قراءة في نقد ساري حنفي لمفارقات الحرية المعاصرة
تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT
هل يمكن أن تتحوّل الليبرالية -التي وُلدت تاريخيا بوصفها مشروعا للتحرر من الاستبداد- إلى أداة جديدة للهيمنة الرمزية؟ وهل يمكن لشعاراتها البراقة عن الحرية والتعددية أن تتحوّل إلى أقنعة تُخفي وراءها نزعات إقصائية لا تقل خطورة عن السلطويات التي طالما ادعت مقاومتها؟
هذا هو السؤال الجوهري الذي يتصدى له كتاب "ضد الليبرالية الرمزية.
ينطلق حنفي من التمييز بين ما يسمّيها الليبرالية الرقيقة والليبرالية السميكة، أما الليبرالية الرقيقة فتمثل جوهر الليبرالية الكلاسيكية: صون الحرية الفردية، وحماية التعددية، وضمان المساواة أمام القانون. وأما الليبرالية السميكة فتذهب أبعد من ذلك، إذ تسعى إلى فرض منظومة قيمية محددة، متخفية وراء خطاب يبدو تحرريا، لكنه في العمق يتحوّل إلى سلطة معيارية ضيقة، وفي هذا المستوى تولد الليبرالية الرمزية: خطاب يرفع شعارات شمولية عن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، لكنه في التطبيق يغدو أداة إقصاء واستبعاد.
والكتاب -الذي صدر بالعربية حديثا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بترجمة ياسر الزيات- ليس دعوة إلى إنكار الليبرالية، بل محاولة لإنقاذ جوهرها -كما يرى المؤلف- من انحرافاتها الرمزية، فالمؤلف يرى أن الخطر الأكبر يكمن في الخلط بين المبادئ التأسيسية غير القابلة للتفريط، وبين النزعة السميكة التي تدّعي احتكار تعريف الحرية والعدالة.
بنية الكتاب ومجالات النقديقع الكتاب في قسمين، متوزعين على سبعة فصول، يتناولان بالتحليل النظري والتطبيقي أهم مظاهر الليبرالية الرمزية، ففي القسم الأول يناقش حنفي مسار الليبرالية من جذورها الكلاسيكية حتى صيغتها الراهنة، محللا كيف تعثرت حين تحوّلت من نظرية "رقيقة" إلى نظرية "سميكة" مشبعة بالرمزية، وفي القسم الثاني يقدّم أمثلة ملموسة على تجليات هذه الرمزية في مجالات التعليم والجامعة والأسرة والسياسة والهوية الجنسية والدينية.
إعلانأحد محاور النقد الأساسية هو تشويه مفهوم العدالة، فالليبرالية الرمزية قزمت العدالة الاجتماعية إلى حدّ التفريغ، وفي المقابل ضخّمت مفهوم حقوق الإنسان لتغدو أشبه بعقيدة كونية لا تقبل النقاش، كما خلطت بين مفهوم العدالة ومفهوم الخير، بحيث أصبح التصوّر القيمي الخاص يُطرح باعتباره المعيار الوحيد للعدل.
الرأسمالية العاطفية وثقافة السلامةمن الإضافات البارزة في تحليل حنفي أنه لا يختزل الليبرالية الرمزية في بعدها الفكري، بل يربطها بالبنية الاقتصادية والثقافية لعصر ما بعد الحداثة المتأخرة، إذ يشير إلى صعود ما يسميها الرأسمالية العاطفية: أي استثمار المشاعر الجماعية كالحزن والغضب والتعاطف لتصير أدوات في الخطاب السياسي والإعلامي، وفي هذا السياق، تصبح المشاعر وسيلة للهيمنة الرمزية، إذ تُستخدم لتسويق مواقف أو لتجريم أصوات مخالفة.
ويتقاطع هذا مع ما يصفها بـ"ثقافة السلامة والثقافة العلاجية" في الجامعات الغربية، حيث يُطالب الخطاب الأكاديمي بأن يكون خاليا من أي "جرح" محتمل، فيُقصى المختلفون بحجة أن خطابهم قد يسبب ألما نفسيا أو يهدد "سلامة" الطلبة. وهكذا تتحوّل الجامعة -التي يفترض أن تكون فضاء للنقاش الحر- إلى حقل إلغاء وتدجين، يرفع شعار التعددية بينما يمارس الإقصاء باسمها.
أمثلة تطبيقيةلإيضاح خطورة هذه التحولات، يقدم الكتاب عددا من الأمثلة:
ثقافة الإلغاء (Cancel Culture): حيث يُستبعد المفكرون أو الأكاديميون من النقاش العام بسبب مواقف لا تنسجم مع المعايير السائدة، رغم أن هذه المواقف قد تكون ضمن حدود الحرية الأكاديمية. الجدل حول العلمانية والدين: في فرنسا مثلا، تتحول العلمانية الرمزية إلى أداة لإقصاء المسلمين الذين لا يقبلون الانصهار الكامل في النموذج الجمهوري، ويقترح حنفي بديلا يتمثل في العلمانية اللينة التي تسمح بقدر من الوصل بين الديني والعلماني في المجال العام. التنوع الجنسي والجندري: يميز الكتاب بين القبول المبدئي المفترض لليبرالية بعدم التمييز ضد الأقليات الجنسية، وبين فرض هوية جندرية معينة بوصفها معيارا اجتماعيا إلزاميا، فحين يتحول الاعتراف بالحقوق إلى احتفاء إجباري بنموذج بعينه، يتحول الخطاب الليبرالي إلى سلطة رمزية جديدة. الأسرة والدولة: في بعض الدول الإسكندنافية، كما في حالات انتزاع الأطفال من ذويهم في السويد، تصبح الدولة الليبرالية نفسها أداة لفرض قيم مسبقة على الأسرة، فتقوض بذلك دورها الاجتماعي، لذلك يحذر حنفي في أطروحته من أن يُترك الفرد نهبا للدولة أو للسوق في غياب هذه البنية الوسيطة الآمنة الدافئة.لا يكتفي حنفي بالتشخيص، بل يقترح بديلا يتمثل في مشروع الليبرالية التحاورية، المستند إلى ما يسميه علم الاجتماع التحاوري. يقوم هذا المشروع على مستويين:
المعيارية المخففة: حيث يقدّم علم الاجتماع معرفة علمية تساعد النقاش العام والحركات الاجتماعية، مع إدراك أن الأسئلة العلمية تحمل افتراضات أخلاقية مسبقة. المعيارية الصلبة: حيث يتخذ علم الاجتماع مواقف واضحة ضد القوى المهيمنة والانتهاكات الصارخة للعدالة. إعلانوالخطورة -كما يبيّن حنفي- هي في خلط هذين المستويين أو إلغاء الأول لصالح الثاني، مما يحوّل علم الاجتماع إلى أداة أيديولوجية، في حين يسعى المشروع التحاوري إلى الجمع بين الالتزام الأخلاقي والانفتاح على التعدّد، بحيث يبقى الحوار ممكنا حتى في ظل التباينات العميقة.
الأداء العاطفي والهيمنة الرمزيةمن أبرز تحليلات الكتاب أن الليبرالية الرمزية تعيد تشكيل النقاش العام من خلال الأداء العاطفي، فبدلا من أن تكون المشاعر جزءا من حوار أخلاقي متوازن، صارت تُستخدم بوصفها أدوات لإغلاق النقاش، وبهذا المعنى، تصبح بعض مفاهيم الضحية أو الألم أو الغضب وسيلة لإضفاء شرعية مطلقة على خطاب بعينه، ولإقصاء أي اعتراض، وبذلك فهي رمزية، لأن القوة تكمن في الرمز العاطفي أكثر مما تكمن في الحجة العقلية.
الكتاب في جوهره دعوة إلى استعادة الحرية من هيمنة شعاراتها، فحنفي يرى أن حماية الليبرالية من ذاتها تتطلب أمرين أساسيين: التشبّث بمبادئها الرقيقة التي لا غنى عنها كالحرية الفردية والتعددية والمساواة أمام القانون، والتحرر-في الوقت ذاته- من نزعتها السميكة التي تدعي تعريف الخير والعدل تعريفا وحيدا، وتفرضه رمزيا على الجميع.
وبهذا تصبح التعددية الحقيقية هي التعايش مع اختلافات قيمية وثقافية لا يمكن ردها إلى معيار واحد، لا مجرد قبول تنوع مشروط سلفا.
"ضد الليبرالية الرمزية" ليس مجرد نقد لأزمة الليبرالية في طورها المعاصر، بل هو أيضا محاولة لإعادة تأسيس أفق جديد للفكر الاجتماعي. إن ما يقدمه حنفي هو تشخيص عميق لتحول الليبرالية من أفق تحرري إلى خطاب رمزي إقصائي، واقتراح لمشروع بديل يعيد الحرية إلى معناها الأصيل -كما يظن-: فضاء مشترك مفتوح للنقاش، لا شعار أيديولوجي أجوف.
وهكذا يضعنا الكتاب أمام مفارقة كبرى هي أن الليبرالية -إن لم تُصحّح انحرافاتها الرمزية- قد تتحوّل من وعد بالتحرر إلى أداة لإنتاج هيمنة من نوع جديد. والخروج من هذا المأزق قد يكمن في تحويل النقاش الفكري إلى حوار حيّ، وفي إعادة التقدير إلى علم اجتماع تحاوري يعترف بالاختلاف، ويقاوم الإقصاء، دون أن يتخلى عن القيم التأسيسية للحرية والعدالة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات علم الاجتماع إلى أداة تتحو ل
إقرأ أيضاً:
حاصباني: حماية الحرية مسؤوليتنا اليوم
كتب نائب رئيس مجلس الوزراء السابق النائب غسان حاصباني عبر حسابه على منصة "اكس":
"في الذكرى العشرين لاستشهاد جبران تويني، نستعيد صوته الحرّ وكلمته الشجاعة. مسؤوليتنا اليوم أن نحوّل ذكراه إلى فعل، ونحمي الحرية، ونبني دولة سيّدة عادلة بكل مواطنيها، موحدين إلى أبد الآبدين، مهما اختلفنا بالرأي، لبنان الذي استشهد من أجله ولم يساوم عليه". مواضيع ذات صلة محفوض يدعو النواب إلى حماية حرية البرلمان Lebanon 24 محفوض يدعو النواب إلى حماية حرية البرلمان
12/12/2025 13:04:24 12/12/2025 13:04:24 Lebanon 24 Lebanon 24 مرقص: المشروع الجديد لقانون الإعلام يهدف لحماية حرية التعبير Lebanon 24 مرقص: المشروع الجديد لقانون الإعلام يهدف لحماية حرية التعبير
12/12/2025 13:04:24 12/12/2025 13:04:24 Lebanon 24 Lebanon 24 وزير الإعلام بول مرقص: المشروع الجديد لقانون الإعلام يهدف لحماية حرية التعبير (الحدث) Lebanon 24 وزير الإعلام بول مرقص: المشروع الجديد لقانون الإعلام يهدف لحماية حرية التعبير (الحدث)
12/12/2025 13:04:24 12/12/2025 13:04:24 Lebanon 24 Lebanon 24 محافظة القدس: 920 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى اليوم تحت حماية القوات الإسرائيلية Lebanon 24 محافظة القدس: 920 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى اليوم تحت حماية القوات الإسرائيلية
12/12/2025 13:04:24 12/12/2025 13:04:24 Lebanon 24 Lebanon 24 النائب غسان حاصباني رئيس مجلس الوزراء غسان حاصباني مجلس الوزراء جبران تويني غسان حاصبان نائب رئيس حاصباني قد يعجبك أيضاً
القضاء يكسر معادلة النفوذ… شاطئ ذوق مصبح يُنتزع من النافذين ويعود للدولة
Lebanon 24 القضاء يكسر معادلة النفوذ… شاطئ ذوق مصبح يُنتزع من النافذين ويعود للدولة
06:00 | 2025-12-12 12/12/2025 06:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 الأشغال: مشاريع عاجلة وطويلة الأجل لضمان سلامة مستخدمي طريق ضهر البيدر
Lebanon 24 الأشغال: مشاريع عاجلة وطويلة الأجل لضمان سلامة مستخدمي طريق ضهر البيدر
05:51 | 2025-12-12 12/12/2025 05:51:07 Lebanon 24 Lebanon 24 العلامة الخطيب: مخططات خطيرة تهدد لبنان
Lebanon 24 العلامة الخطيب: مخططات خطيرة تهدد لبنان
05:43 | 2025-12-12 12/12/2025 05:43:53 Lebanon 24 Lebanon 24 بالفيديو... حريق في الضاحية الجنوبية
Lebanon 24 بالفيديو... حريق في الضاحية الجنوبية
05:31 | 2025-12-12 12/12/2025 05:31:30 Lebanon 24 Lebanon 24 هذا ما قررته إسرائيل بشأن لبنان.. صحيفة تُعلن الأمر
Lebanon 24 هذا ما قررته إسرائيل بشأن لبنان.. صحيفة تُعلن الأمر
05:30 | 2025-12-12 12/12/2025 05:30:00 Lebanon 24 Lebanon 24 الأكثر قراءة
بالصورة... شخصٌ واحدٌ فاز بأكبر جائزة "لوتو" في تاريخ لبنان
Lebanon 24 بالصورة... شخصٌ واحدٌ فاز بأكبر جائزة "لوتو" في تاريخ لبنان
13:34 | 2025-12-11 11/12/2025 01:34:13 Lebanon 24 Lebanon 24 شقيقة المبدع جورج خباز.. ممثلة لبنانية تتعرض لحادث سير مروّع (فيديو)
Lebanon 24 شقيقة المبدع جورج خباز.. ممثلة لبنانية تتعرض لحادث سير مروّع (فيديو)
08:38 | 2025-12-11 11/12/2025 08:38:32 Lebanon 24 Lebanon 24 بعد تعرّضها لحادث سير ونقلها إلى المستشفى... ما هو وضع الممثلة لورا خباز الصحيّ؟
Lebanon 24 بعد تعرّضها لحادث سير ونقلها إلى المستشفى... ما هو وضع الممثلة لورا خباز الصحيّ؟
11:21 | 2025-12-11 11/12/2025 11:21:06 Lebanon 24 Lebanon 24 حالات تسمّم في بلدة لبنانية.. أكثر من 70 مصابا بينهم راهبات
Lebanon 24 حالات تسمّم في بلدة لبنانية.. أكثر من 70 مصابا بينهم راهبات
07:14 | 2025-12-11 11/12/2025 07:14:37 Lebanon 24 Lebanon 24 معلومات استخباراتية.. هذه خطة إسرائيل في جنوب لبنان
Lebanon 24 معلومات استخباراتية.. هذه خطة إسرائيل في جنوب لبنان
12:00 | 2025-12-11 11/12/2025 12:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 أخبارنا عبر بريدك الالكتروني بريد إلكتروني غير صالح إشترك أيضاً في لبنان
06:00 | 2025-12-12 القضاء يكسر معادلة النفوذ… شاطئ ذوق مصبح يُنتزع من النافذين ويعود للدولة
05:51 | 2025-12-12 الأشغال: مشاريع عاجلة وطويلة الأجل لضمان سلامة مستخدمي طريق ضهر البيدر
05:43 | 2025-12-12 العلامة الخطيب: مخططات خطيرة تهدد لبنان
05:31 | 2025-12-12 بالفيديو... حريق في الضاحية الجنوبية
05:30 | 2025-12-12 هذا ما قررته إسرائيل بشأن لبنان.. صحيفة تُعلن الأمر
05:26 | 2025-12-12 مخزومي: الاجتماع الرباعي يؤكد أن الجيش ركيزة الاستقرار فيديو هل بدأ العدّ التنازلي لعمل عسكري أميركي ضد فنزويلا؟
Lebanon 24 هل بدأ العدّ التنازلي لعمل عسكري أميركي ضد فنزويلا؟
10:00 | 2025-12-11 12/12/2025 13:04:24 Lebanon 24 Lebanon 24 محمد اسكندر يطلق " انسى وطنش ".. وملكة جمال تُشاركه الكليب !
Lebanon 24 محمد اسكندر يطلق " انسى وطنش ".. وملكة جمال تُشاركه الكليب !
05:09 | 2025-12-06 12/12/2025 13:04:24 Lebanon 24 Lebanon 24 بسعر منافس جداً.. إطلاق هاتف جديد بقدرات تصوير مميزة (فيديو)
Lebanon 24 بسعر منافس جداً.. إطلاق هاتف جديد بقدرات تصوير مميزة (فيديو)
04:00 | 2025-12-06 12/12/2025 13:04:24 Lebanon 24 Lebanon 24
Download our application
مباشر الأبرز لبنان فيديو خاص إقتصاد عربي-دولي متفرقات أخبار عاجلة
Download our application
Follow Us
Download our application
بريد إلكتروني غير صالح Softimpact
Privacy policy من نحن لإعلاناتكم للاتصال بالموقع Privacy policy جميع الحقوق محفوظة © Lebanon24