دموع الوفاء تُغرق ملعب بورتسودان.. حيث يلتقي البحر بالأرض يرقد (إيلا) في قبره لكن إرثه يبقى إلى الأبد
تاريخ النشر: 7th, October 2025 GMT
في صباح يوم الاثنين 6 أكتوبر، غادر الدكتور محمد طاهر إيلا، آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس السابق عمر البشير، هذا العالم بعد صراع طويل مع المرض في العاصمة المصرية القاهرة، عن عمر ناهز 74 عاماً.
لم يكن رحيله مجرد خبر سياسي عابر، بل كان لحظة توقفت فيها نبضات مدينة بورتسودان بأكملها، لتتحول إلى بحر من الدموع والدعوات صباح اليوم في ملعبها الرياضي الكبير، حيث أقيمت صلاة الجنازة المهيبة اليوم، وشملت آلافاً من أبناء الشرق الذين جاؤوا ليودعوا “الوفي”، الرجل الذي جعل من ولايتهم قصة حب للأرض والبحر والإنسان.
كان الملعب، الذي يشهد عادةً صخب مباريات كرة القدم، يوماً مختلفاً تماماً. تحت شمس الشرق الحارقة، امتلأ الملعب بالناس، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ونكست الأعلام في الولاية؛ في رثاء لمن كان أكثر من مجرد سياسي؛ كان أباً للجميع. “د. إيلا لم يكن والياً، بل كان قلباً ينبض بألم أهل الشرق”، يقول أحمد عمر، معلم في إحدى مدارس بورتسودان التي بناها الراحل بيده. دموعه تترقرق وهو يتذكر كيف أصر إيلا، خلال فترة ولايته لولاية البحر الأحمر التي امتدت لعشرة أعوام، على إدخال الأطفال إلى التعليم الإلزامي، مقاتلاً الأمية كعدو شخصي. كان يقول إيلا: “كل طفل يترك المدرسة، هو جرح في جسد الوطن”. اليوم، أبناء الولاية يقرأون بفضله، ويدعون له بالرحمة في صلاتهم.
ذ
ولد إيلا عام 1951 في قرية جبيت بولاية البحر الأحمر، من قبيلة الهدندوة – العريقة ضاربة في أعماق الأرض كجبال البحر الأحمر – ونشأ وسط رمال الشرق وأمواج البحر الأحمر، ليحمل في قلبه حباً لا ينتهي لأرضه. بعد دراسته في جامعة الخرطوم حيث حصل على بكالوريوس الاقتصاد، ثم الماجستير في جامعة كارديف بالمملكة المتحدة، عاد إيلا ليصبح احد أشهر التنفيذيين في السودان، ثم يتقلد المناصب “وزير للطرق والجسور، والي البحر الأحمر، والي الجزيرة ثم رئيس وزراء في آخر عهد الانقاذ”. لكن أجمل فصول حياته كانت في البحر الأحمر، حيث أطلق عليه أهل المنطقة لقب “السبداير”. حول فيها الآلام إلى أمل، مدارس أضاءت عقول آلاف الأطفال الذين كانوا يرعون الغنم قبل أن يمسكوا بالأقلام. “قدم كل شيء”، يردد الجميع، وكأن الكلمة ليست مبالغة، بل حقيقة محفورة في ذاكرة الشرق.
رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، قدم أمس واجب العزاء، مشيداً بمسيرة إيلا الحافلة بالعطاء والبذل في خدمة السودان.
لكن في قلوب أهل الشرق، إيلا كان رمزاً للوفاء الذي يتجاوز السياسة. اليوم، وهم يعودون إلى بيوتهم، يحملون معهم ليس الحزن فقط، بل إلهاماً؛ فذكراه الطيبة ستظل مصباحاً يستنيرون به، يذكرهم بأن الخدمة الحقيقية هي تلك التي تبني الأجيال، لا الجدران. في بورتسودان، حيث يلتقي البحر بالأرض، رحل رجل، لكن إرثه يبقى… إلى الأبد.
صحيفة السوداني
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: البحر الأحمر
إقرأ أيضاً:
من أيزنهاور إلى ترومان.. اليمن يُنهي زمن التفوق البحري الأمريكي
يمانيون |
لم يكن البحر الأحمر يومًا بعيدًا عن صراعات النفوذ بين القوى الكبرى، غير أن اليمن، الذي طالما كان يُنظر إليه كدولة مطلة بلا تأثير استراتيجي مباشر، قلب هذه المعادلة رأسًا على عقب.
فمع تصاعد موجة الإسناد العسكري للقضية الفلسطينية عقب طوفان الأقصى، انتقلت المعركة إلى الممرات البحرية، ليعيد اليمن تعريف موازين السيطرة والردع في المنطقة.
على مدى عقود، ظل البحر الأحمر تحت الهيمنة الأمريكية والغربية، من أيزنهاور إلى ترومان، وكانت حاملات الطائرات الأمريكية ترسم حدود النفوذ وتتحكم بخطوط الملاحة العالمية.
إلا أن التطورات التي شهدها عام 2024 شكلت نقطة تحول فارقة، إذ أثبت اليمن أنه لم يعد مجرد متفرج في معادلة البحر، بل أصبح قوة قادرة على كسر احتكار واشنطن للممرات الحيوية.
فقد نفذت القوات المسلحة اليمنية خلال شهري مايو ويونيو من العام ذاته ثلاث عمليات نوعية أربكت البحرية الأمريكية وأجبرتها على إعادة تموضع قواتها في البحر الأحمر.
حاملة الطائرات “إبراهام لينكولن” التي كانت تعتبر رمزًا للتفوق الأمريكي، اضطرت إلى الانسحاب في 12 نوفمبر 2024 بعد فشل محاولاتها في المناورة على مسافات آمنة.
أما حاملة “روزفلت” فظهرت كمراقبٍ مترددٍ في خوض المواجهة، في حين تحولت “ترومان” إلى محور العمليات اليمنية التي طالتها بأكثر من 22 استهدافًا دقيقًا خلال أقل من ستة أشهر، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ البحرية الأمريكية.
وعندما حاولت “فينسون” التقدم لتخفيف الضغط عن الأسطول، تلقت ضربة وصفتها تقارير البنتاغون بأنها من “أكثر العمليات إيلامًا في سجل البحرية الأمريكية”.
هذه الهجمات أعادت تشكيل معادلة الردع في البحر الأحمر، حيث أصبح الوجود الأمريكي عبئًا استراتيجيًا أكثر من كونه عامل قوة، بعدما أثبتت الصواريخ والطائرات المسيّرة اليمنية أنها قادرة على تجاوز كل طبقات الدفاع البحري الأمريكي، من الرادارات إلى الأقمار الصناعية.
ومع تصاعد الضربات، وجدت واشنطن نفسها مضطرة لطلب وساطة عمانية لتجنب التصعيد، في وقتٍ خرج فيه ترامب بتصريحٍ لافتٍ اعترف فيه بعجز بلاده عن “كبح القدرات اليمنية”، واصفًا المقاتلين اليمنيين بـ “الأشد صلابة وشجاعة في مواجهة النيران”.
هذا الاعتراف لم يكن مجرد توصيفٍ لحالة آنية، بل إقرارٌ صريح بأن زمن الهيمنة الأمريكية المطلقة على البحار قد انتهى، وأن اليمن بات يملك من القدرات ما يؤهله لتغيير قواعد الاشتباك الإقليمي، ليس فقط دفاعًا عن حدوده وسيادته، بل نصرةً لفلسطين ومساندةً لجبهات المقاومة.
وهكذا، من حقبة أيزنهاور التي دشنت الوجود الأمريكي في البحر الأحمر، إلى زمن ترومان الذي شهد نهايته الرمزية على يد العمليات اليمنية، يمكن القول إن القرن الجديد يشهد ولادة قوة بحرية يمنية مستقلة، استطاعت أن تحوّل البحر من ممر خاضع إلى ساحة ردع مفتوحة باسم الأمة والمقاومة.
لقد ولّى زمن الغطرسة البحرية الأمريكية، وحضر اليمن بثباته وعملياته النوعية، ليؤكد أن السيادة تُصنع بالإرادة لا بالأساطيل، وأن الردع لا يقاس بعدد حاملات الطائرات بل بقدرة الشعوب على الصمود والابتكار والمواجهة.