إذا كانت الموسيقى التي تتهادى إلى سمعي الآن غامضة إلى هذا الحد فكيف تحاول الكتابة أن تشرحها؟ كيف للغة أن تُعرِّفها دون أن يكون هذا التعريف أشبه بتشريح الوردة؟ غير أن السؤال الشعري -لا العلمي- عن معنى الموسيقى وهويتها لا يتوقف... ما هي إذن؟ أهي صفة من صفات الشعر؟ شكل من أشكال الكلام ربما؟ أم هي مزيج من الموجات الصوتية المبثوثة في الهواء المُعطَّر؟ وسرعان ما أهرب من محاولات القبض على تعريف وجداني للموسيقى، وتشخيص ماهيتها راضيا بالكتابة عن حبي لها فحسب، مستسلما للكتابة عن المحبة العميقة للموسيقى الخالية من الكلمات، الموسيقى التي تقول كل شيء دون أن تقول شيئا بعينه، تلك التي نفهمها على اختلاف أذواقنا ونؤولها كالرائحة ونتبعها إلى أعماق الآبار الجوفاء، باحثين فيها عن المعنى الغائب، المعنى الهارب من الكلمات، المفزوع من سطوة اللغة وسلطة الخطاب.
دائمًا ما أتذكر الأفلام والمسلسلات، وحتى الرسوم الكرتونية التي شاهدتها في طفولتي، بالعودة إلى الموسيقى، وكثيرًا ما يحدث العكس؛ أي أن تعيدني موسيقى معينة لأجواء فيلم ما كنت قد شاهدته في الماضي دون أن أتذكر اسمه وأحداثه بالضرورة. وربما يكمن سر هذا الارتباط التشعبي، المتأصل في ذاكرتي بين الموسيقى والأفلام، في حقيقة أنني لم أتعرض منذ البداية لموسيقى مستقلة، فلم أعرف الموسيقى في طفولتي (لأسباب تتعلق غالبا بالنشأة المحافظة) كفن خالص، حتى أن مادة الموسيقى التي بقيتُ أتلقاها في المدرسة لمدة عشر سنوات كانت ضعيفة بحيث لم تطبع فيَّ أي أثر معرفي أو فني أكثر من حفظ درجات السلَّم الموسيقي: دو- ري- مي- فا- صول- لا- سي. لذا بقيت الموسيقى فنا يتسرب وينبثق عن فنين آخرين، هما الغناء والسينما. ومنذ عرفت السينما عرفت معها شغفي بتتبع الموسيقى التي تصاحب مشاهدها. وهذا الشغف بملاحقة الموسيقى التصويرية للأفلام شغف خاص، يحتاج لوحده لكتابة أخرى.
أكتشف مثلا أنني أكتب الآن مسترسلا عن الموسيقى على وقع دقات قلب ملحن الأفلام الهوليودية، الأمريكي الشهير إلمر بيرنشتاين، في موسيقاه التصويرية لفيلم «The deep end of the Ocean». وفي الوقت نفسه أستعيد شيئًا قاله بيرنشتاين عن فيلم «The Magnificent Seven»: «إذا شاهدتَه بدون موسيقى فهو بطيء، وهذا أمر غريب بما فيه الكفاية» ويبدو لي أن رأيًا فنيًا كهذا يوحي، دون أن يقول فعلاً، بأن الحياة عمومًا هي أشبه بالفيلم الطويل الممل حين نجردها من خلفيتها الموسيقية.
وبالحديث عن إلمر بيرنشتاين الذي صادف أن دخلت إلى هذه الكتابة عبر موسيقاه، والذي لا تتوقف روائعه الموسيقية تجدُ مكانًا لها في قائمة استماعي على يوتيوب، أتذكر آخرين من أمثال العبقري البولندي زبيغنيو بريسنر، المؤلف الموسيقي الذي يحتل مكانة خاصة عند عشاق البولندي الآخر كريستوف كيشلوفسكي. وطبعًا، لا يكون الحديث عن هذا الثنائي البولندي إلا حديثًا عن ذلك التداخل الموسيقي السينمائي الساحر في ثلاثية ألوان كيشلوفسكي التي أخرجها في التسعينيات: أزرق وأبيض وأحمر. أما فيلم «الحياة المزدوجة لفيرونيكا» أو «حياة فيرونيكا المزدوجة» على حسب هوى المترجمين وآرائهم، الفيلم الحاصل على جائزة مهرجان كان السينمائي عام 1991، فلا أظن أن لأحد ممن شاهدوه أن ينسى موسيقى بريسنر الجنائزية التي رافقته «موسيقى الجنازة» التي تقول النجمة الفرنسية جولييت بينوش إنها سمعتها في بولندا مع مراسم جنازة كيشلوفسكي.
الأفضال الموسيقية للسينما في تجربتي لا تتوقف، والاكتشافات الموسيقية من خلال السينما تأتي مختلفة دائمًا، مصحوبة بحالة من الحنين الذي يتجاوز الإطار البصري للعمل. لا أنسى أن السينما دلتني على الملحن الفرنسي العظيم موريس جار، بعد مرات ومرات من مشاهدة فيلم «الرسالة» للمخرج السوري الأمريكي مصطفى العقَّاد، الفيلم الذي كانت بعض الفضائيات تعيد عرضه على شاشة التلفزيون مع حلول ذكرى المولد النبوي الشريف. عرفتني السينما المصرية إلى راجح داوود في «أرض الخوف» وإلى الموهبة الفذة والبصيرة الموسيقية الحادة لعمَّار الشريعي، عرفتني إلى عمر خيرت الذي تكلل إعجابي بموسيقاه يوم أن حضرت حفلته الرائعة في دار الأوبيرا بمسقط في فبراير العام الماضي. وعرَّفتني طفلاً، قبل هؤلاء جميعًا، إلى عمر خورشيد في العمل الشهير عن حرب أكتوبر التي نستذكر مآثرها هذه الأيام، فيلم «الرصاصة لا تزال في جيبي».
سالم الرحبي شاعر وكاتب
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الموسیقى التی دون أن
إقرأ أيضاً:
غدا.. تكريم محمد قبلاوي وآدم بكري ضمن فعاليات أيام القاهرة لصناعة السينما
تُعلن أيام القاهرة لصناعة السينما، التي تُقام ضمن أنشطة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته السادسة والأربعين، عن منح جائزة شرفية لكلٍّ من المنتج والمخرج محمد قبلاوي، والفنان الفلسطيني آدم بكري، تقديرًا لمشوارهما الفني وحضورهما السينمائي المؤثر على المستويين العربي والعالمي.
ويُقام التكريم في تمام الساعة 12:00 ظهرًا غدًا الأربعاء 19 نوفمبر، خلال احتفالية خاصة تُقام في فندق سوفيتيل.
*محمد قبلاوي*
منتج ومخرج فلسطيني سويدي، ومؤسس مهرجان مالمو للسينما العربية. يمتلك خبرة واسعة في مجال الأفلام الوثائقية وإدارة المشاريع الثقافية، ويعمل على بناء جسور للحوار بين السينما العربية والأوروبية. وقد حصل على عدة تكريمات، من بينها: جائزة الثقافة لمدينة مالمو لعام 2025، جائزة الصناعات الإبداعية لعام 2023، جائزة شخصية العام في السينما العربية لعام 2022.
*آدم بكري*
وُلد آدم بكري في عائلة مشبعة بحب الفن، ما غذّى شغفه بالتمثيل منذ صغره. نال شهرة عالمية بفضل دوره في فيلم "عمر" المرشّح لجائزة الأوسكار، حيث جسّد شخصية مقاتل فلسطيني شاب في أداء عميق ومؤثر حظي بإشادة واسعة.
وتتميّز أعمال بكري بإخلاصه في تجسيد الشخصيات المركّبة التي تعيش في عوالم عاطفية وسياسية متوترة، مما جعله واحدًا من أبرز وجوه السينما العربية المعاصرة.
*عن "أيام القاهرة لصناعة السينما"*
أُطلقت "أيام القاهرة لصناعة السينما" كمنصّة مخصصة لدعم وتطوير الصناعة السينمائية في العالم العربي وأفريقيا، من خلال توفير فرص التمويل والتدريب والتشبيك بين صُنّاع الأفلام والخبراء الدوليين. تضم الأيام عدة برامج ومحاور رئيسية أبرزها: ملتقى القاهرة السينمائي، منتدى المحترفين، وورش العمل المتخصصة. وقد أصبحت اليوم إحدى أهم الفعاليات المهنية في المنطقة، لما تقدمه من فرص حقيقية لتطوير المشاريع والمواهب الناشئة.
*عن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي*
يُعد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي أحد أعرق المهرجانات في العالم العربي وأفريقيا، وأحد أبرز المهرجانات الدولية المعتمدة من الاتحاد الدولي للمنتجين (FIAPF). تأسس عام 1976، ويقام سنويًا تحت رعاية وزارة الثقافة. يحرص المهرجان في كل دورة على الجمع بين البعد الفني والبعد المهني، ما يجعله منصة رئيسية للحوار بين الثقافات وتعزيز حضور السينما العربية على الساحة الدولية.