في عنوان المقال تظهر أولى هذه الحقائق الاستراتيجية؛ فالمواجهة الإيرانية مع كل من أمريكا وإسرائيل ليست الحرب، لكنها معركة واحدة من معارك عديدة في حرب لم تنتهِ فصولها بعد.

يتحدث السياسي المتطرف أفيغدور ليبرمان عن حرب توقفت في منتصف الطريق، ويتحدث المحللون عن حرب (لا غالب ولا مغلوب). أما ترامب الذي يقول: إنه صنع السلام، وفرض وقف إطلاق النار؛ فهو بنفسه الذي قال بعد يومين فقط من وقف النار: إن الحرب قد تندلع مرة أخرى بين طهران وتل أبيب، وقد يكون هذا الاندلاع الجديد قريبًا.

بل إنه قال: إن بلاده ستنضم لهذه الحرب، وستقوم مجددًا بضرب إيران إذا عادت لتخصيب اليورانيوم على أراضيها!!

الإيرانيون من جهتهم قالوا: إنهم لا يثقون بأمريكا ولا إسرائيل، وهم يعلمون أن عملًا خبيثًا - حربًا أخرى - قد تُشن عليهم، وهم جاهزون لذلك.

الحقيقة الاستراتيجية الثانية هي أن الأمم والدول القديمة صاحبة الحضارات تلك التي لم تنشئها الهندسة الاستعمارية الغربية -من سايكس-بيكو إلى انسحاب شرق السويس- هي أمم ودول قد تسقط، لكنها تنهض من جديد، وقد تضعف، لكنها لا تموت.

فجوهر ما حدث في معركة الـ12 يومًا في يونيو الجاري أن إيران لم تنهَر أو تجثُ على قدميها من الضربات شديدة القسوة، شديدة الفعالية، التي شنها العدوان الإسرائيلي على إيران، وأدّت لخسائر عسكرية جسيمة، وتصفية الصف الأول من القيادات العسكرية، وكبار العلماء النوويين.

هنا نهضت الأمة القديمة -النظام السياسي-، وتقدّمت الدولة الموغلة في التاريخ بكل طبقاتها الجيولوجية الحضارية المتراكمة منذ آلاف السنين. وما بدا أنه هزيمة ساحقة للوهلة الأولى أدّى إلى مسار معاكس؛ فقد استنفر بل استفزّ كل أدرينالين المقاومة في جسد الأمة الإيرانية.

أما عقلها المتجسّد في طبقتها السياسية، ونخبتها المثقفة، فدخل في لحظة وحدة نادرة «لم يكن النظام السياسي الإيراني يحلم بها»، على حد تعبير أحد أهم الخبراء المصريين في الشأن الإيراني.

وضعت أغلبية النخبة خلافاتهم مع النظام ومع بعضهم البعض ـ سواء كتيارات محافظة وإصلاحية داخل النظام، أو معارضين للنظام الإسلامي الإيراني كله ـ خلف ظهورهم حتى انتهاء الحرب. تماسك الإيرانيون بعد ساعات من ضربة كانت لتُسقط الدول الحديثة التي لم تنجح حتى الآن في أن تكون شعبًا أو أمة متجانسة الهوية والنسيج الاجتماعي.

يعترف ترامب بأن الإيرانيين وقفوا على أقدامهم، وردّوا على إسرائيل الضربة، وأنهم قاتلوا بشجاعة.

منذ حرب أكتوبر 1973، وبالتحديد منذ أخرج الرئيس السادات مصر من المواجهة مع إسرائيل؛ لم تقع حرب نظامية واحدة بين دولة عربية ودولة الاحتلال الإسرائيلي.

تحملت حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعربية عامة عبء المواجهة مع إسرائيل في نصف القرن الماضي بأكمله (1982، 2000، 2006، أربع حروب بين غزة وإسرائيل، حتى طوفان الأقصى في 2023).

وتُسمى هذه الحروب بين دولة مثل إسرائيل وميليشيات مقاومة مسلحة بالحروب غير النظامية - غير المتماثلة - حيث تتفاوت القدرات العسكرية والتقنية والبشرية بين الطرفين، وتنحو الدولة فيها نحو إبادة خصمها، بينما تنحو الميليشيات المقاومة لاستنزاف الدولة العدو، وإنهاكها.

لكن الحرب النظامية بين دولتين وقعت أخيرًا، ولكنها لم تكن هذه المرة بين دولة عربية وإسرائيل، بل بين إيران وإسرائيل.

الحقيقة الاستراتيجية الثالثة أن هذه المعركة أعادت الاعتبار للحرب بين الدول أو الحرب النظامية باعتبارها حروبًا منهكة أكثر بسبب التكافؤ، أو على الأقل الميزات المتبادلة لدى الدولتين المتحاربتين.

يعترف ترامب بأن سببًا رئيسيًا لوقف الحرب هو أن إسرائيل كانت مُجهدة تمامًا مثلها مثل إيران، وأن كلتيهما رغبتا في وقت متزامن في وقف القتال.

بتعبيرات لمحللين إسرائيليين؛ فإن ضربات إيران الموجعة للداخل الإسرائيلي، وحالة الرعب التي نشرتها في مجتمع فيه نسبة كبيرة من المهاجرين من أصقاع الأرض- كانت استنزافًا لا يُحتمل، ويصعب الاستمرار فيها طويلًا.

ويُلخّص خبير عسكري إسرائيلي هذه الحقيقة بقوله: «من المهم أن نفهم أن إيران دولة كبيرة، ولديها صبر، وقدرة على تلقّي الضربات، وعلى النهوض من جديد، بشكل مختلف كليًّا عن التنظيمات المسلحة غير النظامية التي اعتدنا ضربها حولنا».

أحيت «عملية الاستعانة بصديق»، وما رافقها من تصريحات للمستشار الألماني بأن إسرائيل - وهي تحارب إيران - إنما تقوم «بالعمل القذر نيابة عن الغرب»، مسارين مخيفين لصراع الحضارات كانا قد بهتا نسبيًّا، وفتر إيمان الناس بمنظّريها مثل: هنتنغتون، وفوكوياما، وبرنارد لويس.

من شأن هذين المسارين في المستقبل أن يُحْبطا بقسوة أي فرصة لإدماج إسرائيل في المنطقة، أو تحسين صورة أمريكا التي وصلت إلى الحضيض لدى شعوب المنطقة كما لم تصل إليه في العقود الثمانية الماضية.

المسار الأول هو الذي ذهبت إليه تيارات الهوية في المنطقة -خاصة التيار الإسلامي-، وهو أن انخراط واشنطن في الحرب، وتصريحات قادة الغرب والدول السبع الكبرى هو استمرار للصراع بين الغرب والشرق منذ الحروب الصليبية، وهي حرب تحالف الصهيونية والمسيحية الصهيونية ضد الحضارة العربية والإسلامية.

المسار الثاني مسار التيارات المدنية اليسارية، وتيارات الاستقلال عن الغرب عمومًا الذين اعتبروا أن ما فعلته واشنطن والغرب ضد إيران في هذه الحرب يؤكد أن الإمبريالية الغربية وقاعدتها الوظيفية - إسرائيل - لن تترك أي مشروع للتحرر من الهيمنة الغربية عبر الاستقلال السياسي، والتنمية المستقلة عن المركز الرأسمالي يرفع رأسه في الشرق الأوسط.

وإن الحاجة باتت ماسة لتنسيق استراتيجي بين الأمم الأصيلة فيه - وهي العربية والتركية والإيرانية -؛ لمواجهة المشروع الإمبريالي ورأس حربته.

ثمة حقيقة استراتيجية أخرى ثبّتها صراع يونيو 2025 الإيراني/الأمريكي الإسرائيلي، وهي صحة موقف الدول العريقة التي بنت سياستها الخارجية ـ خاصة تجاه دول الجوار ـ على أساس أن الجغرافيا لا تتبدّل، وأن التعايش السلمي، وحسن الجوار، واحترام النظام الداخلي لكل دولة، هو الذي يصنع الاستقرار، ويوفر فرصًا للتنمية والتقدم.

فقد أضعف التدخل العسكري الأمريكي المباشر دعمًا لإسرائيل عشرات المليارات من الدولارات التي أنفقتها واشنطن، وتل أبيب، والدول السبع الكبرى الأنجلوساكسونية، والناتو، ودول عربية، على مدى 30 عامًا وأكثر، في الإعلام والدعاية لشيطنة إيران في العالم السني.

فقد اكتسبت إيران تعاطفًا إسلاميًا وعربيًا تخطى نسبيًّا الحدود المذهبية لأول مرة، وجعل وجود تأييد شعبي لتحالف عربي-إسرائيلي، وتطبيع إبراهيمي شامل أمرًا مشكوكًا فيه، بل يجعل المضي فيه عملًا مزعزعًا لشرعية الحكومات العربية التي قد تُقدم عليه إذا لم يقترن هذا التطبيع بحل منصف للقضية الفلسطينية، وهو حل جعلته الطبقة السياسية الإسرائيلية من المحرّمات والمستحيلات.

حسين عبد الغني كاتب وصحفي مصري.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

قمة ألاسكا.. بين الرمزية والأمل

أكثر وصف يمكن أن توصف به القمة التي جمعت الرئيس الأمريكي ترامب بالرئيس الروسي بوتين هو أنها قمة «رمزية» تختبر ما بقي من النظام العالمي.

فرغم أن القمة لم تُفضِ إلى وقف إطلاق نار كما كان يسعى ترامب، إلا أن قوة رمزيتها تكمن في إعادة طرح خيار السلام على طاولة النقاش بعد أن غلب عليها ضجيج المدافع.

لقد دخل الطرفان اللقاء بغايات مختلفة.. بوتين سعى إلى كسر طوق العزلة الدولية واستعادة صورته كزعيم قادر على الجلوس مع أقوى رئيس في العالم والتفاوض من موقع ندّية. أما ترامب فحاول أن يقدم نفسه كصانع صفقات، قادر على فتح أبواب الحوار بعد سنوات من القطيعة، ومؤهل لإعادة صياغة قواعد اللعبة بين القوى الكبرى. لكن حصيلة الساعات الثلاث لم تتجاوز وعودا فضفاضة، وحديثا عاما عن «ضرورة إنهاء الحرب»، دون أن يتجسد ذلك في خطة عمل واضحة.

مع ذلك، لا يمكن اختزال القمة في مقولة «الفشل التكتيكي». فالسياسة الدولية لا تُقاس، في العادة، بما يقال في البيانات الختامية وحدها، ولكن بما قد تفتحه اللقاءات من نوافذ محتملة يمكن أن تساهم بصناعة الاختراق المنتظر في عمق الحرب. وجلوس بوتين مع ترامب على طاولة واحدة، بعد سنوات من القطيعة والعقوبات والاتهامات، من شأنه أن يكشف أن أطراف الحرب ـ ولو بشكل غير مباشرة ـ بدأت تدرك أن الاستنزاف طويل الأمد لن يؤدي إلى حسم عسكري، بل إلى إطالة النزيف وفتح أبواب الفوضى.

وما يلفت الانتباه هو أن كلفة الحرب لم تعد أوكرانية فقط؛ أوروبا، أيضا، تواجه تحديات الطاقة والتضخم وتراجع الثقة الشعبية في مؤسساتها. الاقتصاد العالمي، هو الآخر، يدفع ثمن الانقطاع في سلاسل الإمداد المعتادة، وتقلبات أسعار الحبوب، والارتباك في أسواق النفط والغاز. أما دول الجنوب العالمي، من إفريقيا إلى الشرق الأوسط، فقد وجدت نفسها في مواجهة أزمة غذاء متفاقمة تذكر بمآسي الحروب الكبرى في القرن العشرين. كل ذلك يجعل من وقف الحرب ضرورة استراتيجية لإنقاذ النظام الدولي من التآكل المستمر.

ورغم أن القمة بدت أقرب إلى استعراض للنيات منها إلى مفاوضات جدية، لكنها تكشف أيضا عن ملامح معادلة جديدة؛ فبوتين، وهو يطرح نفسه «شريكا محاورا»، حصل على مكسب سياسي يتمثل في إعادة إدماجه « ولو رمزيا » في مشهد العلاقات الدولية. أما ترامب فقد خرج بصورة من يعيد رسم خطوط التواصل، وإن من دون نتائج ملموسة. في المقابل، بقيت أوكرانيا على الهامش، مهددة بأن تُطلب منها أثمان قاسية مقابل أي تسوية محتملة.

لكن المسألة الأهم هي أن القمة تطرح سؤالًا تتجاوز دلالته اللحظة الراهنة وهو كيف يمكن للعالم أن يتعامل مع الحروب الممتدة التي لا تنتهي بنصر ولا هزيمة؟ تجربة أوكرانيا تكشف أن الحرب، حين تطول، تتحول إلى عبء وجودي على جميع الأطراف: على المجتمع الذي يعيش تحت القصف، وعلى الاقتصاديات التي تتآكل، وعلى المؤسسات الدولية التي تفقد هيبتها. وهنا يمكن الحديث عن قيمة «السلام الممكن» وليس «السلام الكامل» من أجل المزيد من الممرات الإنسانية وعمليات الإغاثة وفتح نوافذ من أجل المزيد من التنفس.

قد لا يبدو أن بمقدور قمة ألاسكا تغيير مسار الحرب كما كان يأمل البعض لكنها ستذكر العالم بأن البديل عن الحوار هو المزيد من العنف. ولعل أعظم ما يحتاجه النظام الدولي اليوم يتمثل في بناء إدراك مشترك بأن كلفة الحرب صارت أثقل من أي مكسب إقليمي أو سياسي.. واستمرار الحرب الأوكرانية لن يضعفها وحدها، ولكنه سيستمر في إضعاف النظام الدولي.

مقالات مشابهة

  • بريطانيا.. السجن لمتطرف سيبراني اخترق مواقع حكومية في اليمن وإسرائيل وأمريكا
  • قمة ألاسكا.. بين الرمزية والأمل
  • فيما يجوع الفلسطينيون.. ثمة معركة جديدة في إسرائيل
  • مواجهة في الظل بين تل أبيب وطهران.. هكذا تعمل إيران على إعادة بناء قدراتها الدفاعية بمساعدة الصين
  • كسر الجليد بين روسيا وأمريكا.. تفاصيل قمة ألاسكا بمشاركة ترامب وبوتين
  • وزراء خارجية 31 دولة عربية وإسلامية يدينون بأشد العبارات التصريحات التي أدلى بها رئيس وزراء إسرائيل
  • البنك المركزي الصيني يجري عملية إعادة شراء عكسية مباشرة بقيمة 70 مليار دولار
  • عصام الدين جاد يكتب: إسرائيل الصغرى التي لن تنتصر
  • الدبلوماسية أم التحدي.. خيار إيران بعد ضربات أمريكا وإسرائيل
  • نتنياهو: معركتنا لا تقتصر على حماس… بل تشمل إيران ووكلاءها