تنعقد في العاصمة البحرينية المنامة غدًا "القمة الخليجية" السادسة والأربعين في لحظة تاريخية صعبة يعاد فيها تشكيل المنطقة وبناء تحالفاتها ضمن تغيير عالمي أكبر يتشكل فيه نظام عالمي ودورة حضارية جديدة ستتغير معهما كل القواعد السياسية والثقافية.

وتنعقد القمة تحت ضغط الكثير من الملفات، بعضها داخلي في عمق قضايا منطقة الخليج العربي ومسيرة المجلس وبعضها إقليمي وعالمي، ولكنّ الكثير منها مترابط في نسيج معقد جدا.

حرب الإبادة الطويلة على غزة كسرت أوهام "الاستقرار مقابل التطبيع" قبل أن تؤكده إسرائيل نفسها عبر هجومها الغادر على دولة قطر. بروز مثلث نفوذ معقّد بين إيران والخليج والولايات المتحدة مع دخول الصين لاعبا مباشرا، هناك أيضا تحول لا مفر منه أبدا يضغط بشكل واضح من أجل إعادة فهم مصطلح "الأمن" الذي تحول من فكرة الدبابات وتعداد الجيوش إلى شبكة معقدة من الاقتصاد والطاقة والبيانات والممرات البحرية. هناك أيضا مجموعة من الملفات الخليجية ـ الخليجية سواء على المستوى الاقتصادي والتجارة البينية أو على مستويات موازية مثل مشروع السكك الحديدية ومشروع الطيران المدني واستكمال السوق الخليجية.. كل هذه الملفات تدفع دول الخليج للعمل في إطار منظومة إستراتيجية واحدة لها ثقلها وقدرتها على التأثير الإقليمي والعالمي.

من المنتظر أن تكون القضية الفلسطينية أحد أبرز الملفات المطروحة للنقاش في قمة المنامة. كانت بعض المواقف الخليجية قد أظهرت خلال العامين الماضيين مزيجا من التماهي اللفظي مع الغضب الشعبي العربي، لكن في الوقت نفسه الحرص على عدم قطع الجسور مع واشنطن أو مع المسارات التي فُتحت مع إسرائيل قبل الحرب فيما عرف بالاتفاقيات الإبراهيمية. وتعالت لغة الإدانة، وتكررت المطالبة بوقف العدوان، وبحل سياسي يقوم على دولة فلسطينية كاملة السيادة، لكن البنية العميقة للسياسات لم تشهد تغيرات عميقة يمكن عبرها قراءة مسار جديد في مواقف أغلب الدول الخليجية حيث بقيت القواعد العسكرية، وما زال التنسيق الأمني مستمرا مع الولايات المتحدة، ورغم تجميد بعض مسارات التطبيع مع إسرائيل إلا أنها لم تلغَ حتى من الخطابات الرسمية لبعض الدول. ومن المتوقع أن يطفو هذا النوع من التوازن بين خطاب الغضب وإدارة المصالح والذي يصفه البعض "بالهش" في قمة المنامة سواء جرى التصريح به أو تُرك في مدفونا بين السطور وفي ظلال الحوارات والنقاشات المباشرة.

ما حدث في غزة خلال العامين الماضيين وضع الدول العربية وبينها الدول الخليجية أمام سؤال بسيط لا يُمكن تجاوزه، ما معنى "الأمن الإقليمي" إذا كان ثمن الحفاظ على التحالفات الدولية هو القبول الضمني باستباحة شعب بأكمله؟ الإجابة على هذا السؤال تكشف عن تناقض بنيوي كبير جدا، من جهة، هناك حاجة موضوعية لحماية الدولة والاقتصاد عبر علاقة وثيقة بالقوة الغربية المهيمنة؛ ومن جهة أخرى، حاجة لا تقل أهمية إلى الحفاظ على الحد الأدنى من الانسجام مع ضمير الشارع العربي ومع إرث القضية الفلسطينية الذي شكل جزءا من الهوية السياسية في المنطقة طوال العقود الماضية.

الملف الثاني الذي يخيم على القمة هو مثلث إيران ـ الخليج ـ واشنطن، مع دخول صيني من المتوقع أن يستمر في التمدد خلال المرحلة القادمة. الاتفاق السعودي ـ الإيراني الذي وُقع برعاية بكين كان بالنسبة للمنطقة والعالم الغربي لحظة فارقة، لأنه أرسل إشارة واضحة بأن الولايات المتحدة لم تعد الطرف الأوحد القادر على رعاية الترتيبات الأمنية في الخليج.

لكن البعض يرى هذه المصالحة ما تزال أقرب إلى هدنة استراتيجية منها إلى تسوية شاملة؛ فالصراع ما زال مستمرا على هيئات مختلفة، وسباقات النفوذ في العواصم العربية، لم تُطوَ بعد. ما تغيّر هو مستوى المخاطرة التي باتت الدول مستعدة لتحمّلها، لا جوهر التنافس ذاته.

في المقابل، تستمر واشنطن في إدارة حضور عسكري كثيف في الخليج، لكنها تفعل ذلك تحت سقف داخلي أمريكي يميل إلى الانكفاء، وتحت ضغط ملفات عالمية أخرى من أوكرانيا إلى آسيا.

ما زالت دول الخليج تعتمد بشكل كبير على المظلة الأمريكية، لكنها تدرك في الوقت نفسه أن هذه المظلة لم تعد مضمونة بالدرجة ذاتها، وأن الثمن السياسي، خاصة بعد غزة، أصبح أعلى وأكثر تعقيدا.

هذا الأمر هو الذي يدفع بالحوار المتسارع حول إعادة توزيع الأدوار: كيف تبقى الولايات المتحدة شريكا أمنيا رئيسيا دون أن تتحول المنطقة إلى ساحة لتصفية حساباتها مع إيران أو الصين؟ وكيف تستطيع دول الخليج تعزيز هامش مناورتها مع طهران وبكين وموسكو دون أن يُقرأ ذلك كخروج من الفلك الأمريكي؟

تملك سلطنة عُمان في هذا الملف الكثير من الأوراق، ومن المتوقع أن تشيرها لها القمة بشكل واضح وتدعمها في مسارها لفتح حوار بين واشنطن وطهران استكمالا لحوارات ما قبل الضربة الأمريكية الإسرائيلية على المواقع النووية الإيرانية.

وتتفق دول الخليج على أن الدور العماني هو جزء أصيل من سياسة التوازن عبر وجود دولة صادقة وموثوق فيها إقليميا ودوليا قادرة على أن تكون "مساحة حوار" الأمر الذي يعطي مجلس التعاون بعدا إضافيا، إذا أُحسن استثماره، ويمنحه كذلك قدرة على أن يقترح حلولًا بديلة بدل أن يظل متلقيًا لمشروعات جاهزة تكتب في العواصم الكبرى.

لكن اللحظة التاريخية ا لآنية تتجاوز فكرة الأمن في شكله التقليدي. ويدور في كواليس السياسة العالمية حوار حول إعادة تعريف معنى "الأمن"، الأمن الوطني والأمن الإقليمي.

وقد أظهرت التجارب خلال العقدين الماضيين أن التهديد الأكبر لاستقرار دول الخليج لم يكن غزوا أرضيا مباشرا، بقدر ما كان صدمات أسعار النفط، والأزمات المالية، والاضطرابات الإقليمية التي تضرب الاستثمارات، وسلاسل الإمداد، وثقة الأسواق.

ومن هنا بدأ يتحول مفهوم الأمن من حماية الحدود إلى حماية "منظومة حياة" عبر بناء اقتصاد متنوع، وبنية تحتية للطاقة والاتصال، وموانئ وممرات بحرية ولوجستية، وأمن غذائي ومائي، وأمن سيبراني ورقمي في زمن الذكاء الاصطناعي.

وتتحدث جميع دول الخليج عن التنويع الاقتصادي، والطاقات المتجددة، والهيدروجين الأخضر، والمدن اللوجستية، ومشروعات الربط الكهربائي والسكك الحديدية، وتحويل المنطقة إلى عقدة أساسية في تجارة العالم.

لكن ما ينقص حتى الآن هو تحويل هذه المشاريع الوطنية المتوازية إلى إستراتيجية خليجية مشتركة؛ أي الانتقال من سباق في جذب الاستثمارات إلى بناء كتلة اقتصادية متكاملة قادرة على التفاوض مع القوى الكبرى من موقع قوة، لا من موقع الحاجة المنفردة لكل دولة.

في هذا السياق تظهر مرة أخرى الهوة بين الخطاب والواقع. مجلس التعاون يتحدث منذ سنوات عن سوق خليجية مشتركة، وعن مواطنة اقتصادية، وعن تكامل في البنى الأساسية، لكن التنفيذ يمضي ببطء شديد، ويتعرض في كل مرة لاختبارات سياسية أو حدودية أو تنافسية تعيده خطوات إلى الخلف.

ومع تحولات الطاقة عالميا، واشتداد التنافس على الممرات البحرية واللوجستية، يصبح هذا البطء نوعا من المغامرة. فمن دون كتلة خليجية قادرة على إدارة ملفات الطاقة الخضراء، والذكاء الاصطناعي، والتحول الرقمي، ستجد كل دولة نفسها تفاوض شركات التكنولوجيا الكبرى والدول الصناعية وحدها، وبشروط تميل لصالح الطرف الأقوى بلا جدال.

تملك قمة المنامة، نظريا على الأقل، فرصة لتصحيح جزء من هذا المسار، خاصة وأن الأمين العام معالي جاسم البديوي كان يتحدث للصحفيين بثقة كبيرة عن كتلة خليجية قوية قادرة على التفاوض مع الكيانات السياسية والاقتصادية العالمية وعن مشروعات خليجية ترقى إلى مستوى بناء قبة حديدية خليجية قادرة على التصدي لأي اعتداء عسكري خارجي.

لكن الشعوب الخليجية تبحث اليوم عن تحويل البيانات إلى عمل خليجي حقيقي فيما يتعلق بتسريع مشروع الربط الحديدي والخدمات اللوجستية بوصفهما أولوية أمن اقتصادي، ووضع إطار عملي للتعاون في مشاريع الهيدروجين الأخضر والكربون الدائري، وتأسيس آلية تنسيق حقيقية في ملفات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني.

لكن من المهم أن يكون مجلس التعاون الخليجي في مستوى الأزمات والتحولات التي يمر بها العالم ويمر بها الإقليم، وأن يتجاوز وضعية "إدارة الأزمات" إلى وضعية "صناعة المستقبل"! كان المشهد في كل أزمة كبرى، من العراق إلى الربيع العربي إلى اليمن وغزة، يبدو وكأن الدول الخليجية متفاجئة بما يجري، ثم تتلمس طريقها إلى رد الفعل.

تحتاج قمة البحرين أن تناقش على مستوى القادة آليات الخروج من منطق الطوارئ إلى منطق التخطيط، ومن سياسة اليوم ـ بيومه إلى سياسة العقد المقبل؟

ينتظر أبناء الخليج أن تخرج القمة في البحرين بخطوات عملية في اتجاه تحول جذري لمسار العمل في المجلس إن كان هناك إرادة حقيقية لصناعة تغيير ومواكبة التحولات الكبرى في النظام العالمي وفي الدورة الحضارية التي تتشكل في العالم منذ مطلع القرن الجاري.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: قمة المنامة دول الخلیج قادرة على

إقرأ أيضاً:

نيابة عن خادم الحرمين وأمام ولي العهد.. السفراء المُعينون حديثًا لدى عدد من الدول يؤدون القسم

نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -أيده الله-، تشرف بأداء القسم أمام صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله-، في قصر الخليج بالدمام اليوم، سفراء خادم الحرمين الشريفين المعينون حديثًا لدى عدد من الدول الشقيقة والصديقة.

وقد أدّى القسم كل من صاحب السمو الملكي الأمير سعد بن منصور بن سعد بن سعود بن عبدالعزيز السفير المُعيّن لدى دولة قطر، والسفير المُعيّن لدى بروناي دار السلام صالح بن عبدالكريم الشيحة، والسفير المُعيّن لدى جمهورية رومانيا غير مقيم لدى جمهورية مولودفا خالد بن عيد الشمري، والسفير المُعيّن لدى جمهورية نيجيريا الاتحادية يوسف بن محمد البلوي، والسفير المُعيّن لدى البوسنة والهرسك أنس بن عبدالرحمن الوسيدي، والسفير المُعيّن لدى بوركينافاسو سعد بن مسفر الميموني، والسفير المُعيّن لدى جمهورية ألبانيا تركي بن إبراهيم بن ماضي، والسفير المُعيّن لدى جمهورية سيراليون سعود مشبب آل مساعد، والسفير المُعيّن لدى جمهورية إثيوبيا الفيدرالية الديمقراطية عبدالله بن حسن الزهراني، والسفير المُعيّن لدى جمهورية طاجيكستان خالد بن عبدالله الشمراني، والسفير المُعيّن لدى جمهورية سنغافورة محمد بن عبدالله الغامدي، والسفير المُعيّن لدى جمهورية اتحاد ميانمار مزيد بن محمد الهويشان، والسفير المُعيّن لدى نيبال فهد بن محمد بن منيخر، والسفير المُعيّن لدى جمهورية فيتنام الاشتراكية غير مقيم لدى مملكة كمبوديا ثامر بن محمد القصيبي، والسفير المُعيّن لدى مملكة هولندا شاهر بن خالد الخنيني.

حضر أداء القسم، الأمير فيصل بن فرحان بن عبدالله وزير الخارجية.

نيابة عن #خادم_الحرمين_الشريفين..
وأمام سمو #ولي_العهد..
السفراء المُعينون حديثًا لدى عدد من الدول الشقيقة والصديقة يؤدون القسم.#واس pic.twitter.com/7O5kESIY38

— واس الأخبار الملكية (@spagov) December 2, 2025 خادم الحرمين الشريفينولي العهدلسفراء المُعينون حديثًاقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • نيابة عن خادم الحرمين وأمام ولي العهد.. السفراء المُعينون حديثًا لدى عدد من الدول يؤدون القسم
  • قمة المنامة.. أي «درع» يحتاجه الخليج اليوم؟
  • قمة المنامة والتحديات الحقيقية
  • جلالة السلطان يشارك غدًا في قمة المنامة.. وتوجه لبناء القبة الخليجية الصاروخية
  • بمشاركة جلالة السلطان لأول مرة.. إليك أبرز ملفات "القمة الخليجية" في المنامة
  • بمشاركة جلالة السلطان.. تعرّف على أبرز ملفات القمة الخليجية في المنامة
  • نيابةً عن سمو وزير الخارجية.. الرسي يشارك في الاجتماع الوزاري التحضيري للقمة الخليجية
  • الجيش السلطاني يحتفل غدًا بتخريج دفعات جديدة من الضباط
  • إيران تحتجز سفينة تحمل وقودا مهربا في مياه الخليج