سيناريو ساعة بساعة.. ماذا يحدث لو داهمتك المجاعة في حجرتك؟
تاريخ النشر: 4th, August 2025 GMT
في بيان صدر مساء الأحد 28 يوليو/تموز، أكد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن المجاعة لا تزال مستمرة بل تتفاقم، رغم إعلان الاحتلال الإسرائيلي عن "هدنة إنسانية مؤقتة"، لكن ما دخل للقطاع من شاحنات لم يكن فقط قليلا جدا، بل إن جزءا كبيرا منها تم الاستيلاء عليه أمام مرأى قوات الاحتلال، التي تعمد إلى عرقلة وصول المعونات إلى مراكز التوزيع الرسمية، مما يؤدي إلى زيادة الضغوط على السكان وعرقلة جهود الإغاثة.
المجاعة ما زالت مستمرة، بل تتفاقم، لكن قبل أن نبحث عن أسباب المجاعة وتبعاتها السياسي ومشكلاتها المرتبطة بالعملية العسكرية في غزة يجب أولا أن نتساءل عما تعنيه المجاعة من الأساس؟
وفي هذه المادة من القسم العلمي بالجزيرة نت، نحاول أن نجيب عن هذا السؤال بأكثر الطرق المباشرة وصراحة، عبر استعراض ما يقوله العلم في تلك النقطة، لكن ما يلي لن يكون مجرد معلومات بحتة، بل سيكتب في صورة سيناريو، نطلب منك عزيزنا القارئ أن تعيش داخله لمدة 15-20 دقيقة فقط، وربما يساعد ذلك على فهم ما يحدث حقا.
وليبدأ السيناريو كالتالي: افترض معنا أنه لسبب ما، حُبست في غرفتك ولم تتمكن أبدا من الخروج، ربما بسبب زلزال لا قدر الله حدث في المنطقة، أنت بخير ولم يحدث شيء لك ولكنك لا تتمكن من الخروج أبدا بسبب كميات هائلة من الخرسانة المسلحة المتراكمة على غرفتك التي حفظها الله ولم تتحطم، ولكن هناك مشكلة حيث لا يوجد حولك إلا وجبة واحدة أخيرة تتكون من بضع قطع الخبز وقطع الفواكه وربما العصير وعليك بعد هذه الوجبة أن تستمر لأيام طويلة بدون طعام حتى تجدك قوات البحث وتخرجك مما أنت فيه من كارثة، ما الذي سيحدث في جسدك خلال تلك الفترة؟ كيف ستشعر وفيما ستفكر؟
في حالة المجاعة المطولة، حيث لا يتوفر الطعام لفترة طويلة، يخضع جسم الإنسان لتغيرات جذرية في محاولة للبقاء على قيد الحياة، تغيرات لا توصف إلا بأنها إستراتيجية ذكية جدا، لكنها قاسية وبائسة وكئيبة جدا، لاحتواء أكبر كارثة يمكن أن يواجهها جسدك، الجوع.
إعلان الساعات الأولى: التزود بالطاقة من الوجبة الأخيرةفي الساعات القليلة الأولى بعد تناول آخر وجبة، لا يزال جسمك يعتمد على الطاقة منها، السكر المستخرج من الخبز والفواكه والعصير يدور بين خلاياك لتزويدها بالطاقة.
عادة، يستغرق إفراغ المعدة وانخفاض مستوى السكر في الدم حوالي 6-8 ساعات بعد تناول الطعام، مما يُحفز أولى نوبات الجوع الحقيقية. عند هذه النقطة، يرتفع هرمون الغريلين (الذي يُسمى غالبا "هرمون الجوع")، مرسلا إشارة إلى الدماغ بأن وقت تناول الطعام قد حان، إنها نوبة معتادة ما إن تختبرها حتى تبحث عن وجبتك التالية.
قد تسمع صوت قرقرة معدتك وتشعر بتقلصات الجوع، وقد تشعر بدوار خفيف أو صعوبة في التركيز بمجرد حضور الجوع الشديد، وربما يتدهور مزاجك، أو تغضب وتتوتر، فالجوع قد يجعلنا سريعي الانفعال.
بالنسبة للأطفال، تبدأ آثار الجوع هذه في وقت أبكر. يمتلك الرضع والأطفال الصغار احتياطيات طاقة أقل وعمليات أيض أسرع، لذلك قد يصبحون عصبيين وضعفاء بعد بضع ساعات فقط من عدم تناول الطعام.
في الواقع، يمتلك الرضع مخزونا محدودا من الطاقة المخزنة في صورة سكر في الكبد، مما يجعلهم لا يستطيعون الحفاظ على مستوى سكر الدم الطبيعي إلا لمدة 4 ساعات تقريبا إذا لم يتناولوا الطعام، هذا هو سبب حاجة الأطفال إلى وجبات متكررة.
بمجرد أن يستنفد الجسم السكر مباشرة من الوجبة الأخيرة، فإنه يتحول إلى استخدام السكر المخزن للحصول على الطاقة، من أين نحصل على هذا السكر المخزن؟ الإجابة هي الكبد والعضلات، حيث يخزنان السكر (الغلوكوز) على شكل مادة تسمى الغليكوجين، ويصبح هذا مصدر الطاقة التالي.
خلال اليوم الأول من الصيام، يرتفع مستوى هرمون الغلوكاغون في جسمك، فيحث الكبد على تحويل الغليكوجين إلى سكر غلوكوز مرة أخرى. ويمكن لهذا التكتيك عادة تلبية احتياجات الطاقة لدى البالغين الأصحاء لمدة 24 ساعة تقريبا قبل أن ينخفض مخزون الغليكوجين بشكل كبير.
خلال هذه الفترة الزمنية التي تتراوح بين 6 و24 ساعة، تشعر بجوع شديد، ثم بعد ذلك ينحسر فلا يصبح مستمرا، بل يمر بك على شكل موجات.
جسديا، قد تشعر بالارتعاش وانخفاض الطاقة وآلام الجوع في المعدة، ومن الشائع الشعور بقرقرة في المعدة، بل حتى الصداع مع تقدم فترة الصيام المبكرة هذه.
ومع نهاية اليوم الأول الكامل من الصيام، تُستنفد احتياطيات السكر السريعة في الجسم بشكل كبير، وهنا تبدأ مستويات السكر في الدم بالانخفاض بشكل ملحوظ.
والوصول إلى هذه المرحلة لدى الأطفال أكثر خطورة، فالطفل الصغير بعد 24 ساعة من الامتناع عن الطعام، سيعاني من انخفاض حاد في سكر الدم، ولن يملك سوى القليل من الموارد الأخرى التي يعتمد عليها، ومن المرجح أن يُصاب بضعف شديد، أو ارتباك، أو حتى فقدان للوعي إذا لم يُساعد.
أما لدى البالغين، فيمكن لاحتياطيات الجسم الداخلية أن تُخفف من وطأة الـ24 ساعة بشكل أفضل، فمعظم البالغين الأصحاء، رجالا ونساء، يستطيعون الحفاظ على وظائفهم الأساسية خلال اليوم الأول، وإن كان ذلك بصعوبة واضطراب، فقد يشعرون بالبرد حيث يتباطأ التمثيل الغذائي قليلا للحفاظ على الطاقة، وتصبح ممارسة النشاط البدني الشاق صعبة للغاية مع بدء الشعور بالتعب.
إعلانولا يمر ذلك بدون أثر نفسي، حيث تزداد حدة الاستجابات العاطفية، وقد يتحول الانزعاج الخفيف إلى غضب وقلق وحتى اكتئاب كامن في داخلك، ويعود ذلك بشكل كبير إلى تغيرات في كيمياء الدماغ مع انخفاض إمداد الدماغ بالطاقة.
مع تحول الجسم من الغلوكوز إلى الدهون للحصول على الطاقة، يبدأ صفاؤك الذهني بالتراجع، وتشعر بصعوبة في التركيز، ومشاكل في الذاكرة، وكأن هناك ضبابا يحاوط دماغك فلا تفكر بشكل سليم.
اليوم الثاني والثالث: التحول إلى الدهونبعد حوالي 48 ساعة من الامتناع عن الطعام، يجري جسمك تحولا جذريا في كيفية حصوله على الطاقة، لقد استنفد بحلول هذا الوقت الغلوكوز والغليكوجين، فماذا بقي للجسم؟
هنا ينتقل الجسم إلى ما يسمى "وضع المجاعة"، وهو في الأساس تكيف للبقاء على قيد الحياة، فيبدأ الجسم بحرق مخزون الدهون كوقود أساسي، وهناك منها الكثير في الجسم، في دهون البطن والفخذين والذراعين وتحت الجلد ووصولا إلى العضلات والأجهزة وحتى نخاع العظام.
يحول الكبد الدهون إلى "أجسام كيتونية"، وهي جزيئات صغيرة غنية بالطاقة يمكن استخدامها من قبل العديد من الأعضاء، بما في ذلك الدماغ.
وبحلول اليوم الثالث من الصيام التام، ترتفع نسبة الكيتونات في الدم بشكل حاد، وهنا يبدأ دماغك باستخدام الكيتونات لتلبية جزء كبير من احتياجاته.
في هذه المرحلة يكون جسمك قد بدأ في تفكيك أنسجة العضلات للحصول على أحماض أمينية معينة يمكن تحويلها إلى غلوكوز. لاحظ أن جسمك الآن في حاجة ماسة للطاقة، لكن لم تعد هناك طاقة تدخل من الخارج، فيبدأ في حرق ما هو مخزن في أعضائه، ويبدأ الأمر بالدهون، والآن يتحول الجسم إلى البروتين.
في بداية المجاعة (حوالي اليوم الثاني والثالث)، يحاول الجسم تقليل فقدان العضلات (التي تتكون من بروتين) عن طريق زيادة حرق الدهون، لكن انهيار العضلات أمر لا مفر منه، لأن بعض الأنسجة الحيوية (مثل أجزاء من الدماغ وخلايا الدم الحمراء) لا تزال تحتاج إلى كمية من الغلوكوز لا توفرها الدهون.
ومن ثم فخلال الأيام الخمسة الأولى من الصيام، يمكن أن يظهر أثر الجوع عليك، حيث ينخفض وزنك، ليس بشكل كبير في البداية.
في هذه المرحلة فجسمك لا يزال قادرا على التحمل، إلا أن جسم الطفل الذي يمتلك دهونا أقل بكثير ليعيش عليها، بحلول اليوم الثاني أو الثالث، يصبح نحيلا حقا، وضعيفا للغاية، ومعرضا لخطر فشل الأعضاء، بما في ذلك الدماغ إذا لم تقدم له بعض التغذية.
مع تقدم الأسبوع الأول، يتباطأ جسم كل شيء في جسمك، حتى أفكارك تصبح أقل ترتيبا وأبطأ وكأن العالم كله بالنسبة إليك يتحرك ببطء، تكتئب بشكل أكبر، وتنخفض تعبيراتك العاطفية إلى حد أدنى، وتنطوي على ذاتك، إنه فقط جسدك يتكيف مع هذا الظرف القاسي، في محاولة لإطالة عمرك بأي طريقة.
لأن الجسم بالفعل استنفد كل شيء متاح، لم يعد هناك إلا تكتيك واحد، وهو أن يتباطأ الأيض بشكل ملحوظ للحفاظ على الطاقة، يحاول الجسم تقليل معدل حرق السعرات الحرارية، نظرا لعدم دخول سعرات حرارية جديدة.
وإحدى طرق تحقيق ذلك هي تغيير مستويات الهرمونات. فعلى سبيل المثال، غالبا ما تتوقف الدورة الشهرية لدى النساء اللواتي لم يحصلن على طعام كافٍ لفترة من الوقت، وعند الرجال تنخفض مستويات هرمون التستوستيرون، مما يعكس تثبيط الجسم للوظائف غير الأساسية مثل التكاثر وبناء العضلات.
جسديا، تكون عواقب ما يقرب من أسبوع بدون طعام وخيمة، تشعر بضعف وبرد شديدين، يصبح من الصعب القيام بأكثر من الراحة، وفقط السكون جانبا في انتظار أي حل، فالجسم يكون في وضع توفير الطاقة.
ينخفض ضغط الدم نتيجة لانخفاض حجم السوائل، ويتباطأ نبض القلب. وعلى الجانب الآخر، يضعف الجهاز المناعي بشدة في هذه المرحلة، فبدون العناصر الغذائية الأساسية، لا يستطيع الجسم الحفاظ على دفاعاته المناعية الطبيعية. في هذه الحالة، تلتئم الجروح بشكل سيئ، وتصبح عدوى البرد العادية مميتة.
إعلانتظهر علامات الجوع الواضحة بحلول نهاية الأسبوع الأول:
يبدو الإنسان هزيلا
تبرز الأضلاع والعظام
تنكمش العضلات نتيجة استهلاك البروتين
ويصبح الجلد رقيقا وجافا، وقد يُصاب الشخص بطفح جلدي متقشر وهي من علامات نقص المغذيات الدقيقة.
ومن المفارقات أن كاحلي الشخص الجائع أو قدميه أو بطنه قد ينتفخان بالسوائل، ويلاحظ هذا بشكل خاص لدى الأطفال الذين يعانون من شكل من أشكال سوء التغذية الحاد، حيث يسبب نقص البروتين تسرب السوائل (يُسمى تاريخيا "كواشيوركور")، ولذلك، قد يُعاني الطفل الجائع من انتفاخ البطن، حتى مع نحافة باقي الجسم.
أما نفسيا، فكل شيء منهار، الدماغ يعاني من انهيار إدراكي، وارتباك شبه كامل، مع فقدان الوعي بالذات، لم يعد الإنسان قادرا على تمييز الآخرين أو الاستجابة للمنبهات الخارجية. في هذه الحالة، قد يعاني البعض من نوبات ذهانية، حيث يتصرف بطرق غريبة وغير منطقية، معتقدين أنهم في واقع مختلف.
أنت الآن في حالة تُهدد حياتك، ستفقد نسبة كبيرة من وزن الجسم. إذ تشير المراجع الطبية إلى أن فقدان أكثر من 10% من وزن الجسم بسبب الجوع أمر خطير ويمكن أن يسبب آثارا جانبية شديدة، ولكن بحلول اليوم السابع، فقد تجاوزت هذه العتبة، بفقدان حوالي 18% من الوزن.
بعد أسبوع واحد: مستويات حرجةإذا استمرت المجاعة لأكثر من أسبوع، يصبح الوضع أكثر خطورة، استهلك الجسم كل شيء، الآن لم يبق إلا خيار واحد وهو استهلاك أنسجة العضلات والأعضاء كوقود. ببساطة، يبدأ الجسم في "التهام" نفسه للبقاء على قيد الحياة.
يتسارع تحلل الدهون، ويشمل ذلك أهم عضلة على الإطلاق، إنها القلب. يمكن أن تضعف عضلة القلب نفسها نتيجة لاستنزاف البروتين من جميع أنحاء الجسم، كما تتفاقم اختلالات توازن الإلكتروليتات، مثل البوتاسيوم والمغنيسيوم والفوسفات، والتي تعد أساسية لوظائف القلب والعضلات، وتتعطل بسبب عدم كفاية تناولها وتدهور الأنسجة المستمر.
في الواقع، غالبا يكون السبب الرئيسي للوفاة في حالات الجوع هو السكتة القلبية، والتي غالبا ما تحدث بسبب عدم انتظام ضربات القلب الناجم عن اضطرابات الإلكتروليتات وتدهور أنسجة القلب.
إلى جانب ذلك، يعد فشل الأعضاء بأشكال أخرى من المخاطر، فقد يصاب الكبد بتغيرات دهنية حادة تؤدي إلى فشله، وقد تفشل الكلى (خاصة في حالة الجفاف)، ويفقد الجهاز الهضمي قدرته على امتصاص العناصر الغذائية بشكل صحيح، ويضعف جدار الأمعاء وتموت خلاياه.
حاليا، الجهاز المناعي في حالة من الفوضى، ومن المرجح أن تكون العدوى حتى العدوى البكتيرية البسيطة أو الفيروسات قاتلة لأن الجسم لا يملك الموارد اللازمة لمكافحتها.
من الناحية العصبية، فالفوضى مستمرة، يصاب الإنسان بالارتباك أو النوبات الاختلاجية أو الغيبوبة، ويكون فاترا وغير مستجيب لأي شيء، وفي الروايات التاريخية عن المجاعات أو الإضرابات عن الطعام في السجون، غالبا ما يرقد الأشخاص الجائعون في المرحلة النهائية بلا حراك تقريبا، مع تنفس ضحل ونبض بطيء وخافت.
بدون تدخل طبي، الموت حتمي في هذه المرحلة، والسؤال عن "كم من الوقت يمكن للإنسان أن يعيش في هذه الحالة؟" فالإنسان في هذه الحالة يكون بانتظار الموت.
يختلف الأمر من شخص لآخر، ولكن مع الحفاظ على تناول الماء، لا يستطيع معظم البشر البقاء على قيد الحياة لأكثر من شهر إلى شهرين بدون طعام، وفي حالات الإضراب عن الطعام الموثقة، تحدث الوفاة عادة بين 45 و61 يوما من الجوع التام، هذا بالنسبة لك كشخص بالغ، لكن غالبا ما يكون الأطفال هم أول من يستسلم، ربما خلال الأسبوع الأول.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات فی هذه المرحلة على قید الحیاة فی هذه الحالة على الطاقة الحفاظ على من الصیام بشکل کبیر عن الطعام غالبا ما فی حالة یمکن أن
إقرأ أيضاً:
مراسلة الجزيرة نت.. قصة أم تطعم أبناءها من رماد المجاعة
غزة- في معركة الجوع يكون صراعك مع شبح وهمي، حتما يهزمك لأنه يوهن قوتك من الداخل، يرديك صريعا، أو يصنع منك جثة واهنة أشبه ما تكون برجل آلي، تجرُّ الخطى جرا.
تحتاج أن تكرر قراءة الخبر كي تفهمه، ويحتاج من يحدثك أن يعيد مرارا كي تدرك ما يقول، ستضطر للجلوس لالتقاط أنفاسك بعد عدة أمتار من المشي.
أنت كصائم منذ مدة، لكن صيامه مستمر لأجل غير معلوم، وليس في جسده وقود مخزّن أو زاد مشبّع إلا بألم الفقد وشحنات الخوف وبؤس النزوح.
وكل ذلك عاشته ولا تزال مراسلة الجزيرة نت في غزة يسرى العكلوك، وهي اليوم تروي تفاصيله كواحدة من أهالي القطاع الذين يواجهون التجويع الإسرائيلي بكل أشكاله، ويعيشون الحصار والحرب دون حول ولا قوة بتأمين حتى أبسط احتياجاتهم.
الصحفية الأم
صباح أمس، هرول طفلي الصغير نحوي حاملا حذاءه، يطلب مني أن أساعده في انتعاله، أسأله عن السبب، فيجيبني أنه يريد أن يصطف كما الأطفال الذين رآهم من النافذة حاملين أواني ليعبئوها طعاما أمام قدور التكية في المخيم المقابل أسفل المنزل، كان الطلب أشبه بصفعة على وجه أم لم تتخيل يوما أن تعجز عن "إشباع" أطفالها!
"لقيمات يقمن صلبه" قاعدة جديدة كلَّفني إقناع أطفالي بها جهدا، واستغرقت مني وقتا وجدالا مطولا حتى أُعوِّد أولادي عليها، فملء المعدة ترف نحن في غنى عنه حاليا، لكنني اليوم بتّ أتبعهم كي يأكلوا أو أن يزيدوا لكنهم يرفضون، لا أدري أهو انكماش المعدة، أم أن أنفسهم عافت الأصناف نفسها التي يتناولونها منذ أشهر.
يبدو طبق "البقلة" وجبة أساسية، وهي عشبة تنمو من تلقاء نفسها، كنّا قديما في بستاننا المُجرَّف نجمعها مع خشاش الأرض ونرميها، لكن أمي تراها ورقا يؤكل، تُجمّل طعمها مع قليل من الملح والخل، تجيب عن تساؤلات أحفادها عنها، حين تذوقوا اللقمة الأولى منها "كلها حديد يا تيتا (جدة) مفيدة كثيرا كسبانخ باباي (فلم كرتوني للأطفال)"، يبتلعونها، لكني أزدريها وأبتلع معها دمعي.
إعلانأما أنا فأخجل من الشكوى بين أهلي وصديقاتي، أو أن أعبّر عن حاجتي الملحة للقهوة التي تعد وقودا للتركيز عندي، بعدما صرنا نحتسي بذور الحمص المحمص والمطحون بدلا منها، شراب لا يشبه القهوة إلا في لونها ومراراتها، لا يعدل مزاجا ولا يبدد شتاتا ولا يصلب تركيزا.
لماذا أصبحت مدة إعدادي لقصة إنسانية تستغرق أكثر من أسبوع بعد أن كنت أتمها بيومين أو 3؟ تتساءل الصحفية يسرى ثم تواصل، كيف تمكنت الحرب مني فنهشت عافيتي حتى صرت أتمنى أن يمر يوم من دون أن أتناول فيه جرعات أدويتي المكثفة؟، والتي أتجرَّعُها معظم الأحيان على معدة فارغة، معدة تستقر فيها الجرثومة، وتتطفل عليها الأنتميبا، ويتفنن القولون العصبي بإيلامي، وترتبك فيه أمعائي المتلبكة من الماء المسموم الذي نملؤه من صهاريج جوالة لا نعرف مصدرها.
في شوارع غزة جلها كل الآباء نكسوا رؤوسهم، يُرتِّقون عِفَّتهم بالصمت، كخاسر عائد من حرب ضارية مع معركة الظفر بلقمة، مع التجار الذين يتخذون من الجوع صفقات للبيع والشراء.
والناس هائمة على وجوهها، صامتة بملامح يفضحها البؤس، سيدات عفيفات كريمات بشفاه متشققة ووجوه شاحبة يحملن أواني وقدورا في أكياس سوداء لئلا يراها الناس، ويسابقن الخطى قبل أن تنفض التكايا.
يُصرُّ المجوَّعون أن سلاح الجوع بات أشد فتكا من صاروخ يقتلك أو يفتك بك أو يُذيبك مرة واحدة، فالجوع يقتلك ببطء وبرود، ويميت فيك خلاياك، وتتصارع فيه أنفاسك فتسمعها وهي تختفي منك شيئا فشيئا.
صار مشهد فتح أكياس القمامة والتجمع حول الحاويات اعتياديا، أطفال يترصدون حبات حمص تساقطت تحت أقدام الباعة، يلعقون بقايا المكمل الغذائي من قلب سلال القمامة، أو يمدون أصابعهم في داخل المعلبات الفارغة للملمة العوالق في الحواف.
وأطفال آخرون ينتظرون أن يفرغ بائع الفلافل من عمله حتى يلتقطوا فتات ما تناثر ويأكلوها بِنَهم، ورضُع جياع تختلط أصواتهم المنبعثة طيلة الليل جوعا، تسقيهم أمهاتهن ماء أو يغلون لهم الحلبة بدلا من الحليب الصناعي الذي يصل سعره إلى 100 دولار نقدا، غير أن تاريخ صلاحيته منته أصلا.
قرصة الجوع وقرقرتها هو صوت أنين النفس المنكسرة، لأعزة قوم أذلتهم الحرب وأهانهم الجوع، بعد أن كانوا أهل الرفاه وأصحاب الوفرة، حين فاضت أطباقهم بما لذ وطاب.
حتى سياقات محادثاتنا ورسائلنا بين الأصدقاء تغيرت، فقد كنا عن قريب نستقبل رسائل من الصديقات يستعرضن فيها إنجازاتهن، "لقد عجنت العدس خبزا"، و "صنعت كعكة من المُكمِّل الغذائي"، لكننا اليوم صرنا نتبادل طرق النجاة من الموت جوعا، وتحولت الرسائل كيف تحمي أمعاءك من التعفن؟ من يقايضنا حفاضات أطفال بكيلو طحين؟
محاربة النفسالناس في غزة سواسية في الجوع، إلا التاجر الفاجر واللص والمتسلقين على ظهر جوعنا إلى رغد العيش، فالفقير والغني هنا سيان، ورغم أنني أملك رصيدا في حسابي البنكي كنت أجمعه لأطفالي إلى حين يكبرون أو هكذا كنت أظن، خاصة أن عبء توفير الحياة الكريمة غير مقسوم على اثنين، فهم أبناء لرجل شهيد، وأتحمل وحدي عناء أن يعيشوا كراما.
إعلانلكنني وجدت أني ألجأ لقرشي الأبيض لاتقاء اليوم الأسود، ولا شيء أشد سوادا من هذه الأيام، فأضطر لكل ما ادخرته يوما كي يأكلوا الحد الأدنى من الطعام الذي يبقيهم "أحياء"، أحياء فقط.
ومع هذا فلا أقبل على نفسي أن أقوم بالبذخ الذي يدفعني لشراء شوكلاتة واحدة بـ20 دولارا بعد أن كان ثمنها ربع دولار، أو شراء كيلو من المانجو بـ100 دولار بدلا من 5 دولارات.
المانجو "فاكهتي الأثيرة" التي رأيتها أول مرة منذ عامين على بسطة يتيمة، حيث مررت من أمامها، وتوقفت أمام جلالتها، خفق قلبي وأنا أقلّبها بكفي كأني أمسك كنزا أتحرّق شوقا لالتهامه، شممتها وعبأت رئتيّ من رائحتها، وبينما أنا في سكرة تذكري لمذاقها، سألت امرأة بجواري البائع كم ثمنها فرد من دون أن يلتفت 80 شيكلا (حوالي 25 دولارا).
تمعَّنتُ تلك الثمرة الجوهرة ووضعتها برفق في مكانها ثم انصرفت، فاشتعل فيّ الصراع بين أن أكون أمّا مثالية بعيون أطفالي، أو متلونة أدّعي المأساة في العلن وأخونها في الخفاء، أو أن أكون مُعينة للتاجر الذي قال للسيدة التي عاتبته من صدمتها بالسعر "ما بدك تشتري غيرك بيشتري"!
تجار ولصوص ينفّذون دورهم باقتدار، يتوحَّدون مع جيش الاحتلال علينا، ويؤدون دورا أساسيا في ملهاة سوداء متكاملة الأركان، تتالت مشاهدها: أن نُقتل ثم نحاصر ثم نجوّع ثم يصير غاية أهدافنا ليس النجاة بأنفسنا من الموت قصفا بل النجاة بأجسادنا منه جوعا.
ويتبع ذلك كله مشاهد إدخال المساعدات يدفعون بذلك أدواتهم من إعلاميين ونشطاء يُروِّجون لانتهاء التجويع، ثم يقتلون من ينوي تأمينها أو توزيعها بالعدل، ويُسهّلون في المقابل الأمر للصوص يسرقونها، فلا التجويع انتهى ولا المساعدات وصلت.
يسألني طفلي (10 سنوات) كيف يتركنا العالم جوعى؟ وبينما أهمّ بالإجابة، تقمّصت ابنتي الكبرى (13 عاما) دوري، وردت "نحن ننزف دما منذ عامين وقد تركونا كذلك هل سيقهرهم أن نموت جياعا؟".
لقد فهما بلا جهد مني وأصابا بلا تعب منهما، واقعٌ يشكل وعي أطفالنا، يبدو بمثابة منهاج أسقطت مدينتهم معظم المسلمات منه حين مات فيها الناس جوعا، وصار دمهم ماء، وحين وجدوا أنهم وحدهم دون نصر من عربي، أو سند من مسلم.