كيف يبدو الوضع في البوسنة بعد 30 عاما على اتفاقية دايتون؟
تاريخ النشر: 21st, November 2025 GMT
سراييفو- بعد ثلاثة عقود على توقيع اتفاقية دايتون التي أوقفت أكثر الحروب دموية في أوروبا الحديثة، يعود الجدل من جديد حول إرث الاتفاق ومآلاته. فبينما يتذكر البوسنيون يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1995 باعتباره نهاية سنوات التطهير العرقي والإبادة، يتساءلون اليوم: هل وضعت الاتفاقية حدا للقتال فقط أم جمدت نزاعا لم يُحسم بعد؟
ومع تصاعد الخطاب الانفصالي في جمهورية "صرب البوسنة"، وتعمق الخلافات بين البوشناق والكروات داخل الفدرالية، يتجدد النقاش حول ما إذا كان اتفاق دايتون قد رسم طريقا لبناء دولة قابلة للحياة أم أنه زرع بذور أزمات تتكشف اليوم بوضوح أكثر من أي وقت مضى.
و"معاهدة دايتون" هي اتفاقية سلام وقعها قادة صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك في عام 1995، وأنهت 3 سنوات من الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة، وقسمت البوسنة إلى دولتين هما:
فدرالية البوسنة والهرسك وتضم المسلمين وكروات البوسنة. جمهورية صرب البوسنة.منذ عام 1992 وحتى 1994، سيطرت مليشيات صرب البوسنة على 70% من أراضي البوسنة والهرسك، كانت تلك المليشيات مدعومة من صربيا، التي ورثت سلاح وعتاد جيش يوغوسلافيا القوي.
لكن عام 1995 حمل نقاط تحوّل جوهرية بدلت في موازين القوى وغيّرت مجرى الحرب:
بدأ الجيش البوسني في ذلك العام باستعادة المبادرة وتنظيم نفسه، خصوصا نتيجة إعادة التسلح السري بعدما وجد سبيلا إلى الحصول على الأسلحة في ظل حظر السلاح المفروض على البوسنة، وذكر تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" حينها بعنوان "كيف تحايل مسلمو البوسنة على حظر الأسلحة؟" تفاصيل كسر الحظر الذي كان المسلمون هم الأكثر تضررا منه، باعتبار أن صرب البوسنة تقف خلفهم صربيا، وكروات البوسنة تدعمهم كرواتيا. إطلاق كرواتيا "عملية العاصفة"، التي ألحقت بالصرب هزيمة ساحقة حينما هاجمت جمهورية "كرايينا" المعلنة ذاتيا، مما أسهم في فك الحصار عن مدينة بيهاتش وفقدان جيش صرب البوسنة العمق الإستراتيجي في غربي البلاد، وانهيار معنويات جيش صرب البوسنة بشكل هائل. وكان لمشاهد الإبادة الجماعية في سربرينيتشا وقع الصدمة على العالم أجمع. بعدها، بدأ تحوّل الموقف الغربي من "الحياد" إلى "التدخل"، وثبت زيف "المناطق الآمنة" المنشأة من قبل الأمم المتحدة. التدخل الغربي من خلال إطلاق حلف شمال الأطلسي (ناتو) عملية "القوة المتعمدة" من 30 أغسطس/آب حتى 20 سبتمبر/أيلول 1995، التي بدأت عقب مجازر "ماركالي" في سراييفو المحاصرة. حققت عملية الناتو نتائج جيدة باستهداف مستودعات ذخيرة ومراكز اتصالات، إضافة إلى الأسلحة الثقيلة حول سراييفو. ونجحت تلك العملية في الضغط على القيادات الصربية. إعلاننتيجة لهذه العوامل مجتمعة تمكّن الجيش البوسني مع القوات الكرواتية (تحالف الكروات مع البوسنيين بعدما كانوا قد تحالفوا مع الصرب بداية الحرب) من استعادة ما يزيد عن 1600 كيلومتر مربع في أسابيع فقط، حتى وصلوا إلى أعتاب بانيا لوكا عاصمة صرب البوسنة.
كان سقوط بانيا لوكا، أكبر مدينة يسيطر عليها الصرب، حتميا لولا تدخل الولايات المتحدة وإرغام الجيش البوسني على وقف عملياته، والدعوة إلى مفاوضات "دايتون"، خصوصا وأن إدارة بيل كلينتون أرادت تحقيق إنجاز سياسي قبل انتخابات 1996.
قبل اتفاقية دايتون كانت هناك 4 محاولات بارزة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، لكن أيا منها لم يكن مرضيا لجميع الأطراف، وهي:
خطة "كارينغتون/كويتيليرو" (تُعرف أيضا بـ"مبادئ لشبونة"). وخطة "فانس/أوين" للسلام. وخطة "أوين/ستولتنبرغ". وخطة "فريق الاتصال"، المكون حينها من الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا.وثّق الدبلوماسي الأميركي الشهير ريتشارد هولبروك في كتابه "إلى نهاية حرب" (To End a War) السياسات التي اتبعتها واشنطن لفرض خيار التفاوض؛ فقد أرغمت الولايات المتحدة الأطراف المتقاتلة على التفاوض، وهكذا سافر الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش والرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش والرئيس الكرواتي فرانيو تودجمان إلى ولاية أوهايو للتفاوض.
هذا الإرغام اتخذ منحى أكثر صرامة حينما قامت الولايات المتحدة بعزل -أشبه بالاحتجاز- للمتفاوضين في قاعدة "رايت باترسون" الجوية، بل رصدت هواتفهم ومنعت عنهم الاتصالات الخارجية أو العودة إلى بلدانهم حتى التوصل إلى اتفاق.
واستخدمت إدارة بل كلينتون نفوذها العسكري والوعود بإعادة الإعمار والاعتراف بالكيانات السياسية كأداة ترغيب وترهيب للمتفاوضين.
استمرت المفاوضات من مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1995 وحتى 21 من الشهر نفسه، حينما وقعت الأطراف الثلاثة بالأحرف الأولى على الاتفاقية، وذلك قبل التوقيع الرسمي في باريس يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 1995.
يمكن تلخيص ما تضمنته اتفاقية دايتون للسلام ضمن فئات كبرى أهمها:
إنهاء الحرب: من خلال التأكيد على الوقف الفوري لإطلاق النار في جميع أراضي البوسنة والهرسك، مع انسحاب المقاتلين إلى الخطوط المنصوص عليها في الاتفاقية، ونشر قوات "آيفور" (IFOR) التابعة لحلف الناتو. بنية الدولة: قسّمت "دايتون" البوسنة والهرسك إلى فدراليتين، الأولى هي فدرالية البوسنة (51%)، وفيها أغلبية مسلمة وكاثوليكية ومقسمة إلى 10 كانتونات. والثانية هي جمهورية صرب البوسنة (49%)، وفيها أغلبية أرثوذكسية، مع منح مقاطعة برتشكو حكما ذاتيا. منصب الرئاسة يتمثل في مجلس رئاسي يتناوب عليه ثلاثة رؤساء: بوشناقي وصربي وكرواتي، كل 8 أشهر. السلطة التنفيذية، كانت هناك حكومة على مستوى الدولة ككل، ثم على مستوى كل فدرالية، ولمقاطعة برتشكو حكومة أيضا، إلى جانب 10 حكومات لكل من الكانتونات التي تشكل فدرالية البوسنة.أي إن البوسنة فيها 14 حكومة (نحو 136 وزيرا). ولذلك، يعتبر النظام السياسي في البوسنة من أكثر الأنظمة السياسية تعقيدا في العالم. تأسيس نظام قائم على التوازن العرقي، من خلال توزيع المناصب الرئيسية في الدولة بين المكونات الرئيسية الثلاثة، ونظام تصويت يضمن عدم صدور أي قرار رئيسي دون دعم كلا الكيانين، بالإضافة إلى حق كل مجموعة في استخدام حق النقض (الفيتو) لضمان قدرة كل مجموعة عرقية على عرقلة السياسة التي تراها تهديدا. عودة اللاجئين: ضمنت الاتفاقية لجميع اللاجئين والنازحين الحق في العودة إلى ديارهم، ونصت على قوانين ملكية تسمح باستعادة منازلهم. لكن جزءا واسعا من هذا الجانب لم يطبق على أرض الواقع. دور المجتمع الدولي: أنشأت اتفاقية دايتون منصب "الممثل السامي" للإشراف على تطبيق الاتفاقية. ولهذا المنصب صلاحيات تفوق صلاحيات جميع من في البوسنة حتى الرئاسة، إذ يمكن للممثل السامي فرض القوانين وتعليقها وعزل المسؤولين (حتى المنتخبين)، وفعل كل ما يراه لازما ويصب في صالح تطبيق الاتفاقية. عسكريا، توجد في البوسنة قوة تابعة للناتو، وأخرى تابعة للاتحاد الأوروبي.
لا تزال البوسنة والهرسك تعاني من أزمات سياسية كبرى، ووضع اقتصادي شديد السوء جراء البيروقراطية والفساد.
إعلانوتتمثل أبرز الأزمات السياسية في استمرار الخطاب الانفصالي من جانب سياسيي صرب البوسنة، وخصوصا من الرجل الأقوى وذي النفوذ الواسع ميلوراد دوديك، الذي اتخذ خطوات عملية في اتجاه انسحاب جمهورية صرب البوسنة من مؤسسات الدولة كالجيش والقضاء ومصلحة الضرائب، والإعلان عن مؤسسات موازية، مما يهدد اتفاقية السلام برمتها ويقضي على فكرة الدولة البوسنية.
على صعيد آخر، هناك أزمة سياسية في فدرالية البوسنة بين البوشناق المسلمين والكروات الكاثوليك، إذ تجادل الأحزاب الكرواتية بنقص تمثيلها، وتطالب بتعديل النظام الانتخابي بحيث ينتخب البوشناقي ممثله البوشناقي، والكرواتي ممثله الكرواتي، وتروج لفكرة أن الكروات لا يمثلون بشكل صحيح لأن المسلمين هم الأكثرية التي تنتخب الممثلين عنهم.
وتعارض الأحزاب البوسنية هذه الادعاءات، وترفض أي تعديل في النظام الانتخابي وتعتبره ترسيخا عرقيا مفرطا وخطوة نحو "كيان ثالث"، وقد أدى هذا الخلاف مرارا وتكرارا إلى عرقلة تشكيل حكومة الاتحاد وشل المؤسسات الرئيسية.
ولأن لكل جماعة عرقية حق النقض، تشهد البوسنة والهرسك انهيارات متكررة للحكومات، وشللا في البرلمان، وتأخيرا في تشكيل الحكومات بعد الانتخابات (أحيانا لأكثر من عام) وعدم القدرة على إقرار إصلاحات رئيسية.
كما تعاني البوسنة من هجرة واسعة لشبابها، ومن فساد يعوق الإصلاحات ويعرقل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مما يشير -وفقا لخبراء- إلى أن اتفاقية دايتون نجحت في وقف الحرب، لكنها فشلت في بناء الدولة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات الولایات المتحدة البوسنة والهرسک صرب البوسنة فی البوسنة
إقرأ أيضاً:
نادي أحد يحتاج إلى رجالاته
نادي أحد في المدينة المنورة؛ أحد أقدم الأندية السعودية وأعرقها. تأسس عام .1936 هذا الكيان الكبير الذي سبق أن صعد لدوري المحترفين، وقدم نجوما كبارا أمثال سمير عبد الشكور وحمزة إدريس وحمزة صالح وغيرهم من اللاعبين الذي صنعوا الفارق، ورفعوا اسم النادي عالياً. لكن المفاجأة المؤلمة أن الفريق الذي هبط من دوري الدرجة الأولى الموسم الماضي إلى دوري الدرجة الثانية بدأ موسمه الحالي بشكل لم يتوقعه أكثر المتشائمين. فخلال ثماني جولات مضت من الدوري تكبد ثماني خسائر متتالية، وصفر من النقاط وأداء يضع النادي في طريق مظلم؛ قد يقوده لدوري الدرجة الثالثة. هناك أسئلة تتردد بشكل كبير بين الجماهير والمتابعين؛ ما لذي حدث حتى وصل الفريق إلى هذا الوضع، هل هي مشاكل إدارية أو سوء تخطيط أم أمور فنيه وإداريه أو فقدان الروح لدى اللاعبين. هذه الأسئلة الكثيرة تحتاج إلى إجابة؛ لذلك أين رجالات المدينة من هذا النادي، وأين رؤساء النادي واللاعبين والإداريين السابقين. لماذا هم بعيدون عن ناديهم وهو يمر بهذا الوضع. مازال هناك متسع من الوقت وبالإمكان تدارك الوضع قبل فوات الأوان، والعودة إلى بداية الطريق الصحيح، ولكن ذلك يتطلب تحركا سريعا، بداية من عقد اجتماع يضم كل أبناء النادي لإعادة ترتيب الأوراق من أجل بداية تحقيق الانتصارات قبل فوات الأوان. نادي أحد ليس مجرد فريق؛ إنه تاريخ مدينة وكيان يستحق أن يقف خلفه الجميع؛ ليعود كما كان كبيرا بين الكبار.