موسكو وكييف تعلنان تبادل دفعة جديدة من الأسرى .. و14 جريحا بغارات ليلية على خاركيف
تاريخ النشر: 12th, June 2025 GMT
عواصم "وكالات": أعلنت روسيا وأوكرانيا اليوم أنهما تبادلتا دفعة جديدة من أسرى الحرب، في ثالث عملية من هذا النوع تجري هذا الأسبوع في إطار اتفاق تم التوصل إليه أثناء محادثات للسلام عقدت في تركيا.
واتفق الطرفان في اسطنبول الأسبوع الماضي على إطلاق كل طرف سراح أكثر من ألف أسير، جميعهم جرحى أو دون الخامسة والعشرين، وإعادة جثث مقاتلين قضوا في الحرب.
وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عبر تلغرام "اليوم، يعود جنود من القوات المسلحة والحرس الوطني وحرس الحدود إلى ديارهم".
وأضاف "جميعهم بحاجة إلى العلاج الطبي" إذ أنهم "أصيبوا بجروح خطرة أو يعانون من المرض الشديد".
وقال الجيش الروسي من جانبه "أُعيدت مجموعة من العسكريين الروس" من أوكرانيا.
وبات الجنود الروس الذين تمّت مبادلتهم حاليا في بيلاروس، حليفة موسكو.
وقال زيلينسكي "نواصل العمل لإعادة الجميع من الأسر الروسي. نشكر كل من ساعد في جعل عمليات التبادل هذه أمرا ممكنا ليكون بإمكان كل منهم العودة إلى وطنهم أوكرانيا".
ونشر صورا للجنود الأوكرانيين الذين وضعوا على أكتافهم الأعلام الوطنية.
وقال أمين المظالم الأوكراني دميترو لوبينتس إن الجندي الأكبر سنا الذي أُفرج عنه الخميس يبلغ من العمر 59 عاما بينما الأصغر سنا 22 عاما. ومن بين هؤلاء أشخاص اعتُقد بأنهم "فقدوا أثناء أداء مهامهم".
وأما وسائل الإعلام الروسية الرسمية، فأظهرت الجنود الروس بالبزات العسكرية وهم يهتفون "روسيا، روسيا".
وتعد عمليات تبادل الأسرى النتيجة الملموسة الوحيدة لجولتي محادثات السلام اللتين عقدتا في اسطنبول ورفضت خلالهما روسيا الدعوات إلى وقف غير مشروط لإطلاق النار وطالبت أوكرانيا بالتخلي عن أجزاء كبيرة من أراضيها ومسعاها للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
وتمّت أول مرحلتين للتبادل الاثنين والثلاثاء فيما أعادت روسيا الأربعاء جثث 1212 جنديا أوكرانيا قتلوا في معارك منذ بدء الغزو الروسي.
جرح 14
أدت ضربات ليلية جديدة نفذتها روسيا بطائرات مسيّرة إلى جرح 14 شخصا بينهم أربعة قاصرين، في مدينة خاركيف في شمال شرق أوكرانيا التي تتعرض لغارات جوية شبه يومية.
وأعلنت أجهزة الطوارئ هذه الحصيلة الخميس في رسالة عبر تلغرام، فيما أكد حاكم المنطقة أوليغ سينيغوبوف أن طفلا يبلغ عامين وثلاث مراهقات من بين المصابين.
وقال رئيس البلدية إيغور تيريخوف، إن الهجمات وقعت بين الساعة 1,37 و3,08 صباحا، وتسبّبت بحرائق في مبان سكنية وتعليمية.
وأضاف أن حطاما سقط "بالقرب من ملاعب" للأطفال.
وليل الثلاثاء الأربعاء كانت ضربات روسية أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص وجرح نحو ستين آخرين في خاركيف التي كانت تضم قبل بدء الحرب في العام 2022 نحو 1,5 مليون نسمة.
وفي الأيام الأخيرة، كثفت روسيا غاراتها الجوية في أوكرانيا.
وتعثرت محادثات السلام الأخيرة بين موسكو وكييف، مع تمسك الجانبين بمواقف متباينة.
ورفضت موسكو هدنة "غير مشروطة" سعت إليها كييف مع الأوروبيين، فيما رفضت أوكرانيا مطالب روسيا ووصفتها بأنها بمثابة "إملاءات".
إعادة التسليح
دعا الرئيس التشيكي بيتر بافل الولايات المتحدة لمنح أوروبا المزيد من الوقت لإعادة التسليح وأهداف واقعية للاعتناء بأمن القارة واحتواء روسيا العدوانية على نحو متزايد.
وقال بافل إن الدول الأوروبية لا يمكنها ضمان سلام دائم في أوكرانيا بدون مساعدة أمريكية وإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب محق في المطالبة بزيادة الإنفاق الدفاعي بشكل كبير.
وأضاف بافل في مقابلة مع تلفزيون بلومبرج في مكتبه في براغ أن المسألة سوف تستغرق سنوات لاستبدال بعض وسائل الحماية التي توفرها واشنطن الآن.
وقال "سوف تحاول الولايات المتحدة ممارسة الضغط على الأوروبيين لفعل ذلك بشكل أسرع".
ويمثل بافل جمهورية التشيك في قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي تعقد في 24 إلى 25 يونيو في لاهاي.
وتأتي دعوة بافل قبل أسبوعين من التوقعات بموافقة قادة الناتو على إنفاق 5 % على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع وهو ما سيكون بمثابة الفوز لترامب الذي دفع أوروبا منذ فترة طويلة إلى زيادة الاستثمار في أمنها.
فشل الجولة الأخيرة
لم يكن فشل الجولة الأخيرة من محادثات السلام بين أوكرانيا وروسيا في مدينة اسطنبول التركية في تقريب وجهات النظر بين الجانبين مفاجئا مفاجئا. فقد تمسك الطرفان بمطالبهما القصوى، مع إبداء أقل قدر من المرونة. ففي حين لا تزال أوكرانيا تطالب بوقف إطلاق النار تمهيدا لمفاوضات السلام، تصر روسيا على ضرورة حل الأسباب الجذرية للصراع قبل تطبيق وقف إطلاق النار.
وفي تحليل نشرته مجلة ناشونال إنترست الأمريكية يقول توماس جراهام الباحث الزميل في مجلس العلاقات الخارجية وأحد كبار مسؤولي إدارة روسيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي سابقا، إنه رغم صعوبة الموقف مازال هناك أمل في تحقيق السلام، مشيرا إلى ضرورة اتخاذ 4 خطوات للوصول إلى هذا الهدف.
ويرى جراهام المسؤول في مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش أن الخطوة الأولى نحو السلام، تتمثل في إجراء مفاوضات سرية جادة بدلا من المحادثات العلنية التي أجريت في اسطنبول، حيث لا يمكن التوصل إلى تنازلات حساسة تتيح الوصول إلى اتفاق إلا في السر. هذا لا يعني أنه لا مكان للمحادثات العلنية، وإنما يمكن أن تستمر في مسار مواز لتحقيق نتائج إيجابية في مسارات أخرى أقل حساسية كما نجحت محادثات إسطنبول في التوصل إلى اتفاق بشأن تبادل الأسرى، والأهم من ذلك، أنها قد توفر غطاء للمحادثات السرية من خلال جذب انتباه وسائل الإعلام بعيدا عن المفاوضات السرية.
الخطوة الثانية هي دمج محادثات السلام ضمن مناقشات قضايا الأمن الأوروبي والاستقرار الاستراتيجي. فالحرب ليست سوى جانب واحد من صراع روسيا الأوسع نطاقا مع الغرب. ويستحيل تحقيق تقدم ملموس نحو إنهاء الحرب دون محادثات موازية حول هذه القضايا ذات الأهمية الاستراتيجية لموسكو.
لذلك يحتاج الأمر إلى تشكيل مجموعات مختلفة من الدول المعنية للتعامل مع الجوانب المنفصلة لهذه القضايا. فبوضوح كامل لا معنى لمناقشات قضايا الأمن الأوروبي دون مشاركة أوروبا. في الوقت نفسه فإن محادثات الاستقرار الاستراتيجي ستضم روسيا والولايات المتحدة بشكل مباشر، في حين ستكون روسيا وأوكرانيا المحاورين الرئيسيين في قضايا أضيق نطاقا، مثل تبادل الأسرى. بينهما
أما الخطوة الثالثة فتترتب على الخطوة الثانية، وتتمثل في انخراط إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشكل فعال في الجهود الدبلوماسية الرامية إلى تحقيق السلام. فالقيادة الأمريكية ستكون مطالبة بتنسيق المحادثات حول الحرب، والأمن الأوروبي، والاستقرار الاستراتيجي، على الأقل لكونها طرفا محوريا في هذه القضايا الثلاث.
وبفضل نفوذها القوي على طرفي الحرب، تمتلك واشنطن مفاتيح وقف إطلاق نار دائم وسلام مستقبلي. فكييف بحاجة ماسة إلى دعمها المعنوي والمادي المستمر؛ في حين ترى موسكو أن تطبيع العلاقات مع القوة العالمية الأبرز أمر بالغ الأهمية لترسيخ مكانة روسيا كقوة عظمى. كما أن الولايات المتحدة، إلى جانب روسيا، هي الدولة القادرة على تغيير شروط الأمن الأوروبي من جانب واحد.
علاوة على ذلك، تعد روسيا إحدى القوتين النوويتين العظيميين اللتين تحددان معالم الاستقرار الاستراتيجي ليس في أوروبا فقط وإنما على مستوى العالم.
وتتمثل مهمة واشنطن الملحة لإنهاء الحرب، في وضع اتفاقية إطارية، ومجموعة من المبادئ والمعايير الخاصة بوقف إطلاق النار والتسوية الدائمة بهدف تضييق الفجوة بين مواقف روسيا وأوكرانيا. وتعتبر ضمانات الأمن لكل من موسكو وكييف والتعامل مع الأراضي المتنازع عليها بينهما القضايا الأشد صعوبة التي يجب التعامل معها.
والحقيقة هي أن وجود الولايات المتحدة كضامن أساسي للأمن الأوروبي منذ الحرب العالمية الثانية، كان السبب الرئيسي لاستدامة أمن أوروبا حتى الآن. لذلك فالضمانات الأمنية الأمريكية وحدها قادرة على التوفيق بين الطرفين للوصول إلى تسوية مقبولة من الجانبين حتى إذا لم تكن تلبي أقصى مطالب كل طرف.
الخطوة الأخيرة تتمثل في ضرورة استمرار الدعم الأمريكي الكامل لأوكرانيا وبخاصة الدعم العسكري. فمن المهم إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوين بأن الصراع لن ينتهي بانتصاره في أرض المعركة واستسلام أوكرانيا، وإنما من خلال تسوية تفاوضية يتخلى فيها كل طرف عن أهدافه القصوى لصالح الحصول على مطالبه الضرورية بشأن الأمن. لذلك فإن تحرك إدارة ترامب لتوفير تمويل إضافي جديد لدعم أوكرانيا من شأنه أن يساهم بشكل كبير في تهيئة الأجواء لنجاح المحادثات، بغض النظر عن مدى حدة انتقاد الكرملين لمثل هذه الخطوة علنا.
أخيرا، يقول توماس جراهام إنه حتى إذا تم تنفيذ هذه الخطوات الأربع، سيظل الطريق نحو السلام طويلا وشاقا. فالوصول إلى الحلول الوسط والتنازلات المتبادلة الضرورية لن يكون سهلا. فأي تسوية لن تسفر عن النصر الواضح الذي تأمله أوروبا وأوكرانيا. ففي نهاية المطاف لن يخسر المعتدي كل المكاسب التي حققها. ولن يتم ضبط وإحضار بوتين أمام المحكمة الجنائبة الدولية لمحاكمته كمجرم حرب. ولن تدفع روسيا تعويضات عن كل الأضرار والخسائر التي تسببت فيها الحرب.
وبدلا من ذلك ستضطر الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون وأوكرانيا لإيجاد طريقة للتعايش مع روسيا، لآن السلام يجب أن يكون هو الأولوية لجميع الأطراف من أجل حماية الأرواح وتجنب المزيد من الدمار، أما العدالة فيمكن تحقيقها بطريقة تراكمية عبر الزمن كما حدث أثناء الحرب الباردة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة محادثات السلام الأمن الأوروبی إطلاق النار
إقرأ أيضاً:
روسيا التي صنعها بوتين.. كيف أُعيد تشكيل البلاد ؟
قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما، ومع مطلع عهد فلاديمير بوتين، كان مستقبل روسيا السياسي يبدو غامضا ومتضاربا. فقد عززت الدولة بعض الحريات وقمعت غيرها؛ وألمحت إلى الديمقراطية، لكنها أبقت على قبضتها المحكمة في إدارة الشؤون السياسية.
فتحت الباب أمام رأسمالية السوق، لكنها سمحت في الوقت نفسه للأوليغارشيين والمقربين من السلطة والمسؤولين بالاستحواذ على تلك الأسواق. وتسامحت مع مساحة محدودة من الصحافة الجريئة وإن كانت تعرض أصحابها للضغوط والتهديد.
والأهم أن ارتفاع أسعار النفط وتحسن مستويات المعيشة وتنامي العلاقات مع الغرب جعلت روسيا تبدو وكأنها توفر حياة مستقرة وواعدة لمواطنيها، ما داموا يلتزمون بالابتعاد عن السياسة.
ما افتقرت إليه الدولة، وليس مصادفة، هو أي توجه أيديولوجي واضح. وكان ذلك انعكاسا مباشرا للواقع السياسي في مرحلة ما بعد 1991، حين اعتاد الروس الشك بعد تجربة تدهور الاتحاد السوفييتي ثم انهياره. فقد أصبح فرض قناعة جماعية مهمة صعبة، ومكاسبها غير مؤكدة.
ومع دخول القرن 21، حمل الروس رؤى متناقضة: هل كانت الشيوعية مشروعا نبيلا أم خطأ فادحا؟ وهل شكل انهيار الاتحاد السوفييتي لحظة تحرر وفرص، أم بداية معاناة؟ في ظل هذا الارتباك، بدا للسلطة أن الحفاظ على مساحة رمادية واسعة - تشبه إلى حد ما عالم السياسة الحزبية الأمريكية - أنفع من فرض عقيدة محددة أو تحديد ما يجب على الناس الإيمان به.
لكن الأمر كان أيضا مسألة قانونية. فقد اعترفت المادة 13 من دستور روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي رسميا بالتنوع الأيديولوجي للدولة، وحظرت تأسيس دولة بأيدولوجية واحدة. حتى بوتين لم يُبدِ أي التزام بهذا المبدأ. كما لاحظ الصحفيان الاستقصائيان الروسيان أندريه سولداتوف وإيرينا بوروجان في كتابهما: أصدقاؤنا الأعزاء في موسكو: القصة الداخلية لجيل مكسور(الشؤون العامة، 2025، 336 صفحة).
أجرى زملاؤهما مقابلة مع بوتين عام ٢٠٠٠، في الأشهر الأولى من توليه منصبه، وسألوه عما إذا كانت روسيا بحاجة إلى أيديولوجية جديدة. رفض الفكرة رفضا قاطعا. وقال: «لا يمكن اختراعها عمدا»، مضيفا أن البلاد بحاجة بدلا من ذلك إلى «تعزيز الدولة والاقتصاد والمؤسسات الديمقراطية، بما في ذلك حرية الصحافة».
اليوم، يبدو هذا وكأنه خيالٌ منسيٌّ منذ زمن. لم يعد الكرملين متمسكا بأي ادعاءات ديمقراطية. يبدو أن بوتين مقدر له أن يحكم إلى أجلٍ غير مسمى، وحتى في المراحل الأخيرة من الانتخابات، يمنع المرشحون المستقلون من الترشح.
اختفت الصحافة الحرة، وكذلك جميع أنواع الحريات الأساسية، مهما كانت محدودة: فضغط «إعجاب» على منشور خاطئ على وسائل التواصل الاجتماعي أو تبرع لمؤسسة تُعتبر غير قانونية يكفيان لعقوبة سجن طويلة.
انقطع الاقتصاد إلى حد كبير عن الغرب؛ السفر إلى أوروبا محفوف بالمخاطر ومكلف ومعقد. والأهم من ذلك كله، استغلت الدولة الأيديولوجية لتبرير نفسها أمام الجمهور وتقديم رواية توجيهية: إمبريالية وعسكرية، محافظة ومعادية للغرب.
كتابان جديدان يتتبعان منحنى هذا التحول، ويعرضان عودة ظهور الأيديولوجية كمسألة محورية لكل من الدولة والمواطن في روسيا اليوم. في كتاب أصدقائنا الأعزاء في موسكو، ينظر سولداتوف وبوروجان إلى جيلهم .
يرويان قصة مجموعة من الأصدقاء والزملاء السابقين، الشباب الروس الذين، على مدار سنوات بوتين، تكيفوا بثبات مع النظام الحاكم، وانجرفوا نحو الأفكار والتبريرات القومية وغير الليبرالية، وانتهى بهم الأمر كمؤيدين لحرب روسيا في أوكرانيا. من خلال تركيز كتابهما على القيم المتغيرة لهؤلاء الأصدقاء، يوضح سولداتوف وبوروجان كيف أن استراتيجية بوتين المتعمدة «لعزل روسيا عن الغرب»، كما قالا، قد قويت من قبل الروس أنفسهم.
في كتابها الأيديولوجية وصنع المعنى في ظل نظام بوتن، (مطبعة جامعة ستانفورد، ٢٠٢٥، ٤١٤ صفحة)، توضح المؤرخة وخبيرة العلوم السياسية الفرنسية مارلين لارويل كيف كانت الديناميكية المتغيرة باستمرار بين الدولة والمجتمع أساسية في قوة بوتن. تشير الكاتبة إلى أن جهود بوتين لبناء أيديولوجية وطنية إمبريالية جديدة لا تعتمد فقط على قيم مفروضة من الأعلى، بل تعتمد أيضا على استغلال الأفكار والتوجهات الفكرية السائدة في المجتمع.
وتشير هذه الكتب مجتمعة إلى أن الأفكار التي حركت حرب روسيا المستمرة في أوكرانيا وصراعها الأوسع مع الغرب، ليست تعسفية أو غير عقلانية، بل إنها نتاج التفاعل الطويل والمتطور بين نظام بوتين والشعب الذي يحكمه.
في الصفحات الافتتاحية من أصدقائنا الأعزاء في موسكو، تم تعيين سولداتوف وبوروجان للتو في صحيفة إزفستيا، صحيفة رسمية سابقة، ثم أصبحت صحيفة مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
خلال التسعينيات، اكتسبا قدرا ضئيلا من الحرية الجريئة في قول الحقيقة للسلطة، وسرعان ما وجد المؤلفان أنفسهما مندفعين إلى دائرة نشطة وطموحة من الزملاء والأصدقاء والمنافسين وشركاء النقاش الفكري، وحوارات استمرت لسنوات، وتطورت بالتزامن مع تحول روسيا في عهد بوتين.
منذ بدايات حكم بوتين، بدأت ولاءات أصدقاء موسكو تتغير، حيث صُدم سولداتوف وبوروجان من رد جهاز الأمن الداخلي الروسي على أزمات احتجاز الرهائن في نورماندي- أوستريا ٢٠٠٢ وبيسلان ٢٠٠٤. لاحظا زملاءهم يتأثرون بالجهاز، من كتابة مقالات تصدر مباشرة من الأمن الفيدرالي إلى إنتاج أفلام وثائقية مليئة بنظريات المؤامرة ومعاداة الغرب، وشعرا بأن اثنين من أصدقائهما انتقلوا إلى «الجانب الآخر».
مع نهاية فترة الاستقلال النسبي لصحيفة إزفستيا، بدأ مسار سولداتوف وبوروجان ينحرف عن زملائهم الملتزمين بالقواعد. بدت مقاومة الوضع الجديد بلا جدوى، فتوجه الكثيرون للمسارات المهنية والمالية. في الوقت نفسه، أطلق سولداتوف وبوروجان موقعهما الاستقصائي «Agentura.ru» حول أجهزة الأمن الروسية، مشيرين لاحقا إلى شعورهم بعدم مواكبة جيلهم في منتصف الثلاثينيات.
منذ عام 2008، بدا مسار روسيا السياسي غامضا، مع تنحي بوتين مؤقتا لصالح ميدفيديف، ثم عودته للرئاسة عام 2012 وسط احتجاجات وقمع واسع. مع تصاعد السيطرة السياسية، بدأت الأيديولوجية الروسية الرسمية في الظهور، وبرزت مجموعة من القيم «الروسية» التي دافع عنها بوتين واعتبر معارضوه أعداء للبلاد. وفي هذه الأثناء، تغيّرت مواقف العديد من أصدقاء سولداتوف وبوروجان: بعضهم أصبح مؤيدا قويا للسلطة وشارك في دعم الحروب، بينما اضطر سولداتوف وبوروجان للفرار إلى لندن مع الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022.
يكتشف سولداتوف وبوروجان، أثناء مراجعة مسار أصدقائهما القدامى، أن الكثير من هذه النخبة المثقفة تحوّلت طوعا إلى أدوات في آلة الحرب الروسية، مؤيّدين الغزو وأيديولوجية الكرملين المعادية لليبرالية والغرب.
ويصف المؤلفان كيف يعيش الروس اليوم كما لو كانوا متفرجين على قوى لا يمكن مقاومتها، كما حدث في عهود الاستبداد السابقة. الخيار أمامهم - كما يرونه - إما البقاء خارج النظام مع حتمية الإقصاء والقمع، أو البقاء داخله والقيام بدور فيه. وقد اختار معظم أصدقاء المؤلفَين الطريق الثاني، مدفوعين بالطموح والرغبة في البقاء ضمن المنظومة.
ترى لارويل أنّ قصة أصدقاء سولداتوف وبوروجان تعبر عن القوى العميقة التي شكلت عهد بوتين. فالعلاقة بين النظام والمجتمع ليست استبدادا خالصا، بل علاقة تشاركية قائمة على عقد اجتماعي غير معلن يعاد تشكيله باستمرار.
لكن ثابتا واحدا لم يتغير: قناعة بوتين بأن مهمته هي إعادة روسيا إلى مكانة القوة العظمى. الوسائل وحدها هي التي تغيرت، إذ لجأ النظام إلى خليط من الأفكار- الأرثوذكسية والقيصرية والإرث السوفييتي والشعبوية و»الأوراسية»- لتبرير سياساته وتفسيرها.
توضح لارويل أن نظام بوتين انتقائي ونفعي، لا يقوم على عقيدة سياسية ثابتة، بل يسحب من «مخزن» الأفكار ما يخدم رؤيته ومصالحه في اللحظة. داخل هذه الديناميكية، يمكن للأفكار أن تصعد من النخب إلى القيادة كما يمكن أن تُلقى من فوق نزولا إلى المجتمع.
تضرب مثالا بإيفان إيلين الذي تبنى بوتين بعضا من أفكاره، بينما لم تصمَّم كتاباته أصلا للجمهور العام، بل للنخبة المحيطة بالسلطة. وتشير أيضا إلى «رواد الأعمال الفكريين» الذين يسمح لهم النظام بالدفع بأيديولوجياتهم الخاصة طالما أنها تفيد الدولة أو تتقاطع مع مصالحها- مثل الأوليغارشي المحافظ مالوفيف أو المنظّر المتطرف دوجين، الذي تُستخدم أفكاره بشكل انتقائي كلما احتاجها الكرملين.
وفق تحليل لارويل، بعد عودة بوتين للرئاسة عام 2012، تخلّى النظام بوضوح عن النموذج الغربي الحديث لصالح عقيدة انتقامية تبرز العداء للغرب والليبرالية، وتمجد عظمة روسيا وقادتها عبر التاريخ. تراكمت لدى بوتين والدائرة الأمنية حوله مظالم جيوسياسية- من الثورات الملونة إلى توسع الغرب شرقا- فتحولت إلى رؤية تعتبر النظام الليبرالي العالمي مجرد غطاء للهيمنة الأمريكية ومحاولة لتطويق روسيا.
هذه الرؤية دفعت بوتين إلى تبني دور «مهندس الفوضى» خارج حدوده، ومع تقدم النظام في العمر ازدادت نظرته للعالم تصلّبا. يبرز هنا مفهوم «روسيا الكاتيكونية»، الذي يصور روسيا كقوة مكلفة بحماية النظام العالمي من الانهيار، مستندة إلى مزيج من الأرثوذكسية كدرع روحي والقوة النووية كدرع مادي. في هذا الإطار تبرَر السياسات العدوانية- من ضمّ القرم إلى التدخل في سوريا- وتقدّم كأفعال ضرورية وفاضلة، وهو المنطق نفسه الذي يبرر الحرب الواسعة على أوكرانيا.
منحت الحرب في أوكرانيا نظام بوتين أيديولوجية أكثر تماسكا، إذ أعادت إحياء النزعة الإمبريالية الروسية وجمعت أفكار النظام المختلفة في قضية وجودية واحدة. ثلاثة عوامل خدمت الكرملين: تجنب الهزيمة في الميدان، خوف الروس من خسارة الحرب بغض النظر عن موقفهم من بدايتها، وضمان بقاء سلطة بوتين.
تستعرض لارويل ملامح «الإمبراطورية الروسية» كما يراها النظام: تعزيز نفوذ الدولة خارجيا، واستخدام خطاب قومي، وحماية النظام، ودور بوتين التاريخي الذي لا يُمس. وفي الوقت نفسه، نجحت موسكو في ترويج الحرب للداخل وللجنوب العالمي كـ«حرب تحرير» ضد الهيمنة الغربية، وهو تأطير براجماتي لكنه يعكس جانبا من رؤيتها للعالم.
وبما أن الاندماج مع الغرب بشروط روسية لم يتحقق، ترى موسكو أن التحالف مع العالم غير الغربي لتغيير النظام الدولي هو الخيار الأجدى.
ورغم أن الحرب صنعت دولة أكثر وحدة وأيديولوجية أوضح، إلا أن ذلك لا يعني أن بوتين يملك سلطة مطلقة. فحكمه يوصف بأنه لا يسعى لقولبة عقول الناس بل لتهميش الأيديولوجيات المنافسة وتقديم حوافز ضخمة للولاء. وترصد لارويل بدايات «فاشية مجزأة» يدعو بعض الروس من خلالها إلى عسكرة كاملة، في حين يفضل معظمهم عدم الانجرار للحرب وإبقائها بعيدة عن حياتهم اليومية والاقتصاد الثقافي والمدني.
يستفيد نظام بوتين حاليا من خضوع الناس لا حماسهم، لكن استمرار الحرب سيجبره على تجنيد مزيد من المقاتلين، معظمهم من المناطق الفقيرة التي تُغريها المكافآت المالية. ويعتمد نجاح أيديولوجية الدولة على قدرة الكرملين على حماية الطبقات العليا والمتوسطة من تأثير الحرب.
تتوقع لارويل أن الحرب ستنتهي، لكنها لا ترى أنها ستقود إلى انفتاح ليبرالي جديد؛ فالإعجاب السابق بالغرب تلاشى داخل المجتمع والنخبة. مؤيدو الحرب يرون الغرب عدوا، وحتى معارضوها يشعرون بالمرارة تجاه عجز الغرب وموقفه العقابي من الروس. كما أن الأوروبيين، في 2024، دفعوا لشراء الطاقة الروسية أكثر مما قدموا لأوكرانيا من مساعدات.
جوشوا يافا مراسل صحيفة النيويوركر في موسكو عين زميلا في مؤسسة نيو أمريكا لجهوده في روسيا، وحائز على جائزة برلين من الأكاديمية الأمريكية
عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»