلط بالطعام عندما يقوم المجرم الإسرائيلي بقنص شباب غزة وأطفالها ونسائهم في مسيرهم الطويل إلى نقاط توزيع الطعام.

فمع اشتداد العدوان الأخير، وقطع المعابر، ومنع دخول الوقود والغذاء، صار الجوع سلاحا إضافيا يستخدم في حرب ظالمة تخاض ضد المدنيين، فترى صور الأطفال ذوي الوجوه الشاحبة، والرضع الذين توقف حليب أمهاتهم، والنساء اللائي يطبخن الأعشاب، ونحن في زمن الوفرة في عالم تتكدس فيه الموائد، ويهدر فيه الطعام، وتصرف المليارات على الترف، تتجلى هذه المأساة الإنسانية في غزة.

والمصيبة الأعظم ليست فقط في موت الجوعى، بل في اعتيادنا على موتهم، فقد أصبحنا نرى الأخبار ولا نهتز، ونقرأ الإحصاءات ولا نحزن، ونشاهد الجثث فلا نتضرع، ولعل أخطر ما يصاب به القلب هو تبلد الإحساس، حين نتحول من شهودٍ على الجريمة إلى متعايشين معها، وكأنه وضع طبيعي، بل وفي أحيان كثيرا نحاول أن لا نرى تلك الصور والمشاهد ونتجاهلها، إمعانا في حب أنفسنا.

فالمسلم يجب عليه اليوم هو أن يجدد صلته بمفهوم «الجسد الواحد»، الذي لا يهنأ بعضه إذا اشتكى بعضه الآخر، الذي ذكره الرسول الكريم في الحديث الشريف، فيجب أن يلهج قلبنا بالدعاء لإخواننا، وأن نقوم بخطوات عملية من خلال الإغاثة المالية عبر القنوات الموثوقة، والضغط السياسي عبر منابر الرأي، والتبرع، والصيام التضامني، والمشاركة الإعلامية المستمرة، فهي مسؤوليات دينية قبل أن تكون إنسانية.

بعدها يقول ربنا في سورة الفجر: «وَتَأكُلُونَ لتُّرَاثَ أَكلا لَّما (19) وَتُحِبُّونَ لمَالَ حُبّا جَمّا (20)»، وهذا توصيف دقيق للمجتمعات التي تراكم المال وتسرف، بينما على الطرف الآخر من العالم، يموت الأطفال من الجوع.

ثم تنتقل أيات سورة الفجر إلى التحوّل الأخروي، فتصفع كل ضمير غافل، فيقول ربنا جل وعلا: « كَلَّا إِذَا دُكَّتِ لأَرضُ دَكا دَكّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَلمَلَكُ صَفا صَفّا (22) وَجِاْيءَ يَومَئِذ بِجَهَنَّمَ يَومَئِذ يَتَذَكَّرُ الإِنسَنُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكرى(23) يَقُولُ يَلَيتَنِي قَدَّتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَومَئِذ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَه أَحَد (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد (26)»،

حين تتزلزل الأرض، وتتلاشى الحدود، ويكشف المستور، ستعرض غزة من جديد، على ميزان الله، فكم منا سيقولها حين يكتشف أنه رأى أهل غزة يموتون جوعًا، ولم يتحرّك «يا ليتني قدمت لحياتي» سيصاب بهذه الحسرة لأنه صمت حين وجب الكلام، وبخل حين وجب العطاء.

وفي الختام يقول الله عز وجل لأصحاب النفس المطمئنة من أصحاب المأساة الدنيوية، ومن أعانهم ابتغاء لمرضاة الله: « يَأَيَّتُهَا لنَّفسُ لمُطمَئِنَّةُ (27) رجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَة مَّضِيَّة (28) فَدخُلِي فِي عِبَدِي (29) وَدخُلِي جَنَّتِي (30)».

مقالات مشابهة

  • ماذا تفعل إذا طلب منك الميت فعل شيء بالمنام؟.. الإفتاء تجيب
  • لماذا أوصى النبي بقراءة سورة الملك كل ليلة؟.. الإفتاء تكشف فضلها
  • ماذا نقول عند سماع الصلاة خير من النوم بأذان الفجر؟.. الإفتاء تجيب
  • موعد يوم عاشوراء 2025.. هل يجوز صيامه لو وافق يوم جمعة؟ «الإفتاء» تجيب
  • حكم صيام الجمعة الأولى من شهر محرم منفردة .. دار الإفتاء تجيب
  • حكم صيام يوم عاشوراء منفردًا إذا وافق يوم الجمعة.. الإفتاء تجيب
  • غزة في سورة الفجر
  • حكم التهنئة برأس السنة الهجرية.. الإفتاء تجيب
  • حكم صيام أول محرم وهل هو بدعة؟.. دار الإفتاء تجيب
  • كتاب يعاين صورة المتنبي في مرآة الاستشراق وضع القراءة