مجلة الأحوال الشخصية التونسية لم تكن من إعداد بورقيبة
تاريخ النشر: 17th, November 2025 GMT
لا يزال الجدل مستمرا في تونس وخارجها حول مدى شرعية مجلة الأحوال الشخصية التي حرص الرئيس بورقيبة على إصدارها بعد الإعلان عن الاستقلال مباشرة. وأذكر أن الإسلاميين وغيرهم في تونس وخارجها، هاجموا هذه المجلة دون تثبت وتمحيص، واعتبروها مملاة من قبل المستعمر الفرنسي بهدف تفكيك الأسرة التونسية على أيدي "عملائها"، واحتاج الأمر إلى وقت طويل ليدرك البعض أن الخطاب الإسلامي عموما لا يزال يرفض عديد الأحكام الواردة في هذه المجلة، والتي تعطي حقوقا اعتبرها الكثيرون نوعا من التجديف الديني ومساسا من "المقدسات".
الذي يطلع على كتاب الكاتب الصحفي اللامع لطفي حجي "البورقيبية من الداخل" الذي صدر قبل أشهر، يجد نفسه أمام معطيات تاريخية ودينية واجتماعية قد تجعله يعيد النظر في هذه المسألة بالذات. فالكاتب أجرى حوارات مع ثلاث من كبار المسؤولين الذين عملوا مع الرئيس بورقيبة، من بينهم أحمد المستيري الذي سيكون له شأن مهم فيما بعد وسيصبح مؤسسا للديمقراطية في تونس، وهو الذي أحدث شرخا عميقا في صفوف الحزب الدستوري الحاكم. لقد تم تعيين المستيري، رغم صغر سنه، وزيرا للعدل في أول حكومة تونسية بعد الاستقلال.
يقول حجي إن المعلوم عند التونسيين أن مجلة الأحوال الشخصية "هي مشروع بورقيبة"، لكن "مهندس بنائها والمشرف على صياغة فصولها كان المستيري الذي أكد في حواره على أن بورقيبة اطلع على بعض فصول المجلة كما اطلع عليها غيره". وأهم ما فعله هذا الرجل بعد تكليفه بالوزارة، هو الشروع في إعداد مجلة قانونية ستقلب أوضاع الأسرة التونسية، وأول ما فعله هو الاتصال بعدد من كبار المشايخ مثل عبد العزيز جعيط والطاهر بن عاشور.
وخلافا للاعتقاد السائد، لم يتدخل بورقيبة في أعمال اللجنة التي تشكلت للغرض والتي كانت متنوعة، وتفاعل إيجابيا مع بعض الفصول التي صاغتها اللجنة بإشراف المستيري، مثل "تحديد السن الأدنى لزواج المرأة، وموافقتها على الزوج، ومنع تعدد الزوجات، وضرورة عرض الطلاق على القاضي حتى لا يبقى إجراء شفويا". لكن بورقيبة تحمس بالخصوص مع مسألة منع تعدد الزوجات، ورفض الصيغة التي كان المستيري يفضل إقرارها والتي أوردها في شهادته، وتتمثل في حل وسط يتمثل في "إبقاء إمكانية التعدد مع فرض شروط صعبة التحقق"، و"أصر على موقفه في المنع البات".
كما اعتبر الكاتب أن المستيري ابتعد عن استنساخ القانون الفرنسي، ومن جهة أخرى أشار إلى أن محاولات سن مشروع قانون موحد للأسرة "كانت سابقة لبورقيبة، ومنها مشروع أعده الشيخ عبد العزيز جعيط". وفي ذلك تأكيد على أن التيار المستنير داخل المؤسسة الزيتونية كان مدركا لأوضاع المرأة التونسية المزرية قبل الاستقلال، وساهم بفعالية في إحداث نقلة ستبرز فيما بعد عندما ستتوفر الشروط السياسية الملائمة. وقد تم استغلال ذلك الجهد من قبل القيادة السياسية، وذلك بإضافة بعض الأحكام التي أثارت الجدل، واعتبرها التيار المحافظ -ولا يزال- مخالفة للنصوص الدينية وللمدونة الفقهية. وهذا يعني أن النخب الحديثة لم تنفرد بالدعوة إلى بث الوعي الوطني والنهوض بالبلاد، بل تزامنت تلك الجهود مع مراجعات قامت بها شخصيات زيتونية تحمل نفسا اجتهاديا، وتجرأت على تراث تجاوزه الزمن، ودعت إلى ضرورة ربط المطلب السياسي بالمسألة الاجتماعية والدينية.
في ذات السياق، يتبين من خلال حوار المستيري، أن بورقيبة المعروف بجرأته البالغة لم يقطع مع المرجعية الإسلامية، رغم سعيه الحثيث نحو إضعاف المؤسسة الدينية وتهميشها، والدليل على ذلك المبادئ الثمانية التي تم الاعتماد عليها منهجيا من قبل لجنة الإعداد لتأطير الاجتهاد الذي ستعتمده مجلة الأحوال الشخصية في روحها ونصها. ومن هذه المبادئ "عدم مخالفة الأحكام القرآنية عندما يتولى المشرّع تحديد حق اختياري موكول إلى المسلم"، وبناء عليه "لا يجوز تبديل الحلال حراما، لكن المشرع يستطيع تقييد الحلال أو منعه، وتسليط العقاب الجزائي على من يخالف المنع". وحتى لا تختلط التجارب، أكد المستيري على أن "المفاهيم التونسية تختلف عن المفاهيم التركية التي فرضها كمال أتاتورك فرضا بعنوان اللائكية". وفي ذلك رد على الذين يخلطون المفاهيم والأوراق بهدف سحب الشرعية والمشروعية من التجربة التونسي.
بعد قراءة هذا الكتب بأجزائه الأربعة، يخرج القارئ بنتيجة مفادها أن التسرع في صياغة المواقف وإصدار أحكام مسبقة على التجارب والأشخاص لن يساعد على فهم التاريخ والأشخاص، وأنه يوقع أصحابه في مغالطات رهيبة، وتجعلهم في نهاية المطاف يلاحقون الزمن من أجل تصحيح مواقفهم والاعتراف بكونهم أخطأوا الفهم وسلكوا اتجاها معاكسا لحركة التاريخ.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه تونس بورقيبة تونس مجتمع بورقيبة الاحوال الشخصية مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
المدن الزراعية الذكية .. نقلة نوعية نحو أمن غذائي مستدام وتنويع اقتصادي
تخطو سلطنة عُمان خطوات استراتيجية واثقة نحو تحقيق أمنها الغذائي وتعزيز مسارات تنويعها الاقتصادي، وذلك من خلال إطلاق مشروع المدن الزراعية المتكاملة في كل من صحم والنجد، وتنبثق هذه المشاريع من مرتكزات رؤية عُمان 2040، إذ لا تمثل مجرد توسع في الرقعة الزراعية، بل تجسيداً لنهج متكامل يربط بين التخطيط العمراني المستدام والإنتاج الزراعي الذكي وإدارة الموارد بكفاءة عالية، وبتنسيق وثيق بين وزارة الإسكان والتخطيط العمراني ووزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، تسعى سلطنة عُمان لابتكار نماذج حضرية جديدة تجمع بين جودة الحياة والإنتاجية العالية، مع التركيز على توظيف التقنيات الحديثة، واستدامة المياه والطاقة، وتحفيز الاستثمار وإيجاد فرص عمل نوعية للشباب العُماني، إذ يهدف هذا التحول إلى إقامة منظومات إنتاجية متكاملة تربط المزرعة بالمصنع والسوق، لترسخ بذلك المدن الزراعية الجديدة كركيزة أساسية لـتنمية اقتصادية نوعية ترفد الأمن الغذائي الوطني.
كفاءة الاستخدام الأمثل
وقالت المهندسة هلي بنت سلطان البلوشية، مدير مشروع المدن الزراعية بوزارة الإسكان والتخطيط العمراني: تنطلق وزارة الإسكان والتخطيط العمراني بالتعاون مع وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه في إعداد مشروعي المدينتين الزراعيتين في صحم والنجد ضمن مرتكزات رؤية عُمان 2040 التي أكدت على أهمية تحقيق الأمن الغذائي الوطني وتعزيز التنويع الاقتصادي ورفع كفاءة الاستخدام الأمثل للأراضي والموارد الطبيعية، وقد جاءت الاستراتيجية الوطنية للتنمية العمرانية لترجمة هذه الرؤية إلى واقع مكاني من خلال تحديد مواقع التنمية المستقبلية وربطها بالقطاعات الاقتصادية والإنتاجية، بما يضمن تحقيق التوازن بين التنمية الحضرية والتنمية الريفية، وتوجيه الاستثمار نحو المشاريع ذات المردود الوطني المستدام، ويجسد المشروعان نموذجًا عمليًا للتكامل بين التخطيط العمراني والتخطيط القطاعي الزراعي، حيث تتولى وزارة الإسكان والتخطيط العمراني إعداد الإطار المكاني والتنظيمي العام، في حين تتولى وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه تحديد أولويات الإنتاج الزراعي ومتطلبات إدارة الموارد، بما يعكس نهجًا تشاركيًا في صياغة المدن المنتجة والمستدامة، وتركّز الأهداف الرئيسية على تعزيز منظومة الأمن الغذائي الوطني، وتمكين المجتمعات المحلية من فرص اقتصادية جديدة، ورفع كفاءة استخدام المياه والطاقة، إلى جانب ابتكار أنماط عمرانية متكاملة تجمع بين جودة الحياة والإنتاج الزراعي الذكي، بما يجعل من صحم والنجد نموذجين وطنيين رائدين لمدن المستقبل الزراعية في سلطنة عمان.
معايير تخطيطية مستدامة
وأوضحت بأنه يتم العمل على وضع معايير تخطيطية مستدامة لتطوير مدينتي صحم والنجد الزراعيتين، بما يضمن التكامل بين المكونات الزراعية والسكنية والخدمية، ويحقق الاستخدام الأمثل للأراضي والموارد، وتركّز المعايير الجاري إعدادها على تحقيق الترابط الوظيفي بين مناطق الإنتاج الزراعي ومناطق السكن والخدمات، من خلال توزيع متوازن للأنشطة يراعي طبيعة كل موقع وخصائصه البيئية والمناخية .. كما سيتم اعتماد أنماط عمرانية مرنة تسمح بتطور المدينة تدريجيًا بما يتناسب مع مراحل الإنتاج والاستثمار، وتشمل الضوابط المقترحة أيضًا تخطيط بنية أساسية ذكية تدعم تطبيق التقنيات الحديثة في الزراعة وإدارة المياه، إلى جانب تبني اشتراطات عمرانية صديقة للبيئة تضمن كفاءة استهلاك الطاقة والمياه، وتوظيف الحلول الخضراء في تصميم المساحات العامة والممرات الخضراء.
تنويع الأنشطة الاقتصادية
وأكدت تشارك مدينة النجد الزراعية ومدينة صحم الزراعية في الأهداف الوطنية ذاتها المتمثلة في تعزيز الأمن الغذائي وتنويع الأنشطة الاقتصادية وتمكين المجتمعات المحلية، غير أن طبيعة كل موقع وخصائصه المناخية والبيئية تفرض اختلافًا في نمط التخطيط واستخدامات الأراضي، ففي منطقة النجد، التي تتميز بمساحات واسعة وطبيعة منبسطة ومناخ جاف، يجري توجيه التركيز نحو الزراعة التجارية والإنتاج واسع النطاق، مع توفير مناطق مخصصة للتسويق الزراعي والخدمات اللوجستية والتصنيع الغذائي لدعم سلاسل القيمة .. كما سيتم إدراج مناطق سكنية وخدمية متكاملة لدعم السكان والقوى العاملة والأنشطة الداعمة، وأما في مدينة صحم الزراعية، فيُراعى الطابع الساحلي ووفرة الموارد المائية النسبية، مما يجعلها أكثر ملاءمة للزراعة الذكية والمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تجمع بين الجانب الإنتاجي والاجتماعي، إلى جانب التركيز على إدارة الموارد المائية بكفاءة عالية وتبني أنماط عمرانية تعزز جودة الحياة والرفاه الاجتماعي.
نهج تشاركي واضح
وأشارت إلى أن تنفيذ مشروعي المدينتين الزراعيتين في النجد وصحم يتم وفق نهج تشاركي واضح بين وزارة الإسكان والتخطيط العمراني ووزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، يقوم على التنسيق المستمر في جميع مراحل التخطيط والإعداد، ففي المرحلة الحالية، تعمل الوزارتان على مواءمة الرؤى القطاعية مع الأطر المكانية، بحيث يتم إدماج متطلبات التنمية الزراعية ـ من نوعية المحاصيل، وأنماط الإنتاج، وإدارة الموارد المائية ـ ضمن الإطار المكاني العام لكل مدينة .. كما يتم التعاون في مراجعة النماذج الأولية للتصميمات وتحديد مواقع الاستخدامات الزراعية والخدمية بما يضمن تحقيق التوازن بين الجوانب الفنية والبيئية والعمرانية، وبما يراعي كفاءة توزيع البنية الأساسية والخدمات الداعمة، ويجري التنسيق أيضًا على مستوى اللجان الفنية المشتركة وفرق العمل المتخصصة، بهدف توحيد البيانات والمعلومات، وتبادل الخبرات لضمان تكامل التخطيط من المنظورين العمراني والقطاعي .. مشيرة إلى أن جانب المياه يعد من أبرز الاعتبارات في إعداد مخططي المدينتين الزراعيتين، نظرًا لتباين الظروف المناخية بين المناطق الساحلية والجافة، وضرورة ضمان استدامة الموارد في كلتا الحالتين. ويتم العمل على إعداد حلول تخطيطية شاملة تراعي كفاءة استخدام المياه وتوظيفها بما يخدم الأنشطة الزراعية والإنتاجية على المدى الطويل، ويرتكز التوجه العام على تطبيق أنماط زراعية حديثة تعتمد على تقنيات الري الذكي والزراعة المحمية لتقليل الاستهلاك وتحقيق إنتاجية أعلى، إلى جانب إعادة استخدام المياه المعالجة في الري، وتخطيط شبكات مائية مرنة تُتيح التوزيع المتوازن للمياه بين مختلف الاستخدامات .. كما يجري العمل على الاستفادة من مياه الأمطار والسيول الموسمية من خلال حلول تخطيطية تساعد على جمعها وتخزينها واستخدامها في دعم الأنشطة الزراعية، مع توظيف التقنيات الرقمية لمتابعة كفاءة الاستهلاك وتحديد الأولويات، وبهذا النهج، يُسهم التخطيط في تحويل التحديات المائية إلى فرص للابتكار وتعزيز الاستدامة، بما يجعل المدينتين نموذجين للتعامل المسؤول مع الموارد الطبيعية.
جودة البيئة الحضرية
وبينت أن إعداد مخططي المدينتين الزراعيتين في صحم والنجد يتجه نحو تبنّي نهج عمراني وزراعي يتكيّف مع تحديات التغير المناخي ويستفيد من التقنيات الذكية لرفع كفاءة الإنتاج واستدامة الموارد، ويتم العمل على إدماج مبادئ الزراعة الذكية مناخيًا ضمن الإطار التخطيطي العام، من خلال تشجيع الأنماط الزراعية التي تراعي تقلبات الطقس واستخدام التقنيات الحديثة في المراقبة والتحكم والري وإدارة التربة، بما يسهم في تقليل الأثر البيئي وتعزيز كفاءة استهلاك الطاقة والمياه، كما تُراعى في التصميمات العمرانية الاعتبارات المناخية مثل اتجاهات الرياح، والتهوية الطبيعية، وتوزيع المساحات الخضراء لخفض درجات الحرارة وتحسين جودة البيئة الحضرية، ويهدف هذا النهج إلى جعل المدينتين نموذجين وطنيين لتخطيط عمراني متكيّف مع المناخ، يعزّز الإنتاج الزراعي المسؤول بيئيًا، ويُسهم في تحقيق التوازن بين التنمية والبيئة.
استخدام الطاقة النظيفة
وذكرت البلوشية بأن العمل جارٍ على تضمين مكونات الطاقة المتجددة ضمن التصورات الأولية لمخططي المدينتين الزراعيتين، بحيث تكون الاستدامة البيئية وكفاءة الطاقة جزءًا أساسيًا من الرؤية العامة للمشروعين، ويشمل ذلك دراسة تخصيص مواقع مناسبة لمصادر الطاقة الشمسية لتغذية الأنشطة الزراعية والخدمية بالطاقة النظيفة، خصوصًا في المناطق ذات الإشعاع العالي مثل النجد، إلى جانب بحث إمكانية ربط الأنظمة الزراعية بتقنيات الطاقة المتجددة مثل تشغيل أنظمة الري والمضخات باستخدام الطاقة الشمسية، كما يجري تقييم حلول مبتكرة لإدارة الطاقة في المناطق السكنية والخدمية بما يقلل من الانبعاثات ويخفض التكلفة التشغيلية، ضمن توجه أوسع نحو مدن منتجة تعتمد على مواردها المحلية وتتماشى مع أهداف سلطنة عمان في التحول إلى اقتصاد منخفض الكربون.
البنية الأساسية المحفزة
وتطرقت إلى أن إعداد مشروعي المدينتين الزراعيتين في صحم والنجد يتم ضمن إطار وطني يهدف إلى تحفيز الاستثمار وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجالات التنمية الزراعية والخدمية واللوجستية، وسيتم طرح الفرص الاستثمارية وفق آليات واضحة وشفافة تتيح المجال أمام جميع المستثمرين، من داخل سلطنة عمان وخارجها، ممن يمتلكون القدرة والرغبة في الإسهام في هذه المشاريع الوطنية، على أن يتم ذلك في ضوء ضوابط فنية واقتصادية تضمن استدامة العائد وتحقيق الأهداف التنموية، وتعمل الجهات المعنية على دراسة مجموعة من الحوافز الممكنة بالتنسيق مع المؤسسات الحكومية ذات العلاقة، لدعم الاستثمارات في المجالات الزراعية والغذائية والخدمية المرتبطة بها، بما في ذلك تسهيل الإجراءات وتوفير البنية الأساسية المحفزة.
بيئة واعدة لرواد الأعمال
وتوقعت أن تسهم المدينتان الزراعيتان في صحم والنجد في دعم الاقتصاد الوطني عبر خلق منظومات إنتاجية متكاملة تربط بين الزراعة والتصنيع الغذائي والخدمات اللوجستية، بما يعزز القيمة المضافة ويرفع من كفاءة سلاسل الإمداد الغذائي في سلطنة عمان، كما تهدف المشاريع إلى توليد فرص عمل متنوعة للشباب العماني، سواء في القطاعات الزراعية المباشرة أو في الأنشطة الداعمة مثل التعبئة والتغليف والنقل والتسويق والخدمات الفنية، وتُعد هذه المشاريع بيئة واعدة لريادة الأعمال في مجالات الزراعة الذكية والتقنيات المرتبطة بها، ويجري كذلك التخطيط لعدد من الأنشطة الاقتصادية المكملة داخل كل مدينة، تشمل مناطق خدمية وتجارية وسكنية متكاملة، تتيح فرصًا للمشاريع الصغيرة والمتوسطة وتخلق حركة اقتصادية محلية مستدامة.
الرفاة الاجتماعي والاستدامة
وقالت هلي بنت سلطان البلوشية: يركز التخطيط في مدينة صحم الزراعية على البعد الإنساني والاجتماعي بوصفه جزءًا أساسيًا من نجاح المشروع، حيث يتم إعداد تصور عمراني يعزز جودة الحياة ويهيئ بيئة متوازنة بين العمل والإقامة والخدمات، ويجري العمل على تصميم أحياء سكنية تتكامل مع البيئة الزراعية المحيطة، مع مراعاة الجوانب البيئية في التهوية الطبيعية، والفراغات الخضراء، والظل، والهوية البصرية المحلية، بما يجعل المدينة بيئة صحية ومريحة للعيش والإنتاج في آنٍ واحد، كما يسعى المشروع إلى تعزيز المشاركة المجتمعية في الأنشطة الزراعية والبيئية، لتصبح الزراعة عنصرًا يوميًا في نمط الحياة، وليس مجرد نشاط اقتصادي منفصل، وبذلك يتحقق التوازن بين الرفاه الاجتماعي والاستدامة البيئية ضمن رؤية عمرانية متكاملة.
إعداد المخططات التفصيلية
وأكدت أن المشروعان حاليًا في مرحلة إعداد المخططات التفصيلية، وهي المرحلة التي تُحوَّل فيها التوجهات العامة إلى مكونات عمرانية وزراعية واضحة وقابلة للتنفيذ، ومن المخطط استلام المخططين التفصيليين لكل من مدينة النجد الزراعية ومدينة صحم الزراعية بنهاية هذا العام، على أن يتم مراجعتهما واعتمادهما، ثم البدء في استكمال المراحل التنفيذية بالتنسيق مع الجهات المعنية، ويُعد هذا التقدم خطوة مهمة في ترجمة الرؤية إلى واقع عملي، حيث ستسهم المخططات النهائية في تحديد الاستخدامات الرئيسية للأراضي والبنية الأساسية ومناطق الأنشطة الزراعية والخدمية، تمهيدًا لانطلاق مرحلة التنفيذ الفعلي وفق خطة زمنية متدرجة ومدروسة.
وأضافت: أن الاستراتيجية الوطنية للتنمية العمرانية حددت ثلاث مناطق رئيسية لتكون نموذجًا تجريبيًا للمدن الزراعية في سلطنة عمان، وتم بالفعل البدء في إعداد مخططي مدينة صحم الزراعية ومدينة النجد الزراعية، على أن يتم دراسة امكانية انشاء مدن زراعية في مواقع أخرى، ويجري اختيار هذه المواقع بناءً على مجموعة من المعايير التخطيطية والاقتصادية، من بينها توافر الموارد الطبيعية، والجدوى الاستثمارية، والبنية الأساسية الداعمة، وطبيعة الأنشطة الزراعية المناسبة لكل منطقة، ويأتي هذا التوجه في إطار تنفيذ الرؤى الواردة في الاستراتيجية الوطنية للتنمية العمرانية، التي تهدف إلى تحقيق تنمية مكانية متوازنة وتعزيز الأمن الغذائي الوطني من خلال مدن متكاملة تجمع بين الزراعة والإنتاج والخدمات.
مشاريع استراتيجية واعدة
وقال عبدالعزيز الشكيلي، مدير دائرة الاستثمار بوزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه: أن كلٌّ من مشروع المدينة الزراعية في النجد ومشروع المدينة الزراعية في صحم يعدان من المشاريع الاستراتيجية الواعدة التي تُعِد الوزارة لها دراسات استشارية متكاملة بهدف وضع تصور شامل للتنمية الزراعية المستدامة، وما زالت هذه المشاريع في مرحلة الدراسة والتخطيط، ولم يتم حتى الآن اعتماد آلية توزيع الأراضي أو تحديد نماذج الاستثمار المناسبة، حيث سيتم تحديدها لاحقًا بناءً على ما تُسفر عنه نتائج الدراسات الفنية والاقتصادية، وتركّز الرؤية المبدئية على إنشاء مدن زراعية متكاملة تجمع بين مناطق الإنتاج الزراعي، ومرافق التصنيع الغذائي، والمخازن المبردة، والمراكز اللوجستية، والخدمات البحثية والسكنية، ضمن تخطيط يحقق التكامل بين الإنتاج والتصنيع والتسويق، ويعزز من كفاءة استخدام الموارد الطبيعية.
متطلبات التنمية المتكاملة
وأوضح أن الوزارة تنسق بشكل مستمر مع وزارة الإسكان والتخطيط العمراني في جميع مراحل إعداد المخططات، لضمان التكامل بين التخطيط الزراعي والعمراني، وبما يحقق الاستخدام الأمثل للأراضي وفق الأهداف الوطنية للأمن الغذائي والتنمية المستدامة، ويشمل هذا التنسيق إعداد الخرائط التخطيطية المشتركة، وتحديد أولويات تطوير البنية الأساسية، والتأكد من توافق تخصيص الأراضي الزراعية مع متطلبات التنمية المتكاملة، ويأتي هذا التعاون في إطار مستهدفات مشتركة بين الوزارتين تهدف إلى التوسع في الرقعة الخضراء ورفع نسب الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية، وتعزيز الاستثمار في القطاع الزراعي والسمكي. كما تم تشكيل لجان مشتركة برئاسة أصحاب المعالي، إضافة إلى لجان فنية فرعية في المحافظات، تُعنى بالتنسيق الميداني ومتابعة تنفيذ المشاريع ودعم جهود جذب الاستثمارات الزراعية بما يسهم في تحقيق الأمن الغذائي الوطني.
استخدام مستدام للمياه
وبين أن الوزارة تولي أهمية كبيرة لإدارة الموارد المائية في إطار هذه المشاريع، خصوصًا في منطقة النجد التي تتميز بندرة المياه وخصوصية طبيعتها البيئية، وتعمل الدراسات الاستشارية على تحديد أفضل الحلول التخطيطية والتقنيات المناسبة لضمان الاستخدام المستدام للمياه، مثل اعتماد أنظمة ري حديثة عالية الكفاءة، وتشجيع الزراعة المحمية والذكية مناخيًا، وتطوير منظومات لإعادة استخدام المياه المعالجة في أغراض الري. كما يجري التنسيق مع الجهات المختصة لضمان التوازن بين الاحتياجات الزراعية وقدرات الموارد المائية المتاحة، بما يحقق استدامة بيئية واقتصادية على المدى الطويل.
قيمة مضافة للاقتصاد الوطني
وأضاف: من المتوقع أن تُسهم هذه المدن، بعد اعتماد وتنفيذ مخططاتها، في تحقيق قيمة مضافة كبيرة للاقتصاد الوطني من خلال تعزيز الإنتاج المحلي من المحاصيل الغذائية، وتقليل الاعتماد على الواردات، ورفع كفاءة سلاسل الإمداد .. كما ستوفر فرصًا واسعة لتشغيل الكوادر الوطنية في مجالات الزراعة، والتصنيع الغذائي، والخدمات اللوجستية، والبحث والتطوير، وستسهم الأنشطة المكملة كالتعبئة والتغليف، والتخزين المبرد، وتصنيع مدخلات الإنتاج الزراعي في تنشيط القطاع الخاص ورفع مستوى التنافسية والاستثمار في الأمن الغذائي.
مدينة ثالثة قيد الدراسة
وأكد أن كلا المشروعين ما زالا في المرحلة الاستشارية التي تتضمن إعداد الدراسات الفنية والاقتصادية والتخطيطية التفصيلية، والتي ستُبنى عليها القرارات المتعلقة بآلية الاستثمار، ومراحل التنفيذ، والجدول الزمني للأعمال الإنشائية والتشغيلية، وسيتم اعتماد الخطط التنفيذية لاحقًا بعد الانتهاء من مراجعة المخرجات من قبل الجهات المختصة لضمان تحقيق أعلى جدوى اقتصادية واستدامة بيئية.
وأشار إلى أن تدرس الوزارة إمكانية تعميم نموذج "المدن الزراعية" على محافظات أخرى في المستقبل، استنادًا إلى معايير واضحة تشمل توفر الموارد المائية المناسبة، وخصائص التربة الصالحة للزراعة، والقرب من شبكات النقل والأسواق، إلى جانب توفر البنية الأساسية والخدمات الداعمة .. كما تؤخذ في الاعتبار الجدوى الاقتصادية والاجتماعية لكل موقع، ومدى مساهمته في خلق فرص عمل مستدامة للمواطنين ودعم أهداف الأمن الغذائي الوطني.