فورين أفيرز: لا ضمانات ببقاء الصراع محصوراً في غزة
تاريخ النشر: 20th, October 2023 GMT
حذرت داليا داسا كاي، زميلة بارزة في مركز بيركل للعلاقات الدولية التابع لجامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس، من توسع الصراع بين إسرائيل وحماس ليشمل الشرق الأوسط. وكتبت في مجلة "فورين أفيرز" أن لدى إسرائيل وإيران والولايات المتحدة أسباباً لتجنب حرب موسعة.
فإسرائيل مشغولة بردها العسكري في غزة، ومن المرجح وجود إرادة إيرانية في تجنب صدام محتمل مع الولايات المتحدة، كما أن واشنطن غير مهتمة بنشوب صراع إقليمي مزعزع للاستقرار سيعطل أسواق النفط ويغذي التطرف ويشتت الانتباه عن الحرب في أوكرانيا.ويواجه حزب الله، الحليف الإقليمي الأكثر أهمية لإيران، تحدياته الخاصة في لبنان، حيث قد تؤدي حرب جديدة مع إسرائيل إلى تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية في البلاد. كما أنه ليس للمنطقة على صعيد أوسع مصلحة كبيرة برؤية هذه الحرب تتصاعد.
عن أسباب الحذر عندما ذكرت وسائل إعلام غربية مثل صحيفة وول ستريت جورنال أن إيران "ساعدت في التخطيط" للهجوم، سارع مسؤولو الدفاع الإسرائيليون إلى رفض هذه الادعاءات. وقد تبنى المسؤولون الأمريكيون الخط نفسه إلى حد كبير. عندما سئل في مقابلة عما إذا كانت إيران وراء هجوم حماس، قال بايدن إنه لا يوجد "دليل واضح" على ذلك. ونفت الحكومة الإيرانية أيضاً تورطها المباشر، بالرغم من أن قادة البلاد أشادوا علناً بالهجوم وأعربوا عن تضامنهم مع حماس.
حرب #غزة والعواقب العالمية https://t.co/Og5HJp4mi6 pic.twitter.com/KaAxlJy9bR
— 24.ae (@20fourMedia) October 20, 2023 حتى مع تزايد سخونة الخطابات في مختلف أنحاء المنطقة وارتفاع عدد ضحايا الحرب، ثمة أسباب تدفع للاعتقاد بأن إيران ستستمر بممارسة بعض الحذر. إن القادة الإيرانيين الذين يعانون من تراجع الشرعية المحلية والاقتصاد المتعثر يشعرون بالقلق بشأن بقائهم ولا يريدون المخاطرة بدخول صراع مباشر مع الولايات المتحدة.وكانت النية من إرسال أمريكا حاملتي طائرات إلى الشرق الأوسط منع المزيد من التصعيد عبر توجيه تحذير إلى القادة الإيرانيين من أنه إذا دخلت إيران المعركة فسترد الولايات المتحدة. وأظهر حزب الله، ضبط نفس نسبياً في رده الأولي على الحرب بين إسرائيل وحماس، حيث شن هجمات صغيرة النطاق بدت وكأنها مصممة لتجنب تصعيد خطير.
مع ذلك، وفي الآونة الأخيرة، بدأت الرسائل العامة من قادة إيران تتحول إلى تأييد ضمني للجماعات المسلحة الإقليمية التي قد ترغب في الانضمام إلى الصراع وتركت الباب مفتوحاً أمام التدخل الإيراني المباشر. في الأيام الأخيرة، بدأ حزب الله إطلاق صواريخ مضادة للدبابات أكثر تطوراً على شمال إسرائيل، في اختبار للخطوط الحمراء الإسرائيلية السابقة؛ وردت إسرائيل بضربات مضادة على أهداف في جنوب لبنان.
إن فتح جبهة شمالية جديدة ليس أمراً حتمياً حسب الكاتبة. أولوية إسرائيل الآن هي حملتها على غزة. في الوقت نفسه، قد يكون حزب الله حذراً من توسيع عملياته العسكرية، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن حرباً واسعة النطاق بين حزب الله وإسرائيل يمكن أن تجذب الولايات المتحدة. ويواجه حزب الله ضغوطاً في الداخل أيضاً: لا يزال الشعب اللبناني يشعر بالإحباط إزاء مجموعة من الأزمات الداخلية الخطيرة التي قد يؤدي التدخل العسكري إلى تفاقمها.
بالتالي، إن الأهداف الأساسية لهجمات حزب الله الأخيرة ربما تكون إشارة إلى تضامنه مع حماس وتحويل الموارد عن الجهود الإسرائيلية في غزة، وليس فتحاً لجبهة شمالية. من جانبها، قد لا ترغب إيران في أن يخاطر حزب الله عسكرياً من أجل غزة. إن التهديد بالانتقام من حزب الله هو عنصر حاسم في استراتيجية طهران لردع الهجمات الإسرائيلية الواسعة النطاق التي يمكن أن تعرض بقاء النظام للخطر.
قنبلة موقوتة لكن الطريقة التي تغير بها الحرب الحسابات الأمنية في كل من إيران وإسرائيل تجعل من الممكن أن يندلع نزاع إيراني إسرائيلي مباشر. والواقع أن خطر مثل هذا الصراع كان يتزايد قبل وقت طويل من بدء الحرب. فمع اشتداد حرب الظل بين إسرائيل وإيران في السنوات الأخيرة، توسعت الضربات الإسرائيلية على القوات الوكيلة لإيران في سوريا لتشمل الأصول البحرية والعسكرية الإيرانية خارج إيران وداخلها، بما في ذلك الهجمات الكبيرة على المنشآت النووية الإيرانية.
ويعكس هذا التقدم ما يسمى استراتيجية "الأخطبوط" التي تنتهجها إسرائيل ضد إيران: البدء بعمليات ضد "المجسات"، أو القوات المدعومة من إيران في بلدان أخرى، والتقدم نحو "الرأس" داخل إيران. ومع تبني الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لهذه الاستراتيجية، أصبحت الهجمات الإيرانية على الأهداف التابعة لإسرائيل، بما في ذلك سفن شحن تجارية، أكثر جرأة.
دور إيراني خطير في أزمة #غزة https://t.co/ysppv1FWhL pic.twitter.com/1MUCsu4q7R
— 24.ae (@20fourMedia) October 20, 2023 قبل بدء الحرب الحالية، بدا الجانبان واثقين من قدرتهما على التحكم بالتصعيد. وظلت ردود إيران على استفزازات كل من الولايات المتحدة وإسرائيل مقيدة نسبياً. وفسر القادة الإسرائيليون ضبط النفس هذا على أنه نجاح لهم في ردع إيران عن بدء صراع أوسع نطاقاً. إن افتراضات إسرائيل بشأن إيران تشبه على نحو متزايد افتراضاتها قبل الحرب بشأن حماس في غزة: لقد اعتقدت إسرائيل أنها تستطيع إضعاف قدرات عدوها بشكل دوري من دون المخاطرة بانتقام جدي أو حرب أوسع نطاقاً.وقد وقع القادة الإيرانيون أيضاً في فخ الغطرسة. لقد ازدادت ثقتهم بشكل متزايد بموقع بلدهم الإقليميّ مع تعزيز العلاقات مع روسيا وإصلاح العلاقات مع معظم جيرانهم العرب، كما أن القمع الوحشي للاضطرابات الداخلية بعد موجة من الاحتجاجات في خريف 2022 زاد من ثقة الحكومة بنفسها. وكذلك الحال بالنسبة إلى التقدم الذي أحرز مؤخراً على الجبهة النووية. يُعتقد أن إيران وصلت إلى العتبة النووية بعد انهيار الاتفاق النووي لسنة 2015، ولم يتطلب اتفاق تبادل الأسرى الذي تم التوصل إليه الشهر الماضي مع الولايات المتحدة خفض طهران بشكل كبير برنامجها النووي.
ربما اعتقدت إيران أن قدرات الردع الخاصة بها ستسمح لها باستعراض قوتها في جميع أنحاء المنطقة والحفاظ على وضعها النووي بدون التعرض لرد فعل إسرائيلي كبير. ومن المرجح أن تكون الاحتجاجات الواسعة النطاق ضد حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في الأشهر الأخيرة قد عززت افتراض إيران بأن إسرائيل ضعيفة لن تتحدى استفزازاتها.
واقع أن إسرائيل وإيران اعتقدتا أن لهما اليد العليا كان يقود البلدين إلى طريق محفوف بالمخاطر. تخيل كل جانب أنه يستطيع أن يخدع الآخر بشكل دوري من دون المخاطرة بتصعيد لا يمكن السيطرة عليه. الآن، ربما تكون بعض الحواجز التي تحول دون الصراع الإسرائيلي الإيراني المباشر في طريقها إلى الانهيار.
رمال متحركة هذه النتيجة الكارثية ليست مضمونة وفق الكاتبة، لكن التفكير الحالي لدى كلا الجانبين يمكن أن يدفع الصراع نحو التوسع الخطير بدلاً من ضبط النفس. قد يرى القادة في طهران أن الحرب بين إسرائيل وحماس فرصة لتقليص القدرات الإسرائيلية من خلال شن هجمات بالوكالة من لبنان أو سوريا أو لتشجيع استئناف هجمات الميليشيات على القوات الأمريكية في العراق وسوريا. وربما تكون هذه العمليات جارية بالفعل: ففي 18 أكتوبر (تشرين الأول)، اعترضت الولايات المتحدة طائرات بدون طيار استهدفت قاعدة تتمركز فيها القوات الأمريكية في العراق.
هددت بالتدخل في حرب #غزة واستهداف المصالح الأمريكية.. ماذا نعرف عن الفصائل الموالية لإيران في #العراق؟#فيديو24
لمشاهدة المزيد من الفيديوهات:https://t.co/PnJnhViTKb pic.twitter.com/5PiupHjhY7
قد يتوقع القادة الإيرانيون أن تؤدي أفعالهم إلى رد فعل محدود، بالنظر إلى التحديات التي تواجهها إسرائيل حالياً في غزة. ولكنهم بذلك يستهينون بقدرة إسرائيل وعزمها في أعقاب الهجوم الصادم الذي شنته حماس. لقد توحدت البلاد خلف تصميم مشترك على "الانتصار" في هذه الحرب وإضعاف حماس، حتى مع استمرار غضب العديد من الإسرائيليين من حكومتهم بسبب فشلها في حمايتهم. وإذا كان القادة الإيرانيون يشعرون بالقلق من إمكانية توجه إسرائيل نحو إيران بعد ذلك، فقد يكونون على حق.
أضافت كاي أنه إذا ركزت إسرائيل أنظارها على إيران فقد تقرر ملاحقة رأس الأخطبوط بضربات واسعة النطاق على أهداف حكومية داخل إيران، بما في ذلك مواقع صاروخية ونووية ومواقع مرتبطة بالحرس الثوري. قد يتصور القادة الإسرائيليون أن السبيل الوحيد لاستعادة قوة الردع المحطمة تتلخص في مواجهة إيران بشكل مباشر وعلني. إن الدعم العسكري القوي الذي تعهدت به إدارة بايدن لإسرائيل منذ بدء الحرب الحالية قد يؤدي إلى زيادة ثقة المسؤولين الإسرائيليين في أنهم يستطيعون الاعتماد على الدعم الأمريكي في حال وقوع هجوم على إيران.
هل تسقط حواجز الأمان؟ واقع أن الحرب لم تمتد إلى مختلف أنحاء المنطقة ينبغي ألا يخدع زعماء العالم. في نهاية المطاف، إن الافتراضات الهشة والوهمية التي قامت عليها دينامية إسرائيل وإيران التصعيدية عُرضة للتعطل فجأة بسبب الغضب أو سوء التقدير أو التحولات في الاستراتيجية.
حتى الآن، يبدو أن إدارة بايدن تدرك المخاطر وقد أعطت الأولوية عن حق لاحتواء الحرب بين إسرائيل وحماس في حملتها الدبلوماسية الخاطفة خلال الأسبوع الماضي. وبمساعدة الشركاء الإقليميين، يبدو أن الإدارة تتواصل مع إيران عبر قنوات خلفية. يعد مثل هذا التواصل أمراً بالغ الأهمية لتجنب سوء التقدير.
المشكلة وفق كاي هي أن هذا النزاع لن يظل قابلاً للاحتواء إلا إذا كانت لجميع الأطراف مصلحة في تجنب حرب إقليمية. في الوقت الراهن، يبدو أن هذا الوضع لا يزال قائماً. لكن ليس هناك ما يضمن أنه سيصمد في المستقبل.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة غزة وإسرائيل بین إسرائیل وحماس الولایات المتحدة إسرائیل وإیران حزب الله أن إیران إیران فی إذا کان فی غزة
إقرأ أيضاً:
اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني
اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني
عمر سيد أحمد
[email protected]
مايو 2025
من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد النهب
في السودان، لم يُولد اقتصاد الظل من فراغ، ولم ينشأ على هامش الدولة، بل تكوَّن داخل قلب السلطة، وتحوَّل إلى أداة محورية في يد منظومة مسلحة — تضم الجيش، وجهاز الأمن والمخابرات، والمليشيات — تحالفت لعقود مع منظومات الإسلام السياسي لتثبيت السيطرة على الدولة والمجتمع. ومع تفجّر الثورة، ثم اندلاع الحرب، تكشّف الوجه الحقيقي لهذا الاقتصاد: ليس فقط مصدرًا للثراء غير المشروع، بل وقودًا للحرب، ومنصة لتشويه الوعي، ودرعًا يحمي شبكات السلطة من الانهيار.
اقتصاد بلا دولة… بل ضد الدولة
اقتصاد الظل في السودان لم يعد مجرد أنشطة غير رسمية كما في التعريف التقليدي، بل أصبح منظومة مهيكلة تعمل خارج إطار الدولة، تموّل وتُهرّب وتُصدر وتُجيّش بلا أي رقابة أو مساءلة. يتجلّى هذا الاقتصاد في تهريب الذهب من مناطق النزاع عبر مسارات محمية بالسلاح وعبر الحدود في كلزالاتجاهات وعبر المنفذ المحمي بالنافذين ، وتجارة العملة التي تغذي السوق الموازي بعيدًا عن النظام المصرفي، إلى جانب شبكة من الأنشطة التجارية الخارجية التي تدار لصالح قلة مرتبطة بأجهزة أمنية وشركات استيراد الوقود لطفيلي النظام السابق محمية من السلطة ، وتحويلات مالية غير رسمية تُستخدم في تمويل اقتصاد الحرب.
تشير التقديرات إلى أن ما بين 50% إلى 80% من إنتاج الذهب في السودان يُهرّب خارج القنوات الرسمية. وتُقدّر خسائر السودان من تهريب الذهب خلال العقد الماضي بما لا يقل عن 23 مليار دولار في حدها الأدنى، وقد تصل إلى 36.8 مليار دولار . هذه الأرقام تُظهر حجم الكارثة الاقتصادية التي يمثّلها اقتصاد الظل، ومدى تحوّل الذهب من مورد وطني إلى مصدر تمويل خفي للحرب والنهب.
من العقوبات الاقتصادية إلى السيطرة: نشأة التحالف الخفي
خلال سنوات العقوبات الأميركية، نشأت شبكات بديلة لحركة المال والتجارة، قادها رجال أعمال ومؤسسات أمنية مرتبطة بالنظام. وبدل أن تواجه الدولة الأزمة ببناء بدائل وطنية، فُتحت السوق أمام فئة طفيلية نمت في الظل، وتحوّلت إلى ذراع اقتصادية للسلطة. وحتى بعد رفع العقوبات عام 2020، لم يُفكك هذا الهيكل، بل تعمّق. ومع انقلاب 25 أكتوبر، استعادت هذه الشبكات سيطرتها الكاملة على الأسواق والموارد، لتبدأ مرحلة جديدة: تحويل اقتصاد الظل إلى مصدر تمويل مباشر للحرب.
اقتصاد الريع: الأساس البنيوي لاقتصاد الظل
من أبرز الأسباب البنيوية التي مهدت لتضخم اقتصاد الظل في السودان هي هيمنة اقتصاد الريع، الذي مثّل النمط الغالب منذ الاستقلال. فقد اعتمد السودان تاريخيًا على تصدير المواد الخام دون أي قيمة تصنيعية مضافة، بدءًا من القطن والحبوب الزيتية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مرورًا بالبترول في العقد الأول من الألفية، وانتهاءً بعصر الذهب بعد انفصال الجنوب عام 2011. هذا النمط الريعي جعل الاقتصاد السوداني مرتهنًا للأسواق الخارجية، ومفتقرًا لقاعدة إنتاجية وطنية مستقلة.
في ظل أنظمة شمولية وفساد مؤسسي، لم تُستثمر عائدات هذه الموارد في تنمية مستدامة، بل أعيد توزيعها عبر شبكات محسوبية وزبونية لصالح نخب الحكم والأجهزة الأمنية. وبدل أن يكون اقتصاد الريع رافعة للتنمية، تحوّل إلى بيئة حاضنة لاقتصاد الظل. والمفارقة أن هذا الاقتصاد لم ينشأ في الهوامش كما قد يُظن، بل نشأ وترعرع في المركز، داخل مؤسسات الدولة نفسها، وبتواطؤ من النخبة الحاكمة، التي استخدمته أداة للتمويل غير الرسمي، ولتثبيت سلطتها السياسية والعسكرية.وهكذا، اندمج الريع مع الفساد والعسكرة، وخلق منظومة اقتصادية موازية، لا تقوم على الإنتاج بل على النهب، ولا تخضع للقانون بل تتحصن خلفه..
تجارة السلاح والمخدرات: الوجه المحرّم لاقتصاد الظل
من أخطر أوجه اقتصاد الظل، تورّط المنظومة المسيطرة في تجارة السلاح والمخدرات. فقد انتشرت تقارير موثقة عبر وسائط الإعلام ومنصات التواصل خلال عهد الإنقاذ، حول “كونتينرات المخدرات” التي وصلت البلاد أو عبرت نحو دول الجوار، تحت حماية أو تواطؤ من جهات أمنية. هذه التجارة، وإن ظلت في الظل، شكّلت مصدر تمويل خفي مكمل للحرب، ومنصة لتجنيد المليشيات، ومجالًا لتبييض الأموال وتوسيع سيطرة مراكز النفوذ.
معركة الوعي المُموّلة: الإعلام كسلاح في الحرب ضد المدنية
لا يقتصر دور اقتصاد الظل على تمويل السلاح فقط، بل يُغذي معركة أخرى لا تقل خطورة: معركة السيطرة على الوعي. تُدار هذه الحملة الإعلامية من غرف خارج السودان، في عواصم مثل القاهرة، إسطنبول، دبي، والدوحة، بإشراف إعلاميين من بقايا نظام الإنقاذ وشبكات أمنية وإيديولوجية. وتنتج هذه الغرف محتوى ممولًا على وسائل التواصل الاجتماعي يبرر الحرب، ويشوّه قوى الثورة، ويُجيّش الرأي العام ضد التحول المدني، ويروّج لاستمرار الحرب التي شرّدت الملايين، وقتلت الآلاف، ودمّرت البلاد.
الهدف لا يقتصر على قمع الثورة المسلحة، بل يمتد إلى اغتيال فكرة الدولة المدنية ذاتها. تُصوَّر الديمقراطية كتهديد للاستقرار، وتُقدَّم السلطة العسكرية كخيار وحيد لضمان وحدة البلاد، في تجسيد صريح لعسكرة الدولة والمجتمع.
تفكيك المنظومة: ليس إصلاحًا إداريًا بل صراع طويل
لا يمكن الحديث عن تفكيك اقتصاد الظل في السودان بوصفه مجرّد قرار إداري أو إجراء قانوني، خاصة في ظل حرب مفتوحة، وانهيار مؤسسات الدولة، وسيطرة المنظومة المسلحة على مفاصل الاقتصاد. فهذه المنظومة لا تُفكَّك من خلال الانتصار الحاسم، بل من لحظة تآكل السيطرة المطلقة، حين تبدأ الشروخ في البنية الأمنية والاقتصادية للنظام القائم.
ورغم عسكرة الحياة اليومية، لا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى شلل في الفعل المدني أو استسلام لقوى الأمر الواقع. المطلوب هو العمل من داخل الحرب، لا على هامشها، لصياغة مشروع تحوّل واقعي وجذري. ويبدأ ذلك بخلق وعي جماهيري جديد، يفضح الترابط البنيوي بين السلاح والثروة، ويضع اقتصاد الظل في موضع المساءلة الشعبية والدولية.
يتطلب هذا المسار مراقبة دقيقة للسوق الموازي وتحليل آلياته، تمهيدًا لبلورة سياسات اقتصادية وتشريعات عادلة تعيد تنظيم السوق وتكسر احتكار شبكات التهريب. كما أن توثيق جرائم التهريب، وتجارة المخدرات، ونهب الذهب، لا بد أن يتحول إلى ملفات قانونية وإعلامية قابلة للمساءلة، لا مجرد روايات متداولة.
إلى جانب ذلك، يبرز دور الإعلام البديل والمجتمعي كجبهة مقاومة مستقلة، تتصدى لخطاب التضليل الذي يُنتج خارج البلاد، وتواجه الرواية الرسمية التي تبرر الحرب وتشيطن التحول المدني. هذه المواجهة الإعلامية ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء رأي عام مقاوم ومتماسك.
وأخيرًا، فإن أي محاولة للتغيير لا تكتمل دون بناء شبكات وتحالفات مدنية، تطرح مشروعًا وطنيًا بديلًا يعيد تعريف الدولة، ويفكك الارتباط بين السلطة والثروة، وينقل الاقتصاد من يد المليشيات إلى يد المجتمع. هذا الطريق ليس خطة جاهزة، بل جبهة مفتوحة، تتطلب العمل اليومي، والمبادرة من داخل الشروخ التي فتحتها الحرب، لا انتظار نهايتها.
العمل وسط الحرب: لا وقت للانتظار
ورغم عسكرة الحياة واشتداد المعارك، لا ينبغي أن يكون الواقع ذريعة للتوقف عن الفعل أو الاستسلام للأمر الواقع. بل العكس هو الصحيح؛ المطلوب اليوم هو العمل من داخل الحرب، ومن بين شقوقها، لبناء بدايات جديدة تُمهّد لمسار تحوّل مدني حقيقي. فالتغيير في سياق مثل السودان لا يُنتظر حتى لحظة النصر، بل يُصنع من داخل المعركة، بخطوات واقعية ومدروسة، تستند إلى الفعل الجماهيري والإرادة الجمعية.
أدوات التغيير: من الوعي إلى التنظيم
هذا المسار يتطلب بناء أدوات جديدة، وخلق وعي جماهيري ناقد، يدرك أن المعركة ليست فقط عسكرية أو سياسية، بل أيضًا اقتصادية وثقافية. ويبدأ ذلك بكشف البنية الاقتصادية للمنظومة المسلحة، وفضح العلاقة البنيوية بين السلاح والثروة، بما يتيح خلق ضغط داخلي وخارجي على مراكز النفوذ. كما ينبغي رصد نشاط السوق الموازي وتحليل آلياته، لتجهيزه للمواجهة لاحقًا بسياسات اقتصادية وتشريعات عادلة تفكك احتكارات الظل وتستعيد الاقتصاد لحضن المجتمع.
في الوقت ذاته، يُعد توثيق جرائم التهريب، وتجارة المخدرات، ونهب الذهب، ضرورة لبناء ملفات قانونية وإعلامية يُمكن الرجوع إليها في لحظة المساءلة. وعلى الجانب الإعلامي، لا بد من دعم إعلام بديل، مستقل ومجتمعي، يواجه سرديات التضليل التي تُدار من غرف إعلامية في الخارج، ويقدم خطابًا مقاومًا ينبني على سردية الثورة، لا على خطاب الحرب.
وبالتوازي مع ذلك، يجب العمل على بناء تحالفات مدنية مرنة وواقعية، تطرح مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا بديلاً، يعيد تعريف علاقة الدولة بالمجتمع والموارد، ويفكك ارتباط السلطة بالنهب والاحتكار.
جبهة مفتوحة: بداية لا نهاية
إن ما نواجهه اليوم ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل لحظة تاريخية تتطلب إعادة صياغة المشروع الوطني من جذوره. وهذه ليست خطة جاهزة بقدر ما هي جبهة مفتوحة للتغيير التدريجي، تُصاغ من داخل لحظة الانهيار، لا من خارجها. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في انتظار نهاية الحرب، بل في استثمار التصدعات التي خلقتها، وتحويلها إلى مسارات للمقاومة المدنية، وبدايات جديدة تُبنى فيها دولة ديمقراطية مدنية، عادلة ومنقذة، تعبّر عن طموحات الناس لا عن مصالح النخب المتغولة.
المصادر
1. Global Witness (2019). ‘The Ones Left Behind: Sudan’s Secret Gold Empire.’
2. International Crisis Group (2022). ‘The Militarization of Sudan’s Economy.’
3. Human Rights Watch (2020). ‘Entrenched Impunity: Gold Mining and the Darfur Conflict.’
4. United Nations Panel of Experts on the Sudan (2020–2023). Reports to the Security Council.
5. BBC Arabic & Al Jazeera Investigations (2021–2023). Coverage of Sudan’s illicit trade and media operations.
6. Radio Dabanga (2015–2023). Reports on drug trafficking and corruption during Al-Ingaz regime.
7. Sudan Tribune (2020). ‘Forex crisis and informal currency trading in Sudan.’
الوسوماقتصاد الظل السودان تحالفات الخفاء تمويل الحرب عمر سيد أحمد