إيران، وإسرائيل وأمريكا: معركة إعادة الاعتبار للحقائق الاستراتيجية
تاريخ النشر: 29th, June 2025 GMT
في عنوان المقال تظهر أولى هذه الحقائق الاستراتيجية؛ فالمواجهة الإيرانية مع كل من أمريكا وإسرائيل ليست الحرب، لكنها معركة واحدة من معارك عديدة في حرب لم تنتهِ فصولها بعد.
يتحدث السياسي المتطرف أفيغدور ليبرمان عن حرب توقفت في منتصف الطريق، ويتحدث المحللون عن حرب (لا غالب ولا مغلوب). أما ترامب الذي يقول: إنه صنع السلام، وفرض وقف إطلاق النار؛ فهو بنفسه الذي قال بعد يومين فقط من وقف النار: إن الحرب قد تندلع مرة أخرى بين طهران وتل أبيب، وقد يكون هذا الاندلاع الجديد قريبًا.
الإيرانيون من جهتهم قالوا: إنهم لا يثقون بأمريكا ولا إسرائيل، وهم يعلمون أن عملًا خبيثًا - حربًا أخرى - قد تُشن عليهم، وهم جاهزون لذلك.
الحقيقة الاستراتيجية الثانية هي أن الأمم والدول القديمة صاحبة الحضارات تلك التي لم تنشئها الهندسة الاستعمارية الغربية -من سايكس-بيكو إلى انسحاب شرق السويس- هي أمم ودول قد تسقط، لكنها تنهض من جديد، وقد تضعف، لكنها لا تموت.
فجوهر ما حدث في معركة الـ12 يومًا في يونيو الجاري أن إيران لم تنهَر أو تجثُ على قدميها من الضربات شديدة القسوة، شديدة الفعالية، التي شنها العدوان الإسرائيلي على إيران، وأدّت لخسائر عسكرية جسيمة، وتصفية الصف الأول من القيادات العسكرية، وكبار العلماء النوويين.
هنا نهضت الأمة القديمة -النظام السياسي-، وتقدّمت الدولة الموغلة في التاريخ بكل طبقاتها الجيولوجية الحضارية المتراكمة منذ آلاف السنين. وما بدا أنه هزيمة ساحقة للوهلة الأولى أدّى إلى مسار معاكس؛ فقد استنفر بل استفزّ كل أدرينالين المقاومة في جسد الأمة الإيرانية.
أما عقلها المتجسّد في طبقتها السياسية، ونخبتها المثقفة، فدخل في لحظة وحدة نادرة «لم يكن النظام السياسي الإيراني يحلم بها»، على حد تعبير أحد أهم الخبراء المصريين في الشأن الإيراني.
وضعت أغلبية النخبة خلافاتهم مع النظام ومع بعضهم البعض ـ سواء كتيارات محافظة وإصلاحية داخل النظام، أو معارضين للنظام الإسلامي الإيراني كله ـ خلف ظهورهم حتى انتهاء الحرب. تماسك الإيرانيون بعد ساعات من ضربة كانت لتُسقط الدول الحديثة التي لم تنجح حتى الآن في أن تكون شعبًا أو أمة متجانسة الهوية والنسيج الاجتماعي.
يعترف ترامب بأن الإيرانيين وقفوا على أقدامهم، وردّوا على إسرائيل الضربة، وأنهم قاتلوا بشجاعة.
منذ حرب أكتوبر 1973، وبالتحديد منذ أخرج الرئيس السادات مصر من المواجهة مع إسرائيل؛ لم تقع حرب نظامية واحدة بين دولة عربية ودولة الاحتلال الإسرائيلي.
تحملت حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعربية عامة عبء المواجهة مع إسرائيل في نصف القرن الماضي بأكمله (1982، 2000، 2006، أربع حروب بين غزة وإسرائيل، حتى طوفان الأقصى في 2023).
وتُسمى هذه الحروب بين دولة مثل إسرائيل وميليشيات مقاومة مسلحة بالحروب غير النظامية - غير المتماثلة - حيث تتفاوت القدرات العسكرية والتقنية والبشرية بين الطرفين، وتنحو الدولة فيها نحو إبادة خصمها، بينما تنحو الميليشيات المقاومة لاستنزاف الدولة العدو، وإنهاكها.
لكن الحرب النظامية بين دولتين وقعت أخيرًا، ولكنها لم تكن هذه المرة بين دولة عربية وإسرائيل، بل بين إيران وإسرائيل.
الحقيقة الاستراتيجية الثالثة أن هذه المعركة أعادت الاعتبار للحرب بين الدول أو الحرب النظامية باعتبارها حروبًا منهكة أكثر بسبب التكافؤ، أو على الأقل الميزات المتبادلة لدى الدولتين المتحاربتين.
يعترف ترامب بأن سببًا رئيسيًا لوقف الحرب هو أن إسرائيل كانت مُجهدة تمامًا مثلها مثل إيران، وأن كلتيهما رغبتا في وقت متزامن في وقف القتال.
بتعبيرات لمحللين إسرائيليين؛ فإن ضربات إيران الموجعة للداخل الإسرائيلي، وحالة الرعب التي نشرتها في مجتمع فيه نسبة كبيرة من المهاجرين من أصقاع الأرض- كانت استنزافًا لا يُحتمل، ويصعب الاستمرار فيها طويلًا.
ويُلخّص خبير عسكري إسرائيلي هذه الحقيقة بقوله: «من المهم أن نفهم أن إيران دولة كبيرة، ولديها صبر، وقدرة على تلقّي الضربات، وعلى النهوض من جديد، بشكل مختلف كليًّا عن التنظيمات المسلحة غير النظامية التي اعتدنا ضربها حولنا».
أحيت «عملية الاستعانة بصديق»، وما رافقها من تصريحات للمستشار الألماني بأن إسرائيل - وهي تحارب إيران - إنما تقوم «بالعمل القذر نيابة عن الغرب»، مسارين مخيفين لصراع الحضارات كانا قد بهتا نسبيًّا، وفتر إيمان الناس بمنظّريها مثل: هنتنغتون، وفوكوياما، وبرنارد لويس.
من شأن هذين المسارين في المستقبل أن يُحْبطا بقسوة أي فرصة لإدماج إسرائيل في المنطقة، أو تحسين صورة أمريكا التي وصلت إلى الحضيض لدى شعوب المنطقة كما لم تصل إليه في العقود الثمانية الماضية.
المسار الأول هو الذي ذهبت إليه تيارات الهوية في المنطقة -خاصة التيار الإسلامي-، وهو أن انخراط واشنطن في الحرب، وتصريحات قادة الغرب والدول السبع الكبرى هو استمرار للصراع بين الغرب والشرق منذ الحروب الصليبية، وهي حرب تحالف الصهيونية والمسيحية الصهيونية ضد الحضارة العربية والإسلامية.
المسار الثاني مسار التيارات المدنية اليسارية، وتيارات الاستقلال عن الغرب عمومًا الذين اعتبروا أن ما فعلته واشنطن والغرب ضد إيران في هذه الحرب يؤكد أن الإمبريالية الغربية وقاعدتها الوظيفية - إسرائيل - لن تترك أي مشروع للتحرر من الهيمنة الغربية عبر الاستقلال السياسي، والتنمية المستقلة عن المركز الرأسمالي يرفع رأسه في الشرق الأوسط.
وإن الحاجة باتت ماسة لتنسيق استراتيجي بين الأمم الأصيلة فيه - وهي العربية والتركية والإيرانية -؛ لمواجهة المشروع الإمبريالي ورأس حربته.
ثمة حقيقة استراتيجية أخرى ثبّتها صراع يونيو 2025 الإيراني/الأمريكي الإسرائيلي، وهي صحة موقف الدول العريقة التي بنت سياستها الخارجية ـ خاصة تجاه دول الجوار ـ على أساس أن الجغرافيا لا تتبدّل، وأن التعايش السلمي، وحسن الجوار، واحترام النظام الداخلي لكل دولة، هو الذي يصنع الاستقرار، ويوفر فرصًا للتنمية والتقدم.
فقد أضعف التدخل العسكري الأمريكي المباشر دعمًا لإسرائيل عشرات المليارات من الدولارات التي أنفقتها واشنطن، وتل أبيب، والدول السبع الكبرى الأنجلوساكسونية، والناتو، ودول عربية، على مدى 30 عامًا وأكثر، في الإعلام والدعاية لشيطنة إيران في العالم السني.
فقد اكتسبت إيران تعاطفًا إسلاميًا وعربيًا تخطى نسبيًّا الحدود المذهبية لأول مرة، وجعل وجود تأييد شعبي لتحالف عربي-إسرائيلي، وتطبيع إبراهيمي شامل أمرًا مشكوكًا فيه، بل يجعل المضي فيه عملًا مزعزعًا لشرعية الحكومات العربية التي قد تُقدم عليه إذا لم يقترن هذا التطبيع بحل منصف للقضية الفلسطينية، وهو حل جعلته الطبقة السياسية الإسرائيلية من المحرّمات والمستحيلات.
حسين عبد الغني كاتب وصحفي مصري.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
تركيا تُحذّر من احتمال تجدد المواجهات بين إيران وإسرائيل
حذّرت تركيا من احتمال تجدّد الصراع والمواجهات بين إسرائيل وإيران، مشيرة إلى أن القضية النووية تُمثّل بُعداً واحداً فقط من أبعاد الصراع بين البلدين.
ووفقاً لـ “الشرق الأوسط” نبّه وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان بأن المنطقة بحاجة لأن تكون في حالة تأهب قصوى لاحتمال انهيار وقف إطلاق النار، وتجدد الهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل.
وأوضح أن الحرب انتهت بعد 12 يوماً، لكن هناك وقف إطلاق نار أبرم بناءً على افتراض القضاء على القدرة النووية الإيرانية، لكن القضية النووية ليست سوى بُعد واحد من العملية بين إسرائيل وإيران، وهناك عناصر أخرى إلى جانب ذلك.
أخبار قد تهمك ارتفاع عدد وفيات الأطفال في غزة بسبب سوء التغذية إلى 66 28 يونيو 2025 - 4:19 مساءً قتيلة و20 جريحا بضربات إسرائيلية على جنوب لبنان 27 يونيو 2025 - 6:57 مساءًتأثير شامل
ولفت فيدان، خلال مقابلة تلفزيونية ليل الجمعة – السبت، إلى أن الحرب بين إيران وإسرائيل لا تُؤثر على البلدين فحسب، بل تشمل تداعياتها المنطقة أيضاً، مضيفاً أن «الهجوم الإسرائيلي دفع إيران إلى موقف دفاع مشروع عن النفس».
وذكر فيدان أن هناك أيضاً حسابات سياسية خاصة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فيما يتعلّق بالسياسة الداخلية، «في الواقع، وللأسف، رأينا هنا مجدداً مدى تأثير السياسة الداخلية على السياسة الدولية».
وأضاف فيدان أن العالم أجمع رأى «عقلية سياسية» (نتنياهو) لا تتردد في دفع المنطقة إلى النار فقط من أجل مستقبلها السياسي، وتوقعنا أن الحرب لن تنحصر في غزة فقط بل ستنتقل إلى جغرافيا أخرى وهي إيران، وهذا ما حدث بالفعل.
وتابع: «تبيّن أن إسرائيل ليست بالقوة التي تُمكنها من القضاء على القدرات النووية الإيرانية بمفردها».
ولفت فيدان إلى أن قيام إيران والولايات المتحدة بإبلاغ بعضهما البعض قبل تنفيذ الهجمات يُعد أمراً نادر الحدوث في تاريخ الحروب، فأساس الحرب هو المباغتة، أما في هذه الحالة فالأطراف يوجهون رسائل من قبيل: «أقصف هذا الموقع لأسباب اضطرارية محددة، لكنني لا أرغب في خوض حرب».
وذكر فيدان أنه تلقّى اتصالاً هاتفياً من وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، ليلة الهجوم الإسرائيلي على إيران؛ حيث ناقشنا بعض القضايا، وأعرب الأميركيون عن قلقهم بشأن الأمن، مؤكدين عدم وجود أي دور لهم في هذا الهجوم، وأنه ينبغي لإيران ألا تُهاجم.
وأضاف: «وفي اليوم الذي كانت فيه القاذفات الأميركية تُحلّق في الجو، ناقشنا إمكانية الهجوم مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الذي كان في إسطنبول للمشاركة في اجتماع وزراء خارجية دول منظمة التعاون الإسلامي، وأجرينا تقييماً للوضع، وهل ستقوم أميركا بهجوم واسع أم لا، ثم وقع الهجوم، واستُهدفت 3 منشآت نووية إيرانية».
تدمير القدرات الإيرانية
وقال فيدان إنه «نتيجة العملية العسكرية التي نفذتها الولايات المتحدة أصبح من الواضح أن المنشآت النووية في إيران تعرضت لأضرار بالغة، وأصبحت غير صالحة للاستخدام. يُمكننا الآن أن نتحدث عن ضربة كبيرة للغاية استهدفت البرنامج النووي لإيران».
وأكد ضرورة التوصل إلى اتفاق بين إيران وأميركا، قائلاً: «حالياً هناك فترة صمت، لكن لجعلها أكثر ديمومة لا بد من التوصل إلى اتفاق بينهما، كلا الجانبين لديه الرغبة في الجلوس إلى طاولة المفاوضات، والأوروبيون أيضاً لديهم عملية يرغبون في المُضي بها مع الإيرانيين».
وذكر أن «التحدي الأكبر أمامنا هو المفاوضات، عندما تجلس إيران إلى الطاولة، هل سيقتصر الأميركيون على القضية النووية، أم سيطرحون ملفات أخرى؟ إذا طرحوا ملفات أخرى، فلا أعتقد أن الإيرانيين سيناقشونها».
وأضاف الوزير التركي: «لا أعتقد أنه سيتم النظر بإيجابية في الوقت الحالي، بعد مرور 12 يوماً على الحرب، إلى العروض التي تطالب باستسلام شامل وتشمل إزالة القدرات غير النووية أيضاً».
المفاوضات النووية ضرورة
وعبّر فيدان عن اعتقاده بأنه ستكون هناك مفاوضات وجهود للتوصل إلى تفاهم مشترك على غرار التوافق الذي كان قائماً خلال فترة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
وذكر أن الرئيس رجب طيب إردوغان نقل رسالة إلى الجانبين، معرباً عن استعداد تركيا للقيام بأي دور ضروري.
وأضاف: «لكن لديّ الآن حدساً بأن العملية التي بدأت في عُمان خلال السنوات القليلة الماضية سيعاد إحياؤها، ربما يرغبون في تجربتها مرة أخرى، بصراحة، أعتقد أنهم قادرون على التوصل إلى اتفاق بشأن الطاقة النووية، يمكنهما الاجتماع في مكان ما، لأن المسألة تتعلق بطبيعة التخصيب، ولدينا بعض الأفكار التي أبلغناهم بها، لأن مواقفهم الأولية تُشبه تماماً مواقف الحرب الروسية الأوكرانية، أي أنهم مختلفون تماماً».
وعَدّ فيدان أن هناك حاجة إلى «بعض الأفكار الإبداعية» التي ستجمع هذه المواقف وتنشرها على المدى الطويل، قائلاً: «نحن نطرحها على جدول الأعمال، لقد رأينا بالفعل أن بعضها قُبِل ووضع موضع التنفيذ فوراً، وهناك جهات فاعلة أخرى أيضاً».
وذكر أن تركيا قدمت أفكاراً لسد الفجوة، إذ لا تزال القضية الجوهرية قائمة، فالولايات المتحدة تريد عدم تخصيب اليورانيوم في إيران، في حين تُصر إيران على حقها في الطاقة النووية السلمية.