بات العثور على طبعة شعبية "مضروبة" أو "غير شرعية" لكتاب ممنوع أمرًا في غاية السهولة؛ إذْ يكفي أن يمتلك صاحب مكتبة صغيرة آلة طباعة مناسبة وورقًا مقبول الجودة، ليحوّل الكتب المحظورة إلى نسخ زهيدة الثمن، تُباع على الأرصفة وأكشاك الكتب بأثمان غير مبالغ فيها.
أخبرتني زميلة عن سعادتها الكبيرة عندما اشترت مجموعة كبيرة من الروايات من كشك في القاهرة، وسعادتي كانت مضاعفة بالضرورة عندما حصلتُ على رواية كانت ممنوعة من الدخول إلى عُمان.
يحدث مثلا أن يُسهم عمل سردي تُرجم إلى اللغة العربية في رفع قيمة مؤلفه، علما أن محتوى العمل لا يناسب بيئة الثقافة العربية. ولأن الظاهرة تنتشر عالميًا، تحضرني تحديدًا رواية "لوليتا" لفلاديمير نابوكوف، وما أثارته من عوالم منفّرة، لكن الناشر، ثم بائعو المكتبات المروجون للنسخ غير الشرعية لم يتورعوا عن استخدام عبارة "الكتب الأكثر مبيعا، أو إثارة للجدل"، لوصف الرواية. في السياق نفسه تبرز روايتان عربيتان جلبتا على مؤلفيهما الشُهرة والعار الاجتماعي معًا، الأولى "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، والثانية "الخبز الحافي" لمحمد شكري، كان اقتناؤهما في الثمانينيات شبه جريمة لا تُغتفر! وفي المسرح لا يمكن أن ننسى موقف التيارات الرجعية تجاه مسرحية "سهرة مع أبي خليل القباني"، وما واجهه مؤلفها سعدالله ونوس من تضييق وما تعرضت له المسرحية من انتقادات.
ورغم السلبية الظاهرة، يسهم بائع الكتب "غير الشرعية" في نشر المعرفة، شأنه شأن الدولة الفقيرة التي تلجأ إلى إنتاج نسخة محلية من دواء عالمي باهظ الثمن. في نهاية الأمر، يُتاح العلاج لمن لا يستطيع شراء الأصل. فإذا كان الحق في الصحة قيمة إنسانية، فإنّ الحق في المعرفة لا يقلّ عنها شأنًا: يجب أن يُتاح الكتاب للجميع دون عراقيل.
وهنا يحضر مثال آخر: مقاطعة المنتجات الداعمة للكيان الصهيوني، إذ استطاع كثيرون الاستغناء عن منصة "نتفلكس"، ولجؤوا إلى تطبيقات بديلة أقل جودة، لكنها تخدم مبدأهم وتناسب إمكاناتهم. فالبشر قادرون دومًا على خلق البدائل والتكيّف.
تقف خلف "ظاهرة الكتب الممنوعة" في العالم أسباب متشابكة بعضها ببعض: سياسية، ودينية، واجتماعية، ورقابية. ويمكن ملء مجلدات بأمثلتها. لكن اللافت أنّ الكتب السياسية، رغم ثُقل موضوعاتها، تجذب جمهورًا واسعًا، تمامًا كما تفعل الكتب التي تقع تحت طائلة "الأخلاق" وحساسيتها، والتي يتلاعب بها بعض التجار عبر تغيير الغلاف أو تجميع مقتطفات من مواقع إلكترونية وتحريرها، ثم نسبها إلى كاتب مغمور أو كاتبة مغمورة. يكفي إعلان ساخن واحد لتنفد الطبعة الأولى.
خلال أحد النقاشات في مكتبة عامة بوسط البلد في مدينة عمّان، برز سؤال مهم: هل ستظل الرقابة ممكنة في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي؟ وهل يمكن للطباعة الإلكترونية أن تكون بديلًا؟
يدفع بعض المؤلفين ثمن نشر أعمالهم، وقد واجهت ذلك عندما رغبت في نشر مسرحيتي "روري"، إذ طلبت مني دار النشر تكلفة الطباعة، بينما قال صاحب الدار نفسه أنه سيطبع رواية على نفقته إن كتبتُها؛ لأن "سوق الرواية ماشي". هنا تلعب الجوائز دورًا حاسمًا في توجيه السوق. ورغم انتشار النشر الإلكتروني الذي من أهم ميزاته عدم وجود تكلفة، تظل للكتاب الورقي هيبته وطقوسه، ووفاء القرّاء له، تمامًا كما يعجز بعض الكتّاب عن القراءة على الشاشة، ويصرّون على الورق.
ومن الظواهر اللافتة أيضًا أنّ بعض بائعي النسخ المزوّرة يقرؤون الكتب التي يطبعونها، على عكس بعض الناشرين الذين لا يملكون معرفة بمحتوى ما يبيعونه ويقتصر جهدهم على التسويق. فإذا سألتَ عن محتوى كتاب ما، لا يَملك من المعرفة شيئًا، لكن البائع الذي نقصده يمتلك معرفة بمحتويات ما يبيعه من كتب، وهي ميزة قل نظيرها.
رُويتْ لي قصص عدة عن بائع يطبع الكتب الممنوعة، فزارته الرقابة بحثًا عن كتاب أزعج النظام في زمن ما، فاعترف بحيازته واقتيد إلى الحبس، ووقف خروجه على دفع الغرامة، فرفض الخروج لعدم امتلاكه المبلغ، مفضّلًا السجن، لكن رجل الأمن أصّر على ذلك بعد كتابة تعهد، وعند طلوع النهار تمكن من الدفع.
وفي قصة أخرى يرويها الزميل عبدالله الخطيب نقلًا عن Achraf El Achmawi، حيث سأل أحد بائعي الأكشاك الذين اشترى منه روايته، ما إذا كان يخاف من مباحث المصنفات عند ضبط النسخ المزورة، فأجاب وهو يغمز: "عندي نسخة أصلية... لزوم التفتيش".
هل تخشى المجتمعات الكتب الجدلية؟
نعم، وبقوة.
هل يمكن أن تتراجع مؤسسات الرقابة؟
نعم، ولكن نحو الأسوأ غالبًا.
يتناول ماريو إنفليزي في كتابه "الكتب الممنوعة- ط 1- 2011م" (ترجمة وفاء البيه) كيف تحوّل الكتاب إلى سلاح تخشاه السلطات، ليس في إيطاليا وحدها، بل في العالم. يتضمن الكتاب عناوين تستدعي الانتباه، بدأ بعنوان "الرقابة وأصلها"، بعدها انتقل إلى "الرقابة والقراءة الشعبية"، ثم "التفتيش والقمع، ونحو سيادة رقابة الدولة، والسوق السوداء". أكثر ما شدّني وصفه لناشرين صغار في أوروبا بالقرنين السابع عشر والثامن عشر، حين أدّت رقابة الدولة الصارمة إلى إنعاش السوق غير الشرعية للكتب. فبينما خشي الناشرون الكبار التعرض للمخاطر الجسيمة، وجد الصغار في الكتاب، الممنوع رهانًا على انتشالهم من البؤس، فطبعوا الكتب المحظورة في مطابع صغيرة مخبأة داخل المدن ذات الصلة القديمة بالطباعة. وفي فقرة أخرى يتحدث عن باعة كتب جوالين يجوبون أوروبا، ويعرفون أذواق المشترين المحتملين، مشهد يثير الإعجاب بقدر ما يوجع حين نقارنه بمناظر المتسولين في بعض بلادنا.
في نهاية المطاف سيحتفل أغلبنا، سواء دُعينا إلى حفل توقيع الكتاب، أم لم نُدعَ.
إن التنافس بين النسخة الأصلية والمزيفة يضرّ المؤلف والناشر معًا، لكن القارئ لا يهتم عادة إلا بالسعر. ربما نحن مقبلون على تضخّم من نوع جديد يتعلق بأصل النسخة وجودتها، ومع ذلك سنحتفل جميعًا -سواء دُعينا إلى حفل توقيع الكتاب أم لم نُدعَ- لأن المعرفة، مهما مُنعت، تصل في نهاية الأمر إلى القارئ الذي يبحث عنها.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
«كهرباء دبي» تشارك في «قمة المعرفة»
دبي (الاتحاد)
أخبار ذات صلةتشارك هيئة كهرباء ومياه دبي، في الدورة العاشرة من «قمة المعرفة»، المقامة تحت رعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، وتنظمها مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تحت شعار «أسواق المعرفة: تطوير المجتمعات المستدامة»، يومي 19 و20 نوفمبر الجاري، في مركز دبي التجاري العالمي.
وقال معالي سعيد محمد الطاير، العضو المنتدب الرئيس التنفيذي للهيئة: ندعم رؤية القيادة الرشيدة لجعل إمارة دبي مدينة المستقبل وتعزيز مكانتها قطباً عالمياً قائماً على اقتصاد المعرفة، ونؤمن في الهيئة بأن الابتكار والعلم والمعرفة ركائز تسمو بقيمة الإنسان، ودعامة أساسية لتمكين الخبرات الوطنية وتزويدها بالأدوات اللازمة للمساهمة الفعالة في صناعة المستقبل المستدام، وتشكل «قمة المعرفة» حدثاً معرفياً عالمياً مهماً لتسليط الضوء على أبرز الجهود الرامية إلى دفع مسيرة المعرفة وتبادل الأفكار حول مستقبل الاقتصاد المعرفي والتنمية المستدامة، للنهوض بالأفراد والمجتمعات.