صحيفة صدى:
2025-06-27@17:01:32 GMT

احاسيس متقاعد (1-3)

تاريخ النشر: 31st, December 2023 GMT

احاسيس متقاعد (1-3)

قُبِلتُ في الوظيفة في سنّ أقلّ من (20) عاماً، وعند قبولي غمرتني الفرحة مثل غيري من المقبولين، وعند ذلك بدأتُ بتأسيس أحلامي (المليونية) حتى أصبحتُ مثقلاً بمشاريع اكتشفت فيما بعد أن أغلبها خيالية لا يمكن تحويلها إلى حقيقة، فقد كانت مشاريعي أكبر من إمكانياتي، وأكبر من حلم الصين في تحقيقها لطريق الحرير بفرعيه الجنوبي والشمالي.

جاهل ومتهور وأزعم أني طموح وكنت أظنّ أنّ كل شيء بمتناول اليد، وعند أول يوم مباشرة لعملي بعد انتهاء فترة التدريب، كانت الصدمة وبدأت مشاريعي الضخمة تتضاءل تدريجياً، وتقلّ أهميتها عندي بسبب قساوة العمل وعدة عوامل أخرى.

رغم انتقالي من قريتي النائية الهادئة إلى مدينة صاخبة تعج بها حياة مدنية تتطور يوماً بعد يوم إلا أنني أشعر بمرارة الغربة، والحنين إلى قريتي اليافعة، فهي لا تغيب عن مخيّلتي أبداً، ما أقسى لقمة العيش! فقد انتزعتني من بين والديّ وعشيرتي إلى بيئة بعيدة ومختلفة في الثقافة والعادات.

ما زلتُ أتذكّر أول رحلة في الغربة ولحظة الهبوط في مطار تبوك، وركوب(الباص) الذي أوصلنا لمقر العمل، حينها شعرت بانقباض صدري وكآبة استقبلتني عند مدخل سكن (العزاب) الذي كرهته من أول نظرة إليه.

تجاهلت احلامي ومشاريعي، وبدأت تسوّل لي نفسي بترك الوظيفة والبحث عن وظيفة أخرى أكثر دخلاً وأقلّ جهداً، ولكني أدركت أنّ ترك الوظيفة مغامرة بلا ضمان، فلم أحمل مؤهلات علمية عالية تنتشلني من واقعي العصيب، وليس لدي مالاً محترماً أخوض به (دهاليز) التجارة.

نصيبي الليلي من حراسة ثكنات العمل الكئيبة كثيرة ومتكررة، وفي كل حراسة تتعب جفوني من اليقظة والتركيز والمراقبة، ويلامسها النعاس كما يلامس الضباب سودة عسير، وفي كل حراسة ليلية للثكنات فهي نابغية، أسامر النجوم، وأفتش في أفكاري لعلّها تصنع لي مخرجاً ينتشلني من واقعي الكئيب، وأختم ليلي بلا بوادر أمل.

ذات يومٍ رأيت مسئولي المباشر الطيّب الوقور/عبيد الفيفي؛ يراقبني خلسة من بعيد، فاقترب مني وقال لي بلطف: يا ولدي أراك مهموماً ما الذي يشغل بالك؟! فتظاهرت أمامه أني سعيد وخالي من القلاقل، فمن طبيعتي أخفي نقاط ضعفي عن الآخرين قدر الاستطاعة.

فبادرني مباشرة وقال: يا ولدي لقمة العيش صعبة والحفاظ عليها يحتاج إلى صبر، ودع عنك الركون إلى الضعف، فأشار بيده على جموع غفيرة من الزملاء حولنا وقال: انظر لهذه الجموع؛ هل أنت أفضل منهم؟! وزودني بنصائح جميلة ما زالت راسخة بالذاكرة، فكانت كفيلة برفع معنوية روحي شبه المحطَمة.

المصدر: صحيفة صدى

إقرأ أيضاً:

مؤمن الجندي يكتب: أشرف محمود.. الذي علق فأنطق الهوية

في بعض الوجوه تسكن أوطان، وفي بعض الأصوات تنام ذاكرة شعب بأكمله.. هناك وجوه لا تُنسى، لا لأنها لامست الشاشات، بل لأنها لامست القلوب دون استئذان.. أشرف محمود… ليس مجرد اسم لمعلق رياضي، بل حكاية مصرية تمشي على قدمين، رجل حين يتحدث، تسمع في صوته رائحة الشاي على مصطبة الجد في آخر النهار، تسمع أنين أبو الهول وصبر الفلاح، ودفء السلام عليكم من جارٍ لا يغلق بابه.

مؤمن الجندي يكتب: مهما صفق الواقفون مؤمن الجندي يكتب: عندما ينطق الوجه مؤمن الجندي يكتب: أزرار السوشيالجية مؤمن الجندي يكتب: بين العرق والذهب وصمت الكادحين

هو لا يعلّق على المباراة فحسب، بل يُمسك بالميكروفون كمن يُمسك بفرشاة ألوان، يرسم بها مشهدًا حيًّا تنقلك من الملعب إلى الحارة، من الهدف إلى الضحكة المصرية الخجولة، ومن تمريرة سحرية إلى حكمة قالها الأب زمان: "اللي ملوش كبير يشتري له كبير".

تراه فلا تتساءل عن معدنه، هو معدن "ابن البلد" النقي، صادق كالنيل، بسيط كالرغيف، نظيف كضحكة طفل في عز المولد.

أشرف محمود لم يجمّل نفسه، لم يصطنع شخصية، بل اختار أن يكون هو... فقط هو، وفي زمن يتصارع فيه الناس على الأضواء، كان هو الضوء ذاته، ضوءٌ يُشبه عيون أمك حين تدعو لك، ويُشبه نبرة أبيك حين يقول لك: "راجل يا ابني".

هو لا يركض خلف "الترند"، بل يمشي على خطى الكبار، لا يلهث خلف اللقطة، بل يصنعها بهدوء، كالفلاح حين يحرث الأرض.. يعلم أن الخير سيأتي.

أشرف محمود ليس ظاهرة صوتية، بل ظاهرة هوية وطنية.. هو مصر حين تتحدث بعقلها وقلبها ولسانها السمح، أثناء التعليق على المباريات.

في هذا الرجل تتجلى الهوية المصرية بكل ما فيها: بشهامتها، بكرامتها، بخفة ظلها، بجدعنتها، بحكمتها، بلغتها العربية، وبإيمانها العميق أن الأصل هو الأصل.. مهما تبدّلت الأزمان.


قبل النهاية، نحن في زمن امتلأت فيه الشاشات بالتصنع، والمنصات بالتصيد، لكن خرج هذا الصوت المصري الدافئ في بطولة مونديال الأندية، من الميكروفون لا يشبه إلا نفسه.. لا يستعير لهجة، ولا يبالغ في تعبير، ولا يتكلّف حماسة رغم خروجه عن شعوره.. لكنه فجأة! أصبح "تريند"، ولم يكن ذلك لأنه يملك خطة تسويق، أو فريق سوشيال ميديا محترف، أو يسعى خلف "اللايك والشير"، بل لأنه فقط قرر أن يكون كما هو: مصريًا جدًا.. بصوته، بكلماته، بنُكاته، بحماسه، وبهدوئه حين يجب أن يهدأ.

أشرف محمود لم يعلّق على المباريات فحسب، بل منحها طعمًا ولونًا ورائحة.. جعل المتابع يشعر أن المباراة تُلعب في ساحة بيتنا، وأن الهدف ليس مجرد كرة في الشباك، بل حكاية تُروى على القهوة، وضحكة تنطلق من القلب، وعصبية ابن بلد يعرف قيمة اللحظة.

لقد أصبح تريند.. لا لأنه أراد، بل لأن الناس اشتاقت لما يُشبهها.. وأشرف يشبهنا جدًا.

للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا

مقالات مشابهة

  • ثنائي المصري يدخلان قائمة معسكر منتخب مصر 2008
  • بعد العدوان الإسرائيلي الذي طال الجنوب... هكذا علّق وزير العمل
  • الوظيفة العامة
  • الدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي على مبنى التلفزيون الإيراني
  • قصة الممثل المصري المسيحي الذي ألقى خطبة الجمعة على زملائه
  • صن داونز يتعادل مع فلومينينسي ويودّع كأس العالم للأندية
  • التشكيل الرسمي لمباراة صن داونز وفلومينينسي في كأس العالم للأندية
  • مؤمن الجندي يكتب: أشرف محمود.. الذي علق فأنطق الهوية
  • متقاعد الضمان حياك وبياك!!
  • لواء إسرائيلي متقاعد: الحل السياسي فقط سيمنع تطوير إيران قنبلة نووية