هل تقوّض الاتفاقيات الاقتصادية أمن الدول؟ قراءة في موازين السيادة
تاريخ النشر: 14th, August 2025 GMT
لطالما شكّل التوازن بين المصالح الاقتصادية والمقتضيات الأمنية أحد أعقد التحديات التي تواجه الدول في صناعة القرار الاستراتيجي. ففي عصر تتشابك فيه خطوط الطاقة مع شبكات النفوذ، وتندمج فيه المصالح التجارية مع ترتيبات التحالفات، لم يعد بالإمكان الحديث عن سياسة خارجية أو أمن قومي بمعزل عن الاقتصاد.
غير أن التاريخ يُظهر بوضوح أن المضي في علاقات اقتصادية مع أطراف تُهدد استقرار المنطقة أو تُقوّض القيم الأساسية في السياسة الدولية وتنتهك المواثيق والقانون الدولي قد يقود، وإن على المدى البعيد، إلى إضعاف السيادة الوطنية للدول، وفتح ثغرات استراتيجية يصعب احتواؤها.
الموارد الحيوية وأدوات الضغط الجيوسياسي
خلال العقود الماضية، تحوّلت الطاقة من مورد اقتصادي إلى أداة فعالة في إدارة الصراع الجيوسياسي. على سبيل المثال، الاتحاد السوفييتي سابقا، ثم روسيا لاحقا، استخدمت الغاز الطبيعي كورقة ضغط سياسي على جيرانها الأوروبيين. وقد بلغ هذا التوظيف ذروته في الأزمة الأوكرانية، حين استخدم الكرملين شبكة خطوط الإمداد لفرض شروطه على كييف، بل وعلى عواصم أوروبية بأسرها.
من ناحية أخرى، تدرك القوى الكبرى أن الاعتماد الاقتصادي يُترجم إلى نفوذ سياسي. فالتغلغل في البنى التحتية الحيوية -سواء عبر مشاريع الغاز أو شبكات الاتصالات أو الاستثمار في الموانئ- يمنح الأطراف الخارجية قدرة على التأثير في القرارات السيادية. في هذا السياق، يصبح سؤال: من يملك البنية التحتية؟ مرادفا لسؤال: من يتحكّم في القرار؟
تحالفات اقتصادية وتحولات في موازين السيادة
في عالم اليوم، لا تُشنّ الحروب بالضرورة عبر استخدام الأسلحة التقليدية من دبابات وطائرات وغيرها، بل من خلال الاتفاقيات والصفقات التي تُوقّع على طاولة المفاوضات. إذ يمكن لشراكة اقتصادية غير محسوبة أن تتحوّل إلى اختراق استراتيجي، حين تتسلل المصالح إلى عمق القرار السيادي للدولة.
تُعد تجربة ألمانيا النازية في ثلاثينيات القرن الماضي مثالا صارخا. حينما أبرمت بريطانيا وفرنسا وبعض القوى الأوروبية اتفاقيات تجارية مع برلين، لم تُقلل هذه الصفقات من التهديدات، بل أسهمت في تقوية آلة الحرب النازية.
بل إن الاتحاد السوفييتي نفسه، بعد اتفاقية "مولوتوف-ريبنتروب" (وهي اتفاقية عدم اعتداء بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية وُقّعت في آب/ أغسطس عام 1939 على يد وزير الخارجية السوفييتي فياتشيسلاف مولوتوف، ووزير الخارجية الألماني يواكيم فون ريبنتروب) زوّد ألمانيا بالنفط والحبوب، قبل أن تُستخدم تلك الموارد ذاتها في غزو موسكو بعد أقل من عام.
وفي حالات معاصرة، مثل العلاقات التجارية بين بعض الدول الأوروبية وإيران، أو مع روسيا بعد غزو جورجيا ثم القرم، نلاحظ أن المصالح الاقتصادية كثيرا ما غلّبت على التحفظات السياسية، لتدفع الدول لاحقا ثمن التبعية في لحظة أزمة.
الهشاشة الاقتصادية في المنطقة العربية وتأثيرها على القرار الوطني
تعيش معظم دول المنطقة العربية في ظل هشاشة اقتصادية واضحة، ما يجعلها أكثر عرضة للضغوط الخارجية. فحين تكون الموازنة الوطنية معتمدة على مصادر خارجية -سواء عبر المنح أو الشراكات في مجال الطاقة أو الاستثمارات الأجنبية- تصبح الحسابات الأمنية أكثر تعقيدا.
وقد شهدنا مؤخرا في المنطقة توقيع اتفاقيات في مجال إمدادات الطاقة مع طرف يُنظر إليه من قِبَل قطاعات واسعة من الشعوب بوصفه عدوا استراتيجيا، وهو ما يفتح الباب لتساؤلات جوهرية حول حدود المصالح، ومدى اتساق هذه الشراكات مع الخطاب السياسي المُعلَن، ومع اعتبارات الأمن القومي. ففي مثل هذه الحالات، لا تتعلّق المسألة بالعائدات الاقتصادية فقط، بل بمدى قدرة الدولة على الحفاظ على توازن بين حسابات الربح ومواقفها التاريخية وموقعها الإقليمي.
إن التحالف الاقتصادي مع طرف يُنظر إليه كتهديد مباشر للدولة يُحدث حالة من الاستقطاب الداخلي، ويخلق فجوة بين السياسات الرسمية والمزاج الشعبي العام، ويزعزع ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها.
لم يعد الغاز وحده أداة للضغط الجيوسياسي، بل انضمت إليه التكنولوجيا أيضا. فالاعتماد على شبكات اتصالات خارجية، أو على أنظمة مراقبة وتحكّم تابعة لدول خصومة أو عداء استراتيجي، يُضعف استقلال القرار الأمني، ويزيد من قابلية التعرض للاختراقات الإلكترونية والهجمات السيبرانية.
مؤخرا، شهدت عدة دول غربية سجالات حادة حول دور شركات التكنولوجيا الأجنبية، ومدى إمكانية استغلالها كأدوات للتجسس أو النفوذ السياسي. ومن الضروري أن يُفتح هذا النقاش نفسه في منطقتنا، خصوصا مع توجه بعض الدول نحو إبرام شراكات رقمية مع أطراف يُنظر إليها كتهديد مباشر للاستقرار الإقليمي.
في الأنظمة التي تعاني من فجوة شرعية مع شعوبها، تتحول الصفقات الاقتصادية مع الخارج إلى أداة للبحث عن شرعية بديلة. فبدلا من تعزيز القبول الشعبي الداخلي، يراهن بعض صناع القرار على تحالفات اقتصادية مع قوى كبرى، على أمل أن توفر لهم الحماية الدولية والدعم السياسي. غير أن التجارب التاريخية تثبت هشاشة هذا الرهان، إذ كثيرا ما تتخلى القوى الكبرى عن حلفائها المحليين حين تصبح كلفة دعمهم أعلى من مكاسبهم، أو عندما يتغير ميزان المصالح الدولية.
تحقيق التوازن بين المصالح الاقتصادية والأمن القومي
ليست المشكلة في التعاون الاقتصادي مع خصم أو عدو استراتيجي بحد ذاته، وإنما تكمن في غياب التقييم الاستراتيجي الشامل لعواقب هذه الشراكات. إذ حين يُنظر إلى الصفقة بعين العائد المالي فقط، دون دراسة مآلاتها السياسية وانعكاساتها الأمنية، قد تؤدي النتيجة إلى تآكل تدريجي للسيادة الوطنية.
لذا، من الضروري أن تتبنى الدول استراتيجية تنويع الشراكات للحد من التبعية لأي طرف خارجي. كما ينبغي أن تكون هناك رقابة تشريعية مستقلة تضمن مراجعة العقود والاتفاقيات ذات البعد السيادي.
وأصبح من الضروري إعادة تعريف مفهوم الأمن القومي ليشمل الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية، لا الاقتصار على البعد العسكري فقط.
ومن الأهمية بمكان بناء قاعدة إنتاج وطني قوية تقلل الحاجة إلى تحالفات غير متكافئة. بالإضافة إلى ذلك، يجب انتهاج سياسات شفافة تعزز الثقة الشعبية وتحد من الارتهان للشرعية الخارجية.
في الواقع، ليست المصالح نقيضا للمبادئ، بل يجب أن تُدار ضمن رؤية استراتيجية طويلة الأمد. أما إذا تحوّلت المصلحة قصيرة الأمد إلى مبرر لتجاوز القيم أو لتمكين خصم استراتيجي من مفاصل القرار الوطني، فإن الخطر يصبح لا اقتصاديا فحسب، بل سياديا بالدرجة الأولى.
لقد أثبتت الوقائع مرارا أن من يبني أمنه القومي على صفقات مع خصومه وأعدائه، يشبه من يبني جدارا على رمال متحركة؛ فقد يوفر بعض الظلال المؤقتة، لكنه سينهار أمام أول هبّة ريح.
الربح يمكن تعويضه، أما السيادة إذا تآكلت، فاستعادتها قد تكون أشد كلفة وأصعب طريقا، تلك هي معادلة الأمن القومي الحقيقي.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الاقتصادية السيادة الصفقات اقتصاد صفقات سيادة امن اتفاق قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
الاتحاد: حان الوقت لتوحيد الصف العربي ضد مشروع إسرائيل المهدد للمنطقة
أكد المستشار رضا صقر، رئيس حزب الاتحاد، أن اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري جاء في توقيت بالغ الأهمية، وأقر مشروع قرار استثنائي يعكس خطورة ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي على يد الاحتلال الإسرائيلي.
وأوضح صقر، في تصريحات صحفية اليوم، أن القرار استخدم لغة حاسمة وغير نمطية، تؤكد أن العدوان المستمر منذ أكثر من 673 يوماً يمثل اعتداءً على جميع الدول العربية، وعلى مصالحها وأمنها القومي، الأمر الذي يستدعي موقفاً موحداً وفاعلاً لمواجهة هذه الجرائم.
وأشار رئيس حزب الاتحاد إلى أن استناد القرار إلى اتفاقية الدفاع العربي المشترك يعيد التأكيد على أن أي اعتداء على دولة عربية هو اعتداء على الكل العربي، مما يفرض على الدول الأعضاء تقديم كل أشكال الدعم والمساندة للشعب الفلسطيني، سواء سياسياً أو اقتصادياً أو أمنياً.
كما ثمّن صقر تكليف الجزائر والصومال، العضوين العربيين في مجلس الأمن، بتقديم مشروع قرار تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لإلزام الاحتلال بوقف عدوانه، ومنع تنفيذ مخطط فرض السيطرة العسكرية الكاملة على قطاع غزة تمهيداً لتهجير سكانه، مؤكداً أن هذه الخطوة تعكس إرادة عربية حقيقية للدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.