“ريتال العالول” مأساة تعكس عجز العالم عن حماية الطفولة في غزة
تاريخ النشر: 30th, October 2025 GMT
الثورة نت /..
في غزة، لا تبدأ الطفولة كأي مكان آخر، بل تحت وطأة الحصار وأصوات الانفجارات.
وسط حي الشيخ رضوان المكتظ، ترقد “ريتال العالول”، طفلة في الرابعة من عمرها، على سريرها الأبيض، جسدها يذبل وعيناها تبحثان عن الضوء.
صاروخ صهيوني لم يكن مجرد انفجار، بل بداية مرض قاتل سرطاني نادر أضعف جسمها الطري، وجعل من حياتها رحلة مستمرة بين المستشفيات والمعابر المغلقة، في انتظار علاج قد ينقذها قبل أن تفقد حياتها تمامًا.
في تلك الليلة العاصفة، سقط صاروخ يحمل مواد متفجرة محرمة دوليًا على مقربة من منزل عائلتها، لتنطلق من حولهم إشعاعات قاتلة، لم تترك سوى رماد الألم.
وبعد أيامٍ من النزوح والاختناق، بدأت أعراض غريبة تظهر على الصغيرة؛ انتفاخ في عينيها، ضعف في الحركة، ونحول مفاجئ في جسدها. ظنت والدتها أن ما تمر به صدمة نفسية من أصوات القصف، لكن الحقيقة كانت أعمق وأوجع.
يقول والدها يوسف العالول بصوتٍ يختنق بالعجز لـموقع “فلسطين أون لاين”: “استيقظت ريتال ذات صباح لا تقوى على المشي، وفقرات عمودها متشنجة، لم أكن أعرف السبب، نقلناها للمستشفى رغم انهيار المنظومة الصحية، وهناك كانت الصدمة… قالوا لي إنها مصابة بورم أرومي عصبي نادر”.
الورم، الذي يُعرف علميًا بـNeuroblastoma، انتشر في عينها اليمنى، وهدد الأخرى، وأثر على أعصاب الحركة.
ريتال التي كانت تركض وتغني وتملأ البيت ضحكًا، أصبحت اليوم حبيسة سرير المستشفى، تتغذى عبر المغذيات الوريدية، وتصارع ألمًا يفوق جسدها الصغير.
ويضيف والدها: “انخفض دمها إلى 4، وتحتاج لنقل وحدات دم باستمرار. كان يفترض أن تُسافر للعلاج خارج غزة، لكن المعبر مغلق منذ أكثر من شهرين، وكل يوم نراقبها تضعف أمام أعيننا دون أن نستطيع إنقاذها”.
ريتال التي كانت تحب الرسم وتغطي جدران بيتها بألوان طفولية، أصبحت الألوان تُؤلم عينيها، والضوء يُزعجها. كلما نظرت في المرآة تسأل والدها: “بابا وين عيني؟ ليه مش بشوف زي قبل؟” — سؤال يُمزق قلبه ولا يجد له جوابًا.
الأطباء في غزة يؤكدون أن علاج الورم يتطلب تدخلًا عاجلًا في مراكز أوروبية متخصصة، وأن العلاج الكيميائي المتوفر في القطاع غير كافٍ، وأن استمرار التأخير يعني فقدان الأمل في إنقاذها.
ورغم صدور تحويلة طبية عاجلة منذ أكثر من شهرين، ما زالت ريتال عالقة في دائرة الانتظار، بين أبواب مغلقة وأوراق لا تُنقذ الأرواح.
يقول والدها بحرقة: “أنا مش طالب معجزة… بس بدي بنتي تعيش. بدي حد يسمعنا، يفتح المعبر، يوصل صوتنا. هل أنتظر موتها أم اتصالكم؟”
في غرفةٍ ضيقة، تفتقد لأبسط مقومات العلاج، ترقد ريتال اليوم على سريرها الأبيض، جسدها يذبل، وعيناها تبحثان عن ضوءٍ لا يأتي. هي ليست مجرد طفلة مريضة، بل شاهد حي على الإبادة الصامتة، على أن الحرب لا تنتهي بانفجار الصاروخ، بل تبدأ بعده في أجساد الأطفال الذين تُطفأ أعينهم، وتُكسر أحلامهم قبل أن يتعلموا النطق بها.
بين ورقة تحويل لا تُنفذ، ومعبرٍ مغلقٍ منذ شهور، تبقى ريتال العالول عالقةً بين الحياة والموت، شاهدةً على عجزٍ دوليٍّ يقتل بصمته كما يقتل الصاروخ بانفجاره.
ريتال ليست رقمًا في سجلات المرضى، بل وجهٌ لطفولةٍ تُذبح ببطء، تنتظر تدخلًا عاجلًا ينقذ حياتها، بعدما تحولت معاناتها إلى مرآةٍ تعكس عجز العالم عن حماية الطفولة في غزة.
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: فی غزة
إقرأ أيضاً:
رحلة لم تكتمل
من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
تنزف من فمها، ويحتدم الألم في سنتها الأمامية الوسطى. دموعها تنهمر، لا تعرف كيف انحنت سنتها إلى الداخل، أو من أين أتى هذا الدم، أو هذا الألم المباغت. تركض في شارعٍ واسعٍ طويل بلا وعي، حتى يصطدم جسدها بجسدٍ ضخمٍ هائل لا تراه، لكنها تشعر بأنفاسه الحارّة، وأنيابه التي تغرس في جسدها كأنها تبحث عن قلبها تحديدًا. يعلو صدرها ويهبط، تتسارع أنفاسها، وتحاول أن تحرر جسدها من قبضته.
تستيقظ مفزوعة، ككل مرة، من هذا الكابوس المتكرر. تستغفر ربها وتتعوّذ من الشيطان، ثم تنهض لتؤدي صلاة الفجر. تهمس بالأذكار لتعود للنوم.
في صباح يوم جديد، تشرق الشمس تشوبها بعض الغيوم. يلفح وجهها الخمريّ النسيم البارد، فتبتسم رغم الصقيع. ترتدي "روح" فستانًا قرمزيًا، وتجهز حقيبتها. اليوم، ستذهب في رحلة إلى الريف المصري.
يحمل الأتوبيس الركاب، والبرد يلسع الوجوه. تتأمل عيناها الطريق والحقول الممتدة، وتشعر بشيء يشدها إلى هذا المكان، وكأنها تعرفه... أو عاشت فيه من قبل.
عندما تصل، تلاحظ شيئًا غريبًا في أهل القرية. ملامحهم متشابهة بشكلٍ مريب، وعيونهم تتابعها بنظرات لا تدري هل هي حانية أم مشفقة أم... مترصدة. فتاة هادئة توصلها إلى سكن بسيط من البوص، عشة صغيرة ذات منظر ريفي بديع. لكنها ما إن تخطو داخلها حتى يسري برق في جسدها، قشعريرة تعرفها جيدًا.
تمضي يومين في التجوّل والاستمتاع مع صديقتها المقربة، لا تفترقان إلا حين يسود الليل. لكن في قلب روح، تتراكم الأسئلة. لماذا يشعرها كل شخص في القرية بأنه يعرفها؟ لماذا ينفذون ما تفكر به دون أن تنطق به؟
وفي الليلة الثالثة، تجلس كعادتها لتدوّن ما شعرت به. فجأة، تشعر بشيء غريب يمر بالغرفة. صوت خارجي لا يشبه صوت الريف، تزامنه أمطار خفيفة تهطل على السقف البوصي. ترتجف يدها، ويسقط كوبها المفضل، ينكسر. حزينة، تجمع شظاياه وتضعها جانبًا في وعاء صغير، ثم تنام.
صباح اليوم التالي، تستيقظ على خيوط الشمس تتسلل إلى غرفتها. تفتح عينيها ببطء، فتلمح الكوب... كما كان، بلا شرخ، بلا أثر لأي كسر. قلبها ينقبض. شعور غريب يتسلل إلى داخلها، ليس الفرح، بل القلق.
تحزم حقيبتها وتذهب لصديقتها، تخبرها بأنها تريد الرحيل فورًا. لكن خطواتها تبدأ بالترنح. ألم في الرأس، ودوار. تستند إلى الحائط، تغمض عينيها لتستعيد توازنها... وحين تفتحهما، تجد نفسها داخل قبضة يد وحش عملاق.
أنفاسه الحارّة تعود. الأنياب، الصوت، الشارع الطويل، الدم...
تدرك الآن أن ما كانت تحلم به... لم يكن حلمًا. تتلفت حولها، تجد نفسها بداخل العشة وتتفاجأ بتقلص المكان يضيق ويضيق ليناسب جسدها، تنظر لهذا الوحش مازال موجودا رغم ضيق المكان يبدو كسراب.
تبكي وتتوسل إليه، لم ينصت إليها بل يخلع أسنانها سنة سنة وكذلك أظافرها. تشعر بألم شديد وتآكل بكامل جسدها، والدم يسيل من فمها وأطرافها؛ ليغشي عليها مرة أخرى.
تستيقظ على حركة قوية وصوت صريخ، لتجد نفسها بالأتوبيس وبجوارها صديقتها لترفض استكمال الرحلة وتتعلل بالمرض.
تعود وتدخل بيتها وتستريح على الأريكة ليظهر الوحش أمامها مبتسما.