لجريدة عمان:
2025-11-15@14:53:38 GMT

الزهرات المنثورة من تراث الأندلس

تاريخ النشر: 15th, November 2025 GMT

الزهرات المنثورة من تراث الأندلس

إيهاب الملاح 

(1)

منذ تحقيقه ونشره في النصف الثاني من القرن الماضي في دورية عريقة تصدر بالعربية في مدريد الإسبانية، لم يظهر هذا النص التراثي النادر في أي نشرة مطبوعة أو في سلسلة تعنى بكتب التراث المحققة في العالم العربي تحقيقا عمليا دقيقا موثقا..

عن كتاب «الزهرات المنثورة في نكت الأخبار المأثورة» لابن سماك العاملي "الغرناطي"، والذي قام بتحقيقه ونشره للمرة الأولى عميد الدراسات الأندلسية وشيخها الأستاذ الدكتور محمود علي مكي (1929-2013)، وقد نشر على جزئين في مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد (إسبانيا) في مطالع الثمانينيات من القرن الماضي.

أنتج المرحوم الدكتور محمود علي مكي إنتاجا مذهلا كتابة ومحاضرة وتحقيقا وترجمة، بكلمات أخرى، كان مشروع الرجل العلمي والمعرفي والثقافي، قائمة طويلة ممتدة من الإسهامات العلمية العميقة في الأدب الأندلسي وتاريخه، وحضارته، والأدب العربي بصفة عامة، والأدب المقارن والدراسات الإسلامية، وتحقيق التراث، عدا دوره البارز في الترجمة عن الإسبانية، ودراساته الرصينة عن الأدبين الإسباني والبرتغالي والتعريف بآداب الدول الناطقة بالإسبانية.

وإلى يومنا هذا لم يُجمع هذا النتاج ولم يُصنف ولم يرتب، ولم يظهر بالشكل ولا بالصورة التي تليق بأستاذيته، وتليق بقيمته، وتليق بحاجة الأجيال الجديدة إلى فيض علمه وغزارة معارفه، ولقد فاتنا علم كثير جدا وفوائد جمة بإهمالنا هذا الإرث الأصيل بتنوعه وتعدده وجمعه بين العربي والإسباني، بين التاريخي والمعاصر، بين اللغوي والأدبي، بين التأليف والتحقيق والترجمة، بين المقالات والدراسات والبحوث..

(2)

بعد مرور ما يقرب من نصف القرن على هذا الصدور الأول، أعادت (دار المعارف) بالقاهرة، وضمن سلسلتها العريقة (ذخائر العرب)، نشر هذا الكتاب بجزئيه بين دفتي مجلد واحد، صدر أخيرا لتتيح بذلك هذا النص النادر والمهم للقارئ العربي عموما، وللباحثين والدارسين والمهتمين بالتراث العربي وذخائره ونصوصه النادرة بالأخص.

عنوان الكتاب «الزهرات المنثورة في نكت الأخبار المأثورة» لـ«ابن سماك العاملي»؛ دراسة وتحقيق محمود علي مكي، مؤلفه هو أبو القاسم محمد بن أبي العلاء بن محمد بن سماك العاملي الغرناطي، المولود حوالي سنة 740 هجرية (منتصف القرن الثامن الهجري تقريبا، القرن الرابع عشر الميلادي).

بحسب محقق الكتاب الدكتور مكي؛ فإن الكتاب مجموعة من النوادر الرائعة والحكم الممتعة التي وردت على ألسنة الأمراء والوزراء والحجاب، وقد بلغت "مائة زهرة". ويظهر أن شفقة الكاتب في عصر بني الأحمر على أمرائهم وخوفهم من أن يضعفوا أو يركنوا إلى الخمول والدعة أو إلى التنافس والمؤامرات في هذه الحقبة المريرة من تاريخ الأندلس، جعلهم ذلك يكتبون في هذه الموضوعات التي تتضمن أخبار من سبقهم من الملوك والأمراء إمعانًا في النصح وإخلاصًا في الدعوة إلى التمسك بالجادة حتى لا تعصف الشهوات بما علق عليهم من الآمال.

وعلى هذا فقد تحدد موضوع الكتاب ومادته إلى حد كبير في جمع طائفة من الأخبار والطرائف والمواعظ مما قصد به المؤلف إلى تقديم مادة لتثقيف "المتأدبين" من الأمراء وأبناء الملوك والوزراء والمشتغلين بأمور الحكم والسياسة عمومًا، وهي مادة يودعها المؤلف خلاصة لقراءاته في كتب الأدب، والتي تضم أطرافًا من كل فن.

ويبدو الهدف التربوي التهذيبي "التعليمي" بشكلٍ خاص في الزهرات الأولى، التي تدور حول الحكم وسياسة الرعية وواجبات الحاكم والمحكومين، فهو يسلك في إيرادها سبيل الإبلاغ في الاختصار، وهو يقدمها بغير أدنى تعليق منه، وكأنه يرى أن كل خبر يكفي في تقديم العظة بنفسه، ويتفق في هذا مع روح العصر الذي كانت الثقافة العربية خلاله سائرة في طريق النضوب وفقد معين الأصالة.

(3)

ربما كان هذا الكتاب آخر ومضة في تراث عريق وعريض في المكتبة العربية؛ وهو ما عرف بكتب "مرايا الأمراء" التي تعود بجذورها إلى بدايات الترجمة عن الفارسية والهندية والسريانية، ثم تطور مدى التأليف العربي الخالص فيها فظهر العديد من المؤلفات منذ أواسط القرن الثالث الهجري وما تلاه وصولا إلى القرون الهجرية المتأخرة.

يقول الدكتور رضوان السيد عن هذا اللون من التأليف التراثي:

"أمّا مؤلِّفو كتب (مرايا الأُمراء) أو (نصائح الملوك) أو (الآداب السلطانية)، فهم مهتمون بإرشاد الملك إلى الأُسلوب السلمي في معالجة المشاكل لكي يدومَ مُلكه ويطول من جهة، ولكي تتمتع الرعية بالعدل والأمان من جهةٍ ثانية".

ويلاحظ الدكتور رضوان السيد أن هذه النوعية من الكتابات التي تندرج تحت أدبيات «نصائح الملوك والأمراء» لها ثلاثةُ أشكالٍ أو صيغ معروفة في التراث العربي؛ هي:

أولا: الحكاية السياسية على ألسنة الحيوانات، وهي تأتمُّ جميعا بـ[حكايات أو قصص] «كليلة ودمنة» التي ترجمها ابن المقفَّع (139هـ) إلى العربية عن الفارسية (وهي مترجمةٌ بدورها عن الهندية في القرن السادس الميلادي).

وثانيا: أو الشكل الثاني هو شكلُ الكتاب أو الدليل ذي الفصول: في المُلْك، في العدل، في حُسْن السياسة، في سياسات الملك مع رعيته، في الحيلة في الحرب.. إلخ. وأصلُ هذه الصيغة كتاب «سرّ الأسرار» المنحول والمنسوب إلى أرسطو، وقد تُرجم فيما يبدو عن اليونانية في وقتٍ مبكِّرٍ يرقى إلى القرن الثاني الهجري في صدر العصر العباسي الأول. وربما أفادت هذه الصيغةُ أيضًا من كُتب الملوك (خداي نامه) المترجمة عن الفارسية.

والشكل الثالث، والأخير، هو شكلُ الرسالة أو العهد من الملك لابنه أو من الفيلسوف والحكيم لتلميذه الأمير الشاب. وتنحو هذه الصيغة منحى «عهد أردشير» أول العهد المنسوب إليه، ومنحى «رسائل أرسطو إلى الإسكندر» وهي منحولةٌ أيضًا.

(4)

وإلى الشكلين الثاني والثالث، أو ما يمكن أن نعتبره مزيجا بينهما وتداخلا في نمط التأليف بينهما، يندرج كتاب ابن سماك العاملي الغرناطي «الزهرات المنثورة»؛ ولعلنا مع إيرادنا نماذج موجزة من زهرات الكتاب أو محتواه التعليمي "التأديبي" يشير إلى ما قصدناه أو ما وضحه الدكتور رضوان السيد في خطاطته الدقيقة لهذا اللون من التأليف وأنماطه في التراث العربي..

في صدر كتابه يورد المؤلف في زهرته الأولى، النص التالي:

"روي أنه لما كثرت الحِكَم اختصرها الحكماء الأولون في أربع مائة ألف كلمة، ثم جاء جيل بعدهم وهو الجيل الثاني منهم فاختصروها في أربعة آلاف كلمة جامعة لمعاني الأربع مائة ألف كلمة، ثم جاء من بعدهم فردوها إلى أربع مائة جامعة أيضًا لمعاني أربع مائة ألف، ثم جاء الإسلام فردوها إلى أربعين كلمة جامعة لمعاني أربع مائة، ثم جاء من بعدهم فردوها إلى أربع كلمات فيها معاني الأربعين، فقالوا: "أطع الله على قدر حاجتك إليه، وأعصه على قدر طاقتك على عذابه، واطلب الدنيا على قدر مكنك فيها، واطلب الآخرة بقدر بقائك فيها"، ثم اختاروا أربع كلمات فيها: "واطلب الآخرة بقدر بقائك فيها"، ثم اختاروا أربع كلمات من أربعة كتب، من التوراة: "من قنع شبع"، ومن الإنجيل: "من اعتزل نجا" ومن الزبور "من سكت سلم"، ومن القرآن: "ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم"»..

هذا النص يشير صراحة إلى النمط الثاني وهو شكلُ الكتاب أو الدليل ذي الفصول.

بينما يشير نص "الزهرة الثالثة"، على سبيل المثال، إلى الشكل الثالث، أو النمط الثالث، وهو شكلُ الرسالة أو العهد من الملك لابنه أو من الفيلسوف والحكيم لتلميذه الأمير الشاب. يقول ابن سماك العاملي:

«قال أنوشروان: الناس ثلاث طبقات تسوسهم ثلاث سياسات: طبقة من خاصة الأحرار تُساس باللطف واللين والإحسان، وطبقة من خاصة الأشرار تُساس بالعنف والغلظة والشدة. وطبقة من العامة تُساس باللين والشدة لئلا تحرجهم الشدة ويبطرهم اللين»..

(وللحديث بقية)

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ثم جاء

إقرأ أيضاً:

جامعة حلوان تنعي الدكتور رضا شحاتة الفنان التشكيلى

تنعي جامعة حلوان الفنان التشكيلى الدكتور رضا شحاته، الأستاذ بقسم الأشغال كلية التربية الفنية، بجامعة حلوان بعد رحلة عطاء كبيرة على الجانب الفنى والأكاديمى.

طباعة شارك جامعة حلوان الفنان التشكيلى رضا شحاته كلية التربية الفنية

مقالات مشابهة

  • جامعة حلوان تنعي الدكتور رضا شحاتة الفنان التشكيلى
  • برلماني: دولة التلاوة يعيد أمجاد العمالة ويصنع جيلًا جديدًا من القرّاء الشباب
  • مشروع قانون لفرض سيادة الاحتلال على المسجد الإبراهيمي بأكمله
  • الصبيحي .. الضمان في مواجهة أربع عشرة تحديا
  • 8 باحثين يكشفون أسرار القصيدة الأندلسية في «تأليف الحديقة»
  • أسقف ورئيس دير المحرق بأسيوط: زيارة البابا تواضروس لنا تاريخية وتؤكد أن مصر بلد الأمن والأمان
  • أسرة أم كلثوم تتحرك قانونيا بعد إعلان فرقة إسرائيلية إحياء تراث كوكب الشرق
  • نقابة المعلمين ترفع دعوى ضد الوزير المكلف علي العابد بتهم فساد في ملف الكتاب المدرسي
  • طبيب روسي يفند خرافات القهوة: أربع أكواب يومياً آمنة وتفيد القلب