العبودية الناعمة ووهم الحرية في عصر العلمنة الحديث
تاريخ النشر: 30th, October 2025 GMT
في عالمٍ تتنكر فيه العبودية في هيئة الحرية، وتُسوَق فيه الهيمنة على أنها خلاص فردي، يقدِم الدكتور عبد اللطيف عمر المحيمد كتابه "العبودية الناعمة ووهم الحرية في عصر العلمنة الحديث"، الذي صدر حديثا عن دار الإمام المازري للنشر والتوزيع، وهو محاولة فكرية جادة لتفكيك هذا التناقض المربك الذي يطبع روح الحداثة المتأخرة.
ينطلق المؤلف من فرضية أن العلمنة لم تفضِ إلى تحرير الإنسان من التقاليد أو السلطات الرمزية، كما بشر مفكرو التنوير، بل أعادت إنتاج العبودية في هيئة جديدة أكثر نعومة، وأكثر قدرة على الإيهام. إنها عبودية ناعمة، لأنها لا تُفرض بالسوط ولا بالإكراه، بل بالإقناع والإغواء، وتستمد فاعليتها من قدرتها على جعل الإنسان يرضى بقيوده ويعدها جزءًا من ذاته. ومن هنا يتأسس الكتاب بوصفه قراءة نقدية في "التحرر الزائف" الذي تروجه منظومة العلمنة الحديثة: حرية الاستهلاك بدل حرية الوعي، وحرية الرغبة بدل حرية المعنى.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ساري حنفي: الليبرالية الرمزية تقوض العدالة وعلمانية فرنسا ضد الأديانlist 2 of 2المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي.. سيرة البحث عن إشراق المعرفةend of listيأتي هذا الكتاب ليعري أكثر أنماط الاستعباد خفاءً، وأشدها رسوخًا في البنية المعاصرة للإنسان؛ الرق الجديد الذي يلبس لبوس الحرية، ويستعير لسان الحداثة، ويتخفى في تفاصيل الحياة اليومية حتى يغدو الإنسان عبدًا طائعًا وهو يظن أنه سيد نفسه.
وبهذا الوعي النقدي يفتتح المؤلف مشروعه الفكري الذي يستهدف مساءلة المسلمات الكبرى التي رسختها الحضارة الغربية الحديثة حول الحرية والكرامة والتقدم والعقلانية، فيكشف أن ما يبدو حريةً في ظاهر الخطاب ليس في جوهره إلا إعادة إنتاج لنظام عبودية ناعمة، تُدار بأدوات رمزية وفكرية ونفسية لا تقل فاعلية عن الأغلال الحديدية في العصور الماضية.
هل نحن أحرار حقًا أم أننا نحيا داخل منظومات موجَهة تتحكم في وعينا وتُسير اختياراتنا دون أن نشعر
عبودية الرفاهويبدأ الدكتور عبد اللطيف رحلته من المشهد المعاصر للإنسان الحديث الذي يبدو في أقصى درجات الرفاهية والتمدن. فوسائل الراحة والاتصال، من الهواتف الذكية إلى الفضاءات الرقمية، جعلت الإنسان يظن أنه بلغ ذروة الحرية والتحكم في مصيره. لكن المؤلف يطرح سؤالًا مزلزلًا: هل نحن أحرار حقًا أم أننا نحيا داخل منظومات موجَهة تتحكم في وعينا وتُسير اختياراتنا دون أن نشعر؟
إعلانوينبه إلى أن الإنسان المعاصر خضع لتحول دقيق في علاقته بالعالم، فبعد أن كانت العبودية القديمة تُفرض بالقوة، صارت العبودية الحديثة تُزرع في القلب والعقل والذوق. لقد أُعيد تعريف الحرية ذاتها على نحو يجعل الإنسان أكثر طاعةً للنظام الذي يظن أنه يتمرد عليه. فالحرية اليوم -كما يصفها المؤلف- تحولت إلى سلعة استهلاكية، يُروَج لها في الأسواق والإعلانات والفضاءات الرقمية، وتُقاس بقدرة الفرد على الشراء والتملك لا بقدرته على الفهم والاختيار.
ويضع المؤلف هذا النمط من العبودية في سياقٍ فكريٍ أوسع، هو العلمنة بوصفها المشروع المركزي للحضارة الغربية الحديثة. فالعلمانية في نظره ليست مجرد فصلٍ بين الدين والدولة، بل هي عملية شاملة لإعادة صياغة العالم والإنسان وفق مقاييس مادية نفعية، تُفرغ الوجود من معناه السامي، وتحول الإنسان إلى كائن اقتصادي قابل للقياس والاستهلاك.
وفي الباب الثاني من الكتاب، يتتبع المؤلف التحليل الذي قدمه المفكر عبد الوهاب المسيري حول "العلمانية الجزئية والشاملة"، ليُبرز كيف تسللت العلمنة إلى كل مستويات الوعي الإنساني؛ من الفكر إلى اللغة، ومن التعليم إلى الجسد، ومن الدين إلى الفنون. فالعلمانية الشاملة -في تصورهما- ليست مجرد موقف سياسي، بل هي بنية ثقافية كاملة تعيد تشكيل القيم والمعايير، وتنتج إنسانًا مُعلمنًا لا يرى في نفسه إلا جسدًا يُستهلك وسوقًا تُستثمر.
ويتوسع الكتاب في الباب الثالث ليرصد أشكال العبودية الناعمة التي تسللت إلى تفاصيل الحياة المعاصرة، فيستعرض مظاهر علمنة الفلسفة والدين واللغة والتعليم والجسد والجمال والمشاعر والطعام واللباس وغير ذلك، أي تلك العملية التي تجعل من الإنسان جزءًا من آلة كبرى تُعيد إنتاج القيم الغربية دون وعي منه.
في هذا السياق، يقدم الدكتور عبد اللطيف تحليلًا دقيقًا لما يسميه "علمنة الجسد"، حيث لم يعد الجسد كيانًا إنسانيًا ذا معنى روحي أو أخلاقي، بل أصبح موضوعًا "للتشييء" والاستهلاك، تُحدد قيمته بما يُعرض منه في الفضاء الإعلامي، وما يخضع له من معايير الجمال المصنعة. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: فبينما يرفع الخطاب المعاصر شعار تحرير الجسد، تمارس الثقافة ذاتها استعبادًا خفيًا له من خلال تسليعه وتحويله إلى وسيلة لربح السوق وإدامة المنظومة الرأسمالية.
أما الباب الرابع، فيقدم تشخيصًا بالغ العمق لما يسميه "عبيد العصر"، أولئك الذين يعيشون في أقصى درجات الخضوع للنظام الاستهلاكي وهم يظنون أنهم أحرار، فيصفهم بأنهم عبيد أذكياء، يبررون لأنفسهم كل أشكال الخضوع بحجة التطور والانفتاح، ويجدون في الاستهلاك المفرط دليلًا على نجاحهم الاجتماعي. هؤلاء -في رأي المؤلف- هم نتاج طبيعي لمنظومة إعلامية واقتصادية صنعت لهم نموذجًا موحدًا للعيش والتفكير، حتى غدت الحرية لا تتجاوز هامش الاختيار بين منتجين أو فكرتين أو أسلوبين للحياة، كلاهما داخل القالب ذاته. وهكذا، يغدو الإنسان المعاصر مستعمَرًا في بيته، منقادًا من بعيد، لا يحتاج المستعبِد إلى إرسال جيوش ولا إلى رفع رايات، لأن أدوات السيطرة باتت رمزية ناعمة: شاشة، وإعلان، ورغبة، وتطبيق ذكي.
بعد هذا التشخيص القاتم، لا يغلق المحيمد أبواب الأمل، ففي الباب الخامس من كتابه، يرى أن الدين يظل الملاذ الأخير للحرية، لأنه وحده يعيد للإنسان وعيه بذاته وتكريمه، ويحرره من عبودية السوق والمادة. فالدين -في جوهره- لا يطلب من الإنسان أن يكون تابعًا، بل أن يكون عبدًا لله وحده، وهذه العبودية هي عين التحرر من كل أشكال العبوديات الأخرى. إن الحرية التي ينشدها الكتاب ليست حرية الغرائز ولا حرية الاختيار في سوق القيم، بل هي حرية الوعي الذي يميز بين ما يُراد لك أن تكونه وما تختار أن تكونه. ومن هنا يصبح الإيمان بمعناه العميق فعلًا مقاومًا، يحرر الإنسان من سلطة الصورة والإعلان والرغبة المصنعة.
إعلانوفي فصول أخرى، يعالج الكتاب مظاهر انتكاس الفطرة الإنسانية تحت وطأة العلمنة الشاملة، مستعرضًا ما يسميه بـ"الفوضى الجندرية" و"الانحرافات الأخلاقية" التي غدت تُقدَم اليوم بوصفها حقوقًا أو تجليات للحرية الشخصية. فيرى المحيمد أن هذه الظواهر ليست نتاج تطور طبيعي للمجتمع، بل نتيجة مباشرة لعملية تفكيك منظمة تستهدف طمس معالم الفطرة، وإعادة تعريف الإنسان على نحو يُلغى فيه الفرق بين الطبيعة والاصطناع، وبين الهوية والاختيار اللحظي.
ويشير إلى أن هذا التلاعب بمفهوم الجندر والجمال واللباس ليس إلا امتدادا لعملية العلمنة الكبرى التي حولت الإنسان من كائن روحي إلى منتَج ثقافي قابل للتبديل. وهكذا، لم تعد الحرية تحريرا من القيد، بل تحولت إلى انفصال عن الجوهر، وعن الفطرة التي بها يكون الإنسان إنسانا.
ويتناول الباب السابع حرب المصطلحات التي تخوضها الحضارة الغربية لإعادة تشكيل الوعي العالمي. فالحرية، والإرهاب، والديمقراطية، والمواطنة، والإسلاموفوبيا، ليست مفاهيم بريئة، بل أدوات سياسية وأيديولوجية توظَف لفرض نموذج واحد للحقيقة.
ويبين المؤلف أن السيطرة على اللغة والمفاهيم تمثل أخطر أشكال العبودية الناعمة، لأن من يملك تعريف الأشياء يملك القدرة على توجيه الأذهان وصناعة الرأي العام. وبذلك تُدار معارك الأفكار لا في ساحات الجيوش، بل في ساحات الخطاب والإعلام والتعليم، حيث يُعاد تشكيل الوعي الجمعي وفق ما يخدم مصالح القوى المهيمنة.
أخطر ما يهدد الإنسان ليس أن يُستعبد بالقوة، بل أن يُستعبد وهو يظن نفسه حرًا
عبودية بلا أغلالكتاب "العبودية الناعمة" يقدم في مجمله صورة مروعة للإنسان المعاصر الذي يعيش داخل شبكة كثيفة من الإيحاءات الثقافية والإعلامية، تُحركه من حيث لا يدري. لكنه في الوقت ذاته يدعو القارئ إلى استعادة وعيه النقدي، والتمسك بمرجعيته الحضارية والدينية بوصفها صمام أمان يحول دون الذوبان في النموذج الغربي.
فالعبودية الجديدة -كما يصورها المؤلف- ليست صدامًا بين شرق وغرب، بقدر ما هي صراع على الإنسان ذاته: من يملك وعيه، ومن يحدد معاييره، ومن يزرع فيه صورة ذاته؟ إنها عبودية بلا مستعمِر ظاهر، لأن المستعمِر يسكن في الأجهزة التي بين أيدينا، وفي الخطاب الذي نردده، وفي الرغبات التي نُغذيها يومًا بعد يوم.
وختاما، فإن الكتاب دعوة إلى إعادة التفكير في مفهوم الحرية انطلاقًا من رؤية توحيدية تُحرر الإنسان من أوهامه. فالتحرر الحقيقي لا يتحقق بالانفلات من كل قيد، بل بالانتماء إلى نظام للمعنى يعلو على الهوى والمنفعة. ومن ثم، فإن مقاومة العبودية الناعمة لا تكون بالرفض الشعاراتي، بل بإحياء "الوعي الأخلاقي" الذي يجعل الإنسان مدركًا لمصدر قيمه ومعايير حريته.
وبهذا المعنى، يمكن القول إن كتاب "العبودية الناعمة ووهم الحرية في عصر العلمنة"، هو إسهام فكري أصيل في تشخيص أحد أمراض العصر الكبرى: وهم الحرية الذي يخفي في طياته أشكالاً جديدة من الاستعباد. وهو كتاب يذكر القارئ بأن أخطر ما يهدد الإنسان ليس أن يُستعبد بالقوة، بل أن يُستعبد وهو يظن نفسه حرًا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات فكر الإنسان من
إقرأ أيضاً:
برلماني: المتحف المصري الكبير رسالة حضارية تؤكد ريادة مصر الثقافية وقوتها الناعمة
أشاد النائب مدحت الكمار، عضو مجلس النواب، بالاستعدادات الجارية لافتتاح المتحف المصري الكبير يوم السبت المقبل، مؤكدًا أن هذا الصرح العملاق يمثل واحدًا من أعظم المشروعات الثقافية والحضارية في القرن الحادي والعشرين، ويعكس قدرة الدولة المصرية على الجمع بين عظمة التاريخ وروح الحداثة.
وقال الكمار، في تصريح صحفي اليوم، إن المتحف المصري الكبير يُجسد قوة مصر الناعمة ويعبر عن مكانتها التاريخية والحضارية الفريدة التي تمتد جذورها عبر آلاف السنين، مشيرًا إلى أن افتتاحه المرتقب يعيد التأكيد على ريادة مصر الثقافية في المنطقة والعالم.
وأضاف عضو مجلس النواب أن المتحف سيكون جسرًا ثقافيًا بين الماضي والمستقبل، ومنارة عالمية للبحث والتعليم والتفاعل الحضاري، فضلًا عن دوره في تنشيط السياحة وتعزيز الصناعات الثقافية، بما يتماشى مع رؤية مصر 2030.
وأوضح نائب القليوبية أن اختيار موقع المتحف المطل على أهرامات الجيزة يجسد رؤية هندسية وروحية عبقرية، تجمع بين أصالة الماضي وروعة الحاضر، مؤكدًا أن مصر استطاعت من خلال هذا المشروع أن تقدم للعالم نموذجًا مبهراً في صون التراث الإنساني وتقديمه برؤية عصرية.
واختتم النائب مدحت الكمار حديثه بالتأكيد على أن افتتاح المتحف المصري الكبير السبت المقبل سيكون حدثًا عالميًا فارقًا ورسالة واضحة بأن مصر قادرة على قيادة حوار الحضارات واستثمار إرثها الثقافي لتأكيد مكانتها كقوة ناعمة مؤثرة في محيطها الإقليمي والدولي.