من كيان “إسرائيل الشرقية” إلى عربان التطبيع: السعيد من اتعظ بغيره!
تاريخ النشر: 4th, October 2023 GMT
يمانيون – متابعات
يتحدث قادة كيان “إسرائيل” بكثير من الشوق واللهفة عن اتفاق التطبيع المحتمل مع السعودية، ويسهبون في تعداد النعم الجزيلة والخير الوفير الذي سيجلبه الاتفاق لشعوب المنطقة. وزير الشؤون الإستراتيجية الصهيوني رون ديرمر قال خلال مقابلة تلفزيونية: “إذا حدث اتفاق سلام بين السعودية وكيان إسرائيل، فهذه بداية نهاية الصراع الصهيوني العربي، وسوف نحقق بذلك مصالحة بين اليهودية والإسلام، ونزيد فرص السلام مع الفلسطينيين”.
أما وزير خارجية الاحتلال إيلي كوهين، فقال: “الفلسطينيون لن يكونوا عائقاً أمام التطبيع مع السعودية، ولن يكون هناك سباق تسلح نووي، والاتفاقية ستعزز الأمن والاستقرار الإقليميين”.
يبدو مشهداً ساخراً وهزلياً بعض الشيء، فـ كيان “إسرائيل” التي بَنَت مشروعها الصهيوني على أنقاض “العروبة” وحوّلتها إلى ثقافة العدو التي يجب أن تحارب، فحاربت اللغة العربية، وازدرت الثقافة العربية، وحوّلت كل العرب إلى “إرهابيين” وخطرين، هي ذاتها التي تظهر علينا اليوم في “ثياب الواعظين”، وتحدثنا عن “ثمار” العلاقة معنا نحن العرب. نعم، العرب ذاتهم الذين دعت، وما زالت، لمحو ثقافتهم ومحاربتها وقدمتهم كخطر حقيقي على وجود اليهود و”الدولة” اليهودية!
بالتأكيد، لن يسعفنا الحديث مع عربان التطبيع؛ عاشقي كيان “إسرائيل” كارهي أنفسهم، عما فعلته وتفعله “معشوقتهم” بالعرب والفلسطينيين تحديداً من قتل وإيذاء وتشريد، فقد عقدوا أمرهم على “تصحيح الرواية التاريخية”، فلم تعد كيان “إسرائيل” محتلة معتدية، وربما، وفي نشوة حالة الغرام معها، نشهد تبرئتها واعتبار أن العرب هم من بادروها بالاحتلال والقتل! فما يقول هؤلاء في “الجارة” التي بَنَت نظامها الاجتماعي داخلياً على مبدأ فصل اليهود العرب (الشرقيين) عن العروبة؟ وربما يتفضل هؤلاء المهرولون نحو كيان “إسرائيل” ويخبروننا: لماذا لا يمكن للمجتمع الصهيوني إلى اليوم استيعاب رئيس وزراء “مزراحي” شرقي؟ ولماذا لا يسمح النظام السياسي الصهيوني لرئيس وزراء شرقي بتولي هذا المنصب؟
لطالما اعتقد الكثير من الصهاينة، وتحديداً الغربيين، وما زالوا، أن اليهود الشرقيين، في أول فرصة أو مع انتخاب أول رئيس وزراء صهيوني شرقي، سيعبرون الحدود، ويشكلون ائتلافاً ثقافياً مع نظرائهم من العرب، وسيقصون بالقوة الثقافة السياسية “الأشكنازية” الغربية في كيان “إسرائيل”، مدفوعين بكراهيتهم الشديدة لليهود الغربيين.
إن الارتباط التاريخي لليهود الشرقيين ببلدانهم يثير القلق الدائم في كيان “إسرائيل”. ومن وجهة نظر العديد من الصهاينة، فإن الخطوة الأولى التي سيقوم بها الشرقيون في حال قيادتهم “الدولة” هي “إلقاء الأشكناز في البحر”، والانضمام إلى “أبناء عمومتهم” المسلمين، وإعادة تبني قيمهم الشاملة، والقضاء على كيان “إسرائيل” التي عزلتهم واضطهدتهم وأذلّتهم.
إن الافتراض بأن اليهود الشرقيين سيتخلون في لحظة الحقيقة عن “إخوانهم اليهود الغربيين”، ويديرون ظهورهم للتقدم والازدهار، وينضَمون إلى “التخلف العربي المحيط”، يقوم لدى النخب الأشكنازية على أساس أن اليهود الشرقيين ليسوا في أعماقهم صهاينة حقيقيين، ولا وطنيين بما فيه الكفاية. وحين تتاح لهم زمام الأمور، “سيحولون كيان إسرائيل إلى دولة عربية (متخلفة) أخرى في الشرق الأوسط”.
لم تَبقَ هذه النظرة العنصرية الغربية حبيسة الأرشيف السري، بل فاضت بها علناً أنفسهم المسكونة بعقد الاستعلاء والكراهية للقيم الشرقية؛ ففي عام 2018، وفي مقابلة مع الإذاعة الصهيونية، صَرَحَ الرئيس السابق لبلدية مستوطنة “سديروت” إيلي مويال قائلاً: “لو كان الإسبان هم من أقاموا الدولة، لكانت كيان إسرائيل دولةً عربية أخرى في الشرق الأوسط”.
وربما هذا هو أيضاً سبب تعزز “التوجه اليميني” لدى كثير من الممثلين السياسيين الصهاينة الشرقيين، من أمثال ميري ريغيف وأمير أوحانا، وحتى في أوساط الجمهور اليهودي الشرقي، مستندين إلى أنّ تعزيز كراهية العرب قد يميزهم عنهم ويجمّل صورتهم في نظر اليهود الغربيين، لأنه إذا “لم تظهر كراهيتك الشديدة للعرب، فكيف سيعرف اليهود الغربيون أنك لست عربياً مثلهم؟”.
إن حقيقة عدم وصول مرشح يهودي شرقي واحد لقيادة “كيان إسرائيل” منذ نشأتها هي فشلٌ اجتماعي صارخ، وهي دليلٌ قاطع على أن الكيان يسقط في امتحان الممارسة العملية سقوطاً مدوياً لمصلحة ثقافة الاستعمار الغربي.
وفي الوعي الاجتماعي اليهودي، يسود الشك في أن “المزراحي” اليهودي الشرقي هو العدو، وينكشف “حكم البيض” و”الأبارتهايد” الممارس ضد اليهود الشرقيين والعنصرية والسخرية والسّب بسبب الأصل الطائفي، فالسبب الحقيقي لعدم استيعابهم داخل المجتمع الصهيوني ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية هو “لونهم” وتقاليدهم الشرقية البعيدة من “الأشكنازية الصهيونية”.
ورغم كل الممارسات العنصرية والاضطهاد الذي يعيشه اليهود الشرقيون في كيان “إسرائيل”، لا يشعر “الأشكناز” الليبراليون الغربيون بالذنب لما فعلته الصهيونية منذ قيامها بهم. ورغم أن رئيس الوزراء الصهيوني السابق إيهود باراك أعرب عام 1997 عن أسفه لما حدث لليهود الشرقيين مع إقامة “الدولة”، فإنه تحدث عن أخطاء ارتكبت “بحسن نيّة”، وليس عن هيكل منهجي للتمييز والقمع، لكن الواقع الذي تحاول كيان “إسرائيل” أن تخفيه هو أن موقف المؤسسة الأشكنازية تجاه اليهود الشرقيين لا يزال غارقاً في العنصرية والتعالي والتمييز.
ولم تقف وقاحة “الأشكناز الليبراليين” عند حد عدم الشعور بالندم أو الذنب على ما حدث لليهود الشرقيين أو حتى التفكير في الاعتذار منهم، بل تجاوز الأمر إلى اعتبار أن “الصهيونية وكيان إسرائيل” قدمتا خدمة عظيمة لليهود الشرقيين، من خلال “إنقاذهم من الهاوية السحيقة للثقافة العربية وفتح نافذة العالم الغربي أمامهم”.
وإن لم يكن هذا كافياً، فربما يودّ زعماء التطبيع العربي أن يسمعوا قيادة كيان “إسرائيل” وهي تنادي علانيةً بأن “اليهود الأشكناز أنقذوا اليهود الشرقيين من محرقة كان من الممكن أن يلحقها بهم الحكام القتلة في العالم العربي والإسلامي”.
واليوم، ورغم مرور أكثر من 75 عاماً على قيام هذا الكيان، وبعدما سادت وطغت الثقافة الغربية واللسان الغربي في المجتمع الصهيوني، ما زالت القيادات الصهيونية الغربية تعمد إلى “تخويف الشرقيين بشرقيتهم”، وتدفعهم إلى التبرؤ منها، وتفهمهم أنها تعني “نبذ قيم الغرب الديمقراطية”، وأنها الأكثر تدميراً وخطراً على وجود “الدولة” وازدهارها، لأنها “ستنهي المشروع الصهيوني الثوري”.
اعتادت النخب الأشكنازية حكم “المزراحين” اليهود الشرقيين، وزرعت في الجمهور الصهيوني أن المنصب لم يبنَ لرئيس وزراء شرقي، فحقيقة أن كيان “إسرائيل” لم يكن لديها رئيس وزراء شرقي حتى يومنا هذا هي خير دليل على التفوق المتأصّل للثقافة “الأشكنازية الاستعمارية” التي لا ترغب، ولن تتمكّن كيان “إسرائيل” من التخلص منها، حتى لو طَبَّعَ معها العرب جميعاً.
ولا أجد في هذا المقام أجمل مما كتب الشاعر أحمد شوقي لأختم به رسالة اليهود الشرقيين لعربان التطبيع، لعَلَهم لا يكونون من الأشقياء، فيتعظون بغيرهم:
بَلّغ الثَعلَبَ عَنّي عَن جدودي الصالحينا
عَن ذَوي التيجان ممَّن دَخَلَ البَطنَ اللَعينا
أَنَّهم قالوا وَخَير القَول قَول العارفينا
مخطئٌ مَن ظَنَّ يَوماً أَنَّ للثَعلَب دينا
————
الميادين / محمد هلسة
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: رئیس وزراء ن کیان
إقرأ أيضاً:
خامنئي يعترض التطبيع السعودي ـ الإسرائيلي على طريق الهند التجاري
ما كانت إيران على علم ب "طوفان الأقصى". لقد فوجئت بالعملية كما فوجئ العالم بأسره. لعل سريتها هي سبب نجاحها.
هذا موجز الكلام المتداول حول علاقة إيران وأطراف محور الممانعة بهذه العملية التي اشعلت نصف حرب عالمية في منطقتنا ولم تتم فصولا بعد.
أعيد التذكير بتصريح للسيد محمد جواد ظريف، نائب رئيس الجمهورية للشؤون الاستراتيجية(المستقيل) اذ يقول: ان العملية الفلسطينية أطاحت باجتماع إيراني ـ أمريكي للبحث في "الملف النووي" قبل يومين من موعده في 9 أكتوبر ـ تشرين الأول 2023. أضف إلى ذلك أن إيران وحلفاءها كانوا يسعون، قبل "الطوفان" لإشاعة أجواء من الاستقرار والمصالحة في المنطقة، خصوصا بعد توقيع الاتفاق الإيراني ـ السعودي (10 مارس ـ آذار 2023) في بكين وتخفيض التوتر في اليمن وتخطيط الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل ونشر انباء شبه مؤكدة عن قرب تخطيط الحدود البرية، وبالتالي ما كان من مصلحتهم قلب الطاولة بضربة واحدة أو على الأقل لم يخططوا لذلك.
"لا فلسطين ولا لبنان"
في السياق عبّرَت جماعات إيرانية عن استياء متزايد من دعم طهران غير المحدود للقضية الفلسطينية، حين ردد متظاهرون في العامين (2022 ـ 2023) شعارات تعكس امتعاضهم من دعم بلادهم للقضية الفلسطينية والمقاومة اللبنانية "لا فلسطين ولا لبنان، نحن فداء لإيران". وذهب ظريف إلى أبعد من ذلك عندما صرح بأن حلفاء إيران في محور الممانعة، عملوا لمصالحهم الخاصة وأحيانا كثيرة على حساب مصالح إيران، وذلك في إشارة إلى تنفيذ عملية "طوفان الأقصى" من دون التشاور مع القيادة الإيرانية. وانتقد ظريف موقف بلاده التي "تريد أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين أنفسهم". كأنه يضمر القول إن سياسة السلطة الفلسطينية هي السياسة الواجب تأييدها وليس سياسة حماس والجهاد الإسلامي والمنظمات المقاتلة الأخرى.
بيد أن تصريحات ظريف كما هتافات المعارضين للحكومة الإيرانية، على أهميتها، لا تعبر عن حقيقة الموقف الرسمي في إيران تجاه القضية الفلسطينية، وهي بعيدة عن مراكز القرار الفعلية في الجمهورية الإسلامية ولا حظّ لها في تغيير سياسة إيران الفلسطينية اقله في المدى المنظور.
كان من الصعب على طهران أن ترى البساط ينسحب من تحت أقدام محور الممانعة باللعبة الإبراهيمية التي قد تغير وجه المنطقة وخريطة المصالح فيها، فكان "الطوفان" والراجح أنه تم بإشراف إيراني، لكن المفاجأة كانت في حجم العملية وآثارها التي تجاوزت كل الحدود المتوقعة. لعل طهران كانت تتوقع تصعيدا تحت السيطرة يشبه ما سبق، فإذا بها تفاجأ بـ "بيرل هاربر" فلسطيني غيّر كل قواعد الاشتباك. وكان عليها أن ترد على هذه المفاجأة وعلى هذا التغيير.يحتفظ ظريف بتأثير في أوساط النخبة والراي العام، لكن لا رجاحة لأقواله في مراكز صنع القرار وبخاصة في الحلقة الضيقة المحيطة بالمرشد الأعلى، وقيادة الحرس الثوري الإيراني، او فيلق القدس وتيار المحافظين.
معلوم أن ظريف ينتمي إلى فريق الرئيس السابق المعتدل حسن روحاني، وقد ارتبط اسمه بالاتفاق النووي الإيراني الذي الغاه دونالد ترامب (8مايو ـ أيار 2018)، وبالتالي يُذَكِّرُ الإيرانيين بالفشل الذي نجم عن سياسة المعتدلين في هذا المجال الحيوي. ولعل ذلك يفسر بطبيعة الحال، هزيمتهم وفوز المحافظين بالرئاسة عبر اختيار الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي. (آب ـ أغسطس 2021).
وعليه من الصعب أن تغير تصريحات ظريف أو الاحتجاجات المحدودة في الشارع، موقف إيران من فلسطين التي احتلت موقعا استراتيجيا في سياسة طهران الخارجية منذ انطلاقة الثورة الإسلامية في العام 1979، وما تزال فلسطين قضية إيران الأولى في الشرق الأوسط حتى اشعار آخر وهي تتيح للجمهورية الإسلامية دورا مركزيا يدعم موقعها الاقليمي ونفوذها الدولي وعلاقاتها المميزة مع روسيا والصين ودورها في التأثير على طرق التجارة العالمية التي تعبر الشرق الأوسط نحو اوروبا.
شرعية الثورة الإيرانية
مقابل تصريحات ظريف النقدية أجمعت مراكز القرار على وجوب دعم القضية الفلسطينية وعلى التفاخر بـ "طوفان الأقصى" التي ربما ما كان يمكن أن تتم لولا الموافقة الإيرانية أو على الأقل التسامح مع قيامها. ومن الطبيعي ألا تتبنى إيران العملية رسميا فتضع نفسها في حرب مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
يمكن أن نذهب إلى أبعد من الترحيب في موقف إيران، إذا افترضنا أنها لا تخشى ردود الفعل الإسرائيلية، ما دامت هي ومحورها في موقع شديد الثقة بالاستعدادات والتدريبات والخبرة اللازمة لخوض حرب ناجحة ضد الدولة العبرية. لنتذكر معا فرضيات الحرب التي كان المحور يناقشها ومن بينها اجتياح الجليل الاعلى وصولا الى حيفا خلال أسبوع أو أسبوعين، فضلا عن الخطاب الإيراني القتالي الذي تتردد فيه جمل من نوع: جحيم الصواريخ الإيرانية يمكن أن يدمر إسرائيل ويحيلها إلى رماد.
أما الافتراض بأن عملية" طوفان الأقصى" قد تشعل حربا مفتوحة مع إسرائيل، وأن ذلك يتناقض مع التفاهم الإيراني السعودي أو تخطيط الحدود البحرية مع لبنان أو إشاعة أجواء الاستقرار، هذا الافتراض لم يكن مطروحا عشية العملية، وكان يمكن أن يطرح لو أن واشنطن تريد حلا مناسبا للملف النووي الإيراني ولو أن إسرائيل لا تعمل بطريقة حثيثة على إشعال حرب أمريكية غربية ضد الجمهورية الإسلامية.
أُخَمِّنُ أن حسابات إيران قبل الطوفان كانت تميل إلى لجم إسرائيل أو ردعها، كي ترسم مع حلفائها في المحور وأصدقائها الروس والصينين خريطة جيوسياسية في المنطقة حول طريق الحرير لا تكون فيها الدولة العبرية القوة المُعَطِّلة والاقوى في الشرق الأوسط. ولا تكون قطبا مقررا في التطورات القادمة على هذا الطريق، الذي تحتل فيه إيران دورا أساسيا في حين يستبعدها "طريق الهند" الذي يضم الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة والسعودية وإسرائيل والأردن والذي يصل الهند بالشرق الأوسط وأوروبا.
ألفت الانتباه هنا إلى أن الإعلان عن "طريق الهند" التجاري تم في 10 أيلول ـ سبتمبر 2023 قبل أقل من شهر من عملية "طوفان الأقصى". هذا الطريق يتفرع إلى ممرين. الأول يربط الهند بميناء الفجيرة في الإمارات العربية المتحدة وممر آخر يربط الفجيرة بالسعودية والأردن عبر سككك حديدية تصل إلى ميناء حيفا في إسرائيل ومنها عبر المتوسط الى أوروبا والولايات المتحدة وهو يعزل إيران تماما في إقليم تعتبره اقليمها.
إن الصواريخ والمسيرات الحوثية الفعالة، التي ظهرت فيما بعد على طريقي الهند والصين التجاريين، تفصح عن تخطيط إيراني استراتيجي يتيح كلمة وازنة لمحور الممانعة، وذلك عبر بسط النفوذ على طريقين بحريين مركزيين في المنطقة، هما باب المندب ومضيق هرمز. هذا النفوذ بدا فعالا في حرب "الطوفان" عبر محاصرة إسرائيل في البحر الأحمر وكشف محدودية قدرتها الدفاعية كما تبين من بعد.
استنادا إلى ما تقدم، يمكننا التوقف عند مؤشرات عديدة تفيد بان إيران كانت على علم بالعملية مبدئيا، ولربما بحجمها وتوقيتها وان صح ذلك فهذا يعني انها شاركت في التخطيط لها وعقدت رهانا عليها لإضعاف إسرائيل والدفاع عن المصالح الإيرانية الاستراتيجية في الإقليم.
من بين المؤشرات التي تسير في هذا الاتجاه اتوقف عند تصريح السيد محمد باقر قاليباف رئيس مجلس الشورى الإيراني إذ قال أن بلاده شاركت في التخطيط للعملية، لكنه تراجع عن تصريحه فيما بعد (تشرين الثاني ـ نوفمبر 2023). وقد حاول الناطق باسم الحرس الثوري العميد رمضان شريف أن يتبنى العملية (27 ديسمبر ـ كانون الأول 2023) بقوله انها انطلقت من اجل الثأر لقاسم سليماني بعد أن اعتبره إسماعيل هنية "شهيد القدس" في خطاب علني، لكن قيادة حماس في الدوحة، سرعان ما نفت ذلك بقولها ان العملية تمت بسبب الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، ليعدل أبو عبيدة الناطق باسم "كتائب القسام" في غزة هذا النفي بقوله ان "طوفان الأقصى" يمكن ان تكون في أحد وجوهها انتقاما لكل الذين سقطوا على طريق القدس. ومن ثم انتهى هذا الاختلاف بتصريح لقائد الحرس الثوري حسين سلامي أكد فيه أن لا ترابط بين "طوفان الأقصى" واستشهاد قاسم سليماني، وأن العملية الفلسطينية تمت بقرار فلسطيني مستقل.
المشاركة في التخطيط
ما من شك في أن سعي الحرس الثوري لتصنيف "طوفان الأقصى" في خانة رمزه الأكبر قاسم سليماني، مؤشر افتراضي على مشاركة إيران في التخطيط لهذه العملية، فضلا عن مؤشرات أخرى من بينها زيارة إسماعيل هنية رئيس الحركة الراحل، طهران في سبتمبر ـ أيلول 2023 قبل أقل من شهر من تنفيذ العملية. ومن غير المستبعد بحسب المصادر الأمريكية أن تكون قيادات أخرى قد زارت العاصمة الإيرانية لهذا الغرض.
إن الصواريخ والمسيرات الحوثية الفعالة، التي ظهرت فيما بعد على طريقي الهند والصين التجاريين، تفصح عن تخطيط إيراني استراتيجي يتيح كلمة وازنة لمحور الممانعة، وذلك عبر بسط النفوذ على طريقين بحريين مركزيين في المنطقة، هما باب المندب ومضيق هرمز. هذا النفوذ بدا فعالا في حرب "الطوفان" عبر محاصرة إسرائيل في البحر الأحمر وكشف محدودية قدرتها الدفاعية كما تبين من بعد.وفي السياق تجدر الإشارة إلى تأكيد السيد حسن نصر الله أكثر من مرة، أن الحزب والمحور كان على علم بالتخطيط لعملية عسكرية كبيرة من طرف حماس من دون العلم بتفاصيلها وحجمها وتوقيتها. هذا العلم المسبق كان يجب أن يأخذ بعين الاعتبار رد الفعل الأمريكي والإسرائيلي الذي عرف الحزب بعضا منه جراء عملية "الوعد الصادق" 2006، وبالتالي كان ينبغي التوقع بأن يكون هذه المرة ـ مع حكومة الحرب الإسرائيلية ـ أكبر وأخطر بكثير من ذي قبل الامر الذي يضعف فرضية المفاجأة التي لمح اليها المحور مرارا.
كذلك يمكن افتراض الترابط بين عملية "طوفان الأقصى" والانتقادات الإيرانية للتطبيع المنتظر بين السعودية وإسرائيل إذ أكد الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي أن بلاده ترفض التطبيع بين إسرائيل ودول المنطقة (سبتمبر ـ أيلول 2023). وجاء تصريح رئيسي في سياق انتقادات إعلامية واسعة للتطبيع المفترض، لعل اكثرها وضوحا وحِدَّة ما ورد في خطاب للسيد حسن نصر الله في 2 أكتوبر ـ تشرين الأول 2023، أي قبل خمسة أيام من الطوفان، حين قال حرفيا "إن التطبيع هو طعن بالشعب الفلسطيني والمسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس". ومن غير المستبعد أن يكون الطوفان قد وقع استباقا لما ترفضه حماس وإيران ومحور الممانعة عموما.
كذلك كان رد الفعل الإيراني المباشر على عملية "الطوفان" مُرَحِّباً بطريقة توحي وكأنها كانت منتظرة. فقد صدر الترحيب الأول من المرشد الأعلى ومن قائد الحرس الثوري وشخصيات مؤثرة في الجمهورية الإسلامية من دون تبني العملية رسميا.
واستبعد النفي القاطع أن إيران فوجئت بعملية "طوفان الأقصى"، أو لم تكن تتوقعها لأنها مضرة بمصالح الجمهورية الإسلامية كما يوحي استنتاج محمد جواد ظريف. ومن المرجح أيضا ان يكون تخطيط حماس للعملية وتنفيذها قد تم بحجم وزخم مفيد للمقاومة في غزة، يتيح لها اختبار فعالية المحور ووحدة الساحات، وبالتالي اقفال كل الطرق التي قد تبعد بعض أطراف المحور ـ الذاهبة إلى تسويات محلية ـ عن الصراع مع الكيان الصهيوني.
في المحصلة لا يمكن ان نهمل معرفة إيران المسبقة بعملية " طوفان الأقصى" واحتمال مشاركتها في التخطيط وذلك للأسباب التالية:
أولا ـ تدعم إيران وتمول وتنقل خبرتها الصاروخية وتدرب أطراف محورها وبالتالي لا يمكن أن تكون "خارج التغطية" عندما ينفذ أحد الأطراف عملية عسكرية بحجم هجوم السابع من أكتوبر. وإذا أردنا توسيع هذا الاحتمال يمكننا القول أن إيران كانت على علم بالتخطيط لعملية غير عادية وكانت قادرة على اختبار رد الفعل الإسرائيلي بالقياس الى حرب لبنان المشار اليها اعلاه. وهي ما كانت تحسب بطبيعة الحال أن يتخذ رد الفعل الإسرائيلي ـ الأمريكي على "الطوفان" هيئة حرب إبادة جماعية.
ثانيا ـ يفصح رد الفعل الأمريكي والغربي المباشر على هذه العملية عن تقدير أو معرفة بأن "طوفان الأقصى" ليست عملية غزاوية كسائر عمليات المقاومة. إنها عمل مخطط يهدف إلى إضعاف إسرائيل وتهميشها في مشاريع الطرق التجارية الاستراتيجية في الشرق الأوسط وهي لا تتحمل هذا الاختبار ولا تستطيع التعايش معه.
ثالثا ـ تزامنت العملية مع تغيير متوقع في المنطقة يتعلق بمصير القضية الفلسطينية وذلك عبر التطبيع السعودي ـ الإسرائيلي، الذي من شأنه لو تم أن يضع القضية في مسار جديد ويخرجها من العمل المسلح. وفي السياق يمكن للتطبيع أن يزيل عقبة هائلة امام "طريق الهند" التجاري مقابل "طريق الحرير" الصيني.
كان من المتوقع أن يقفل التطبيع السعودي مع إسرائيل أبواب الجامعة العربية امام أي خط آخر للتعاطي مع القضية الفلسطينية، غير الخط الذي تعتمده السلطة الفلسطينية بزعامة محمود عباس، وذلك للمرة الأولى منذ نشوئها، ويضعف شرعية العمل لدعم هذه القضية خارج حدود الجامعة، فضلا عن فتح افق إسلامي امام هذا الخيار. لنتخيل اجتماع واتفاق تركيا وباكستان واندونيسيا والسعودية في الفضاء الاسلامي على "حل الدولتين" مع الاعتراف بالدولة العبرية. هذا الاعتراف يمكن ان يضعف ولربما يهمش موقع إيران في الإقليم وفي العالم الإسلامي.
ما كان يمكن لإيران أن تنصاع للتغيير القادم في مصير القضية الفلسطينية وفي مصير طرق التجارة، وبالتالي تهميشها، وهي التي ربطت شرعية ثورتها بفلسطين، واعتبرتها القضية المركزية للجمهورية الإسلامية.إن التغيير الاستراتيجي الذي كان يلوح في أفق المنطقة ما كان بوسع محور الممانعة اعتراضه من دون عملية كبيرة من وزن "طوفان الأقصى"، تشعل حربا تحت السيطرة وتغير قواعد الاشتباك وتعطل التطبيع القادم.
ولا أغالي كثيرا بالقول إن حزب الله كان قد جرب في تلك الفترة نفسها، استدراج إسرائيل إلى فخ، عندما نصب خيمتين على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. الأولى في نيسان ـ أبريل 2023 قرب موقع للأمم المتحدة في مزارع شبعا المتنازع عليها، والثانية في أيار ـ مايو 2023 على بعد خمسين مترا داخل ارض تعتبرها إسرائيل تابعة. لم ترد إسرائيل على هذا الاستفزاز الذي كان يهدد بانفجار على الحدود، يُرَجّحُ ان توقيته ما كان مناسبا للدولة العبرية.
رابعا ـ ما كان يمكن لإيران أن تنصاع للتغيير القادم في مصير القضية الفلسطينية وفي مصير طرق التجارة، وبالتالي تهميشها، وهي التي ربطت شرعية ثورتها بفلسطين، واعتبرتها القضية المركزية للجمهورية الإسلامية.
نعم كان من الصعب على طهران أن ترى البساط ينسحب من تحت أقدام محور الممانعة باللعبة الإبراهيمية التي قد تغير وجه المنطقة وخريطة المصالح فيها، فكان "الطوفان" والراجح أنه تم بإشراف إيراني، لكن المفاجأة كانت في حجم العملية وآثارها التي تجاوزت كل الحدود المتوقعة. لعل طهران كانت تتوقع تصعيدا تحت السيطرة يشبه ما سبق، فإذا بها تفاجأ بـ "بيرل هاربر" فلسطيني غيّر كل قواعد الاشتباك. وكان عليها أن ترد على هذه المفاجأة وعلى هذا التغيير.