لجريدة عمان:
2025-12-03@02:56:37 GMT

الصحافة البناءة

تاريخ النشر: 2nd, December 2025 GMT

ما بين مفهوم الإيجابية المطلقة التي تغفل المشكلة، والسلبية المطلقة التي تضخمها تبرز الصحافة البناءة كمفهوم إعلامي تتزايد أهميته في ظل الطوفان الهائل من الأخبار التي تميل إلى طرفي النقيض. فالإعلام كما يبدو في صورته الحالية يتأرجح بين خطاب يميل إلى تلميع الواقع، وخطاب آخر يعيش على الأزمات، ويعيد إنتاج الخوف وعدم اليقين.

وبين هذين الخطين تظهر الحاجة إلى صحافة واقعية وناضجة لا تكتفي بعرض الوقائع كما هي، ولا تنزلق نحو التهويل أو التجميل، بل تقدم القضايا في سياقها الحقيقي مستندة إلى الحقائق والأرقام، وباحثة في الوقت نفسه عن حلول ممكنة تسهم في توجيه الرأي العام نحو فهم أعمق وأكثر توازنًا.

وفي ظل هذا التحول نحو خطاب إعلامي أكثر وعيا يبدو المشهد الإعلامي اليوم أكثر ازدحامًا من أي وقت مضى؛ فقد دخلت عليه أصوات كثيرة لا تمت للمهنة بصلة، فاختلط فيه العمل الصحفي بالانطباعات الشخصية، وتحوّل جزء كبير مما يسمى وسائل إعلام إلى ساحات تسعى خلف الإثارة قبل المعلومة. ولأن الأخبار المثيرة تجذب المشاهد وتزيد من نسب المتابعة؛ تتشكل حالة من الفوضى تترك الجمهور أمام سيل من المعلومات المشتتة التي لا تساعده على رؤية الصورة الكاملة.

ولذلك تبرز الحاجة إلى إعلام قادر على الموازنة بين السلب والإيجاب، إعلام لا يتجاهل المشكلات، ولا يبالغ في تضخيمها. وهذا في رأيي هو جوهر الصحافة البناءة أن تسهم في تقديم رؤية متوازنة ترى المشكلة كما هي، وتضع في الوقت نفسه الحلول الممكنة على الطاولة. فالصحافة البناءة لا تهرب من النقد، لكنها أيضًا لا تقع في أسر التهويل. إنها تبحث عن سياق أعمق، وتقدم للقارئ ومجتمع القرار أدوات تساعدهم على التعامل مع ما يجري بدلًا من الاستسلام لضجيج العناوين المثيرة.

ولتقريب الصورة يمكن النظر إلى قضية الباحثين عن عمل بوصفها مثالًا واضحًا لطريقة تناول الإعلام للقضايا العامة والصحافة البناءة؛ فالطرح السلبي يغرق القارئ في تفاصيل المشكلة ويضخم آثارها، ويزرع شعورًا بأن الأزمة أكبر من أن تُحل. وفي كثير من الأحيان يدفع هذا النوع من الطرح الناس إلى تبني موقف متشائم لا يملك سوى ترديد المشكلة دون النظر في أسبابها أو البدائل المتاحة. وفي المقابل؛ يظهر الطرح الإيجابي المفرط الذي يتعامل مع القضية وكأنها ظاهرة عابرة، ويكرر الأرقام الإيجابية والجوانب المشرقة مانحًا القارئ صورة غير مكتملة لا تساعده على فهم حجم التحديات أو رؤية جذورها.

أما الصحافة البناءة فهي تتبنى منهجًا مختلفًا يبدأ بالاعتراف بحجم المشكلة دون تهويل، ثم ينتقل إلى تحليلها بحثًا عن حلول قابلة للتطبيق. ففي قضية الباحثين عن عمل يمكن للصحافة البناءة أن تقدم دورًا محوريًا من خلال رصد بيانات سوق العمل، وتحليلها، وإبراز الفرص المتاحة، وتسليط الضوء على التجارب الناجحة، وتشجيع الشباب على التدريب والتأهيل إضافة إلى تحفيز الحوار المجتمعي والضغط المهني على الجهات المعنية لوضع سياسات أكثر فاعلية.

وبذلك تتحول الصحافة من مجرد ناقل للأزمة إلى طرف فاعل في معالجتها، ومن خطاب يزيد التشاؤم إلى خطاب يساعد على رؤية الطريق الممكن نحو الحل.

إن الصحافة البناءة ليست توجهًا تكميليًا، بل ضرورة مهنية في المرحلة الراهنة. فهي تمنح الجمهور فهمًا أوضح، وتساعد المؤسسات على اتخاذ قرارات أفضل، وتبني نقاشًا عامًّا أكثر نضجًا وواقعية. وفي زمن يتداخل فيه الخبر بالضجيج، وتفقد فيه الحقائق بريقها أمام الإثارة يبقى الإعلام المسؤول هو القادر على تقديم الصورة الكاملة، وعلى أداء دوره الحقيقي في التنمية والتطوير. وهذا هو في تقديري دور الصحافة التي نحتاج إليها اليوم: صحافة تنير الطريق.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الصحافة البناءة

إقرأ أيضاً:

الصورة الذهنيّة لمجلس التعاون في الصحافة العربية والغربية

ناصر أبوعون

في محاولة للبحث عن شكل ومضمون الصورة الذهنيّة لـ(مجلس التعاون لدول الخليج العربية) في عيون العالمين العربيّ والغربيّ، والتي تمثل الصحافة وشاشات التلفزة مرآة عاكسة لها؛ اتضح أن هناك مرآتين، الأولى: تعكس اهتمامات الإعلام الغربيّ والآسيوَيّ على السواء وتركّز على محور (الطاقة) من منظور اقتصادي وجيوسياسيّ، ولكنه يغمز تارةً ويصرّح أخرى إلى حقوق العِمالة الوافدة، ويوظّفها كورقة ضغط بإيعاز من قباطنة السياسة وأباطرة الرأسمالية العالمية وتوجهات ومصالح الحركة الصهيونية.

أمّا مرآة الإعلام العربيّ فتسلّط الضوء على الدور الإيجابي لمجلس التعاون الخليجي في تحقيق الأمن والاستقرار، وإن كانت توجّه سهام النقد الإيجابي نحو مسيرة المجلس والتي بلغت عمرها الرابعة والأربعين من منظور إقليميّ وقوميّ، ويرى الإعلام العربيّ في تراجع ملف "التكامل الاقتصاديّ"، وتباطؤ وتيرة تنفيذ مشاريع التعاون المشترك بين سائر بلدان المجلس، حجرَ عثرةٍ أمام حركة التنمية المستدامة والرفاه الاجتماعيّ التي تستهدف النهوض بالشعوب الخليجية.

أمّا على صعيد المضمون، فنجد الإعلام الغربيّ يضع ثقله كاملًا في محورين استراتيجيين اثنين؛ يرتكزان على مبدأ تحقيق احتياجات الحكومات الغربيّة وتلبية تطلعات مواطنيهم، ويتمثل المحور الأول في تمتين "استراتيجية الطاقة"، والتي ترى في دول مجلس التعاون ذات الكتلة الجيوسياسية الممتدة مضافًا إليها العراق لا تعوقها أيّة موانع طبيعية أو صناعية وتمتلك الاحتياطي الأكبر حول العالم من النفط والغاز وتمثل شريان حياة للعالم الغربيّ والآسيويّ وعصب الأنشطة الاقتصادية وفي القلب منها الصناعة.

ثم يأتي المحور الثاني وينطلق من "استراتيجية التعاون الأمنيّ ذات البعد الاقتصاديّ"، من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربيّ والهند؛ للتأكيد على أنّ استقرار هذا الإقليم سياسيًا وأمنيًا يرتكز على معاهدات شراكة في مجالات الأمن والدفاع، وأنّ إمداد دول المجلس بأحدث الصناعات العسكريّة يُسهم في مزيد من تبريد بؤر الصراع، ويمثل حائط صدّ ضد أية أطماع خارجية.

لكن تظل سلطنة عُمان هي رُمانة الميزان التي تدير عملية تمتين العلاقات وأواصر القُربى بين دول المجلس وجيرانهم أو فيما بينهم وفق نهج الحياد الإيجابيّ.

أما على صعيد الإعلام العربيّ فنجده يركز على 3 محاور متساندة هي:

 الأمن الإقليمي: وفي هذا المحور تدور معظم المعالجات الصحفية والنقاشات المتلفزة ورؤى المحللين الخليجيين والعرب حول الإجابة عن سؤال: كيف نواجه الجريمة المنظمة؟ وكيف نواجه الإرهاب وتجفيف منابعه؟ وكيف نحمي الحدود السياسية والجغرافية من خطر الاختراق والتسلل؟ وكيف نطوّر "منظومة درع الجزيرة"؛ لتكون مظلة خليجيّة رادعة يركن إليها الجميع؟  التكامل الاقتصادي: ونجد في فلكه تدور 3 قضايا، ولكن ما زالت عالقة، ويتردد صداها منذ نشأة المجلس في ثمانينيات القرن العشرين، وهي: "ربط البنية التحتيّة" وهذه القضية قطعت دول مجلس التعاون فيها شوطًا كبيرًا، ثم تأتي قضية "الاتحاد الجمركيّ"، وهذه في طريقها إلى الحلحلة، ولكن ما زالت هناك بعض العناصر التقنيّة وسياسات التنفيذ تتقدّم بوتيرة بطيئة، وفي قضية "السوق الخليجية المشتركة" ما زال الأمل بعيد المنال، وهو ذروة سنام الوحدة، وحلمٌ يمكن تحقيقه من وجهة نظر مواطني دول المجلس.  السياسة الخليجية: المؤكد أن سائر دول المجلس تتفق على ضرورة الحفاظ على الاستقرار الأمنيّ لبلدان المجلس، والنأي عن سياسة التجاذبات والاستقطابات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط التي تتقلب على سطح صفيح ساخن، وخاصةً بعد التغوّل الإسرائيليّ في فلسطين المحتلة وسوريا ولبنان والصدام مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ودخول الصراع العربيّ الصهيوني إلى مناطق شائكة انتهت إلى صراع مسلح.

ويبقى القول.. إنّه رغم التحديات العالمية والإقليمية التي تواجه دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، إلّا أن الكثيرين يُعوّلون على "قمة المنامة" العديد من الآمال؛ وأهمها: إعادة النظر في التنسيق الأمني لحماية خطوط الملاحة البحرية، ولن يتأتى هذا إلّا بحلحلة القضايا العالقة مثل الصراع اليمني، ثم اتخاذ خطوات عملية في مسارين متوازيين؛ الأول: الاستثمار في قطاع الطاقة النظيفة وخاصة الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية لمواجهة خطر نضوب النفط مستقبلًا أو تدهور أسعار البيع وارتفاع كلفة الإنتاج.. إلخ من المتغيرات. وأمّا المسار الآخر فيركز على فلسفة التنويع الاقتصادي، وهو مرهون بالمضي قدمًا بوتيرة أسرع نحو سوق خليجية مشتركة.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • الفنانة فيدرا تكشف سر أزمة الكلاب الضالة: «المشكلة مش في الحيوانات.. المشكلة فينا» |فيديو
  • الصورة الذهنيّة لمجلس التعاون في الصحافة العربية والغربية
  • النيابة العامة تستعجل تقرير اللجنة المشكلة لفحص مخالفات تشغيل ممشى أهل مصر
  • محمود أبو الفتح.. من محرر متواضع إلى رمز وطني
  • عطل فني يسبب أزمة مرورية عند نفق الصحافة
  • مدن الأشباح الصينية
  • 5 مؤشرات تبعث على التفاؤل بشأن مستقبل الصحافة
  • سبب وفاة الصحفي سعد بوعقبة في الجزائر – من هو سعد بوعقبة
  • وزير النقل الأميركي يحثّ المسافرين على ارتداء ملابس لائقة.. والمنتقدون: المشكلة ليست في الملابس