موسكو وكييف تتقاذفان الاتهامات في مجلس الأمن بعد تحطم طائرة عسكرية روسية
تاريخ النشر: 26th, January 2024 GMT
مفوض الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين يحذر من خطورة الوضع الإنساني في أوكرانيا -
عواصم "وكالات": تقاذفت روسيا وأوكرانيا الاتّهامات خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي الخميس بعد تحطّم طائرة عسكريّة روسيّة قرب الحدود الأوكرانيّة في اليوم السابق.
وقال نائب السفير الروسي لدى الأمم المتحدة دميتري بوليانسكي الذي طلبت بلاده عقد الاجتماع الطارئ، إنّ "كلّ المعلومات الموجودة في حوزتنا اليوم تظهر أنّنا نتعامل مع جريمة مدبّرة ومدروسة".
وفتحت روسيا أمس تحقيقا بشبهة "الإرهاب" غداة تحطّم الطائرة العسكريّة الروسيّة قرب الحدود مع أوكرانيا، بعدما اتَّهَمت كييف بأنها أسقطت الطائرة التي كانت تقلّ، بحسب السلطات الروسيّة، 65 جنديًا أوكرانيًا أسَرتهم موسكو وكان مُرتقبا أن تتمّ مبادلتهم.
وأكّد بوليانسكي أنّ السلطات الأوكرانيّة "تعرف جيدا الطريق (الجوّي) لنقل الجنود إلى منطقة التبادل".
وهذه ليست أوّل مرّة يتمّ فيها تبادل من هذا النوع، لكن "هذه المرة، ولسبب غير قابل للتفسير، قرّر نظام كييف تخريب الإجراء بأكثر الطُرق وحشيّة"، بحسب بوليانسكي، متّهما الأوكرانيّين بأنّهم "مستعدّون للتضحية بمواطنيهم من أجل المصالح الجيوسياسيّة الغربيّة".
وقال "فقط بفضل بطولة الطيارين الذين حرفوا المسار عن المناطق السكنية في اللحظة الأخيرة، لم يتضرّر أحد على الأرض".
وردّت نائبة السفيرة الأوكرانيّة كريستينا هايوفيشين "أوكرانيا لم تُبلَّغ بعدد المركبات والطرق ووسائل نقل الأسرى. وهذا وحده يمكن أن يمثل عملا متعمدا من جانب روسيا لتعريض حياة السجناء وسلامتهم للخطر".
وشدّدت على أنّ السجناء الروس "نُقِلوا إلى المكان المتّفق عليه وكانوا ينتظرون تبادلهم بأمان. وكان مفترضا أن يوفر الروس المستوى نفسه من الأمن للجنود الأوكرانيين الأسرى".
وتابعت "إذا تأكّدت التقارير التي تُفيد بوجود أسرى حرب أوكرانيّين على متن الطائرة، فسيكون ذلك انتهاكا صارخا آخر للقانون الإنساني الدولي من جانب روسيا، مع أول حالة استخدام لدروع بشرية في الجوّ، لتغطية نقل الصواريخ".
من جانبهم، أصر حلفاء أوكرانيا على أنه لولا الحرب الروسي على أوكرانيا، لما حدث شيء من هذا القبيل.
وقال نائب السفير الأمريكي روبرت وود "تُحاول روسيا بشكل متكرر إلقاء اللوم في هذه الحرب... وكأنها الضحية وليست المعتدي".
من جانبه قال السفير الفرنسي نيكولا دي ريفيير "بدلا من عقد اجتماعات... ينبغي (لروسيا) أن تتحرك .. وتسحب قواتها من الأراضي الأوكرانية"، مشددا على "أهمية إلقاء الضوء على كل هذه الأحداث".
الكرملين ينفي
نفى الكرملين الجمعة تقريرا لوكالة بلومبرج أفاد بأن الرئيس فلاديمير بوتين "يجس نبض" الولايات المتحدة بشأن إمكانية إجراء محادثات حول إنهاء الحرب في أوكرانيا وربما يفكر في التخلي عن مطلبين رئيسيين يتعلقان بالوضع الأمني لأوكرانيا.
وقال تقرير بلومبرج إن بوتين "يختبر الأجواء" بشأن ما إذا كانت واشنطن مستعدة للدخول في محادثات، وأنه تواصل مع الولايات المتحدة عبر قنوات غير مباشرة.
ونقلت بلومبرج عن شخصين مقربين من الكرملين أن بوتين "قد يكون مستعدا للنظر في التخلي عن الإصرار على الوضع المحايد لأوكرانيا وحتى التخلي في نهاية المطاف عن معارضة انضمامها لحلف شمال الأطلسي، وهو ما كان التهديد به مبررا رئيسيا لروسيا للغزو".
وسأل صحفيون المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف عن القصة، وعلى وجه التحديد ما إذا كانت موسكو مستعدة حقا للتخلي عن مطالبها بشأن الحياد وعضوية حلف شمال الأطلسي.
ورد بيسكوف "لا، هذا تقرير خاطئ. إنه لا يتوافق مع الواقع على الإطلاق".
التوصل لاتفاق
ذكر رئيس لاتفيا، ادجارز رينكفيتش، أن زعماء الاتحاد الاوروبي في سبيلهم للتوصل إلى اتفاق الأسبوع المقبل بشأن تقديم مساعدات لأوكرانيا بقيمة حوالي 50 ملياريورو(1ر54 مليار دولار).
وأضاف رئيس لاتقيا أن اتفاق كييف سيشمل اتفاق جميع الدول الأعضاء الـ27 بالاتحاد الأوروبي، أو "آلية مختلفة"، حال عدم التوصل إلى إجماع، حسب وكالة "بلومبرج" للأنباء الجمعة.
وكانت المجر حالت دون تقديم المساعدات خلال اجتماع عقد في بروكسل الشهر الماضي.
ومن المقرر أن يعقد زعماء الاتحاد الأوروبي قمة في الأول من فبراير المقبل لوضع اللمسات الأخيرة للاتفاق.
وقال رئيس لاتفيا في مقابلة بالعاصمة "ريجا"، اليوم "هناك شيئ واحد واضح للغاية- تحتاج أوكرانيا إلى تلك الأموال، يجب أن تحصل اوكرانيا على هذه الأموال ويجب على الاتحاد الأوروبي تقديمها".
وفي حين أعرب الرئيس عن أمله في احتمال التوصل إلى إجماع بين الدول الأعضاء في التكتل الأوروبي، إلا أنه أشار إلى مقترحات أخرى تشمل آلية مراجعة لتقديم الأموال على دفعات، وهو خيار "يمكن التفاوض بشأنه".
خطورة الوضع الإنساني
بعد حوالي عامين من بدء الحرب في أوكرانيا، صنفت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، الوضع الإنساني في أوكرانيا بأنه خطير للغاية وحذرت من أن المعونات تتباطأ.
وقال المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو جراندي، لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) في كييف: "هذه الغارات الجوية تحدث يوميا، لاسيما في مناطق الخطوط الأمامية والمدن. وفي كل مرة، يشنون فيها ضربات جوية، يجلبون بعض الدمار، بشكل أساسي، مما يؤثر على المدنيين".
وأضاف: "بالتالي، صار الكثيرون جدا بلا مأوى، ونازحين".
وأمضى المفوض أسبوعا في زيارة مشروعات معونات في "أوديسا" و"كريفي ريه" و"دنيبرو" و"خاركيف" و"كييف".
وأظهر المجتمع الأوكراني قوة ووحدة منذ الهجوم الروسي، ولكن بعد عامين ، أصبح التوتر واضحا.
وقال جراندي "بدأ المرء يرى تلك التصدعات والخطر، بالطبع إذا تضاءل الدعم الدولي بجميع أشكاله، فإن تلك الصدوع ستكون أكبر".
وأضاف الدبلوماسي الأممي الإيطالي أنه في عامي 2022 و2023، كان يتم تمويل عمل المفوضية ومنظمات معونات أخرى، بشكل جيد، لكن هذا العام، هناك خطر من خفض المعونات.
وتابع بالقول إن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أن هناك 7ر3 مليون شخص، من النازحين داخليا في أوكرانيا و3ر6 مليون لاجئ آخرين في دول أخرى.
تمديد حبس صحفي إميركي
مددت محكمة في موسكو الجمعة لمدة شهرين حتى 30 مارس، الحبس الموقت للصحافي إيفان غيرشكوفيتش الذي يعمل لحساب صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية والموقوف منذ نهاية مارس 2023 في روسيا بشبهة "التجسس" التي رفضها محاموها.
وقال الجهاز الإعلامي في محكمة ليفورتوفسكي في بيان نشر عبر تلغرام "مددت فترة توقيف إيفان غيرشكوفيتش .. لشهرين".
واتخذ القرار في جلسة مغلقة ونشرت المحكمة مقطعا مصورا يظهر فيه الصحفي الأمريكي البالغ 32 عاما مصغيا إلى الحكم الذي تتلوه القاضية وهو مكتوف اليدين في قفص الاتهام.
واقتيد إلى المحكمة في شاحنة بيضاء ورافقه إلى داخل القاعة رجل ملثم وعناصر من الشرطة على ما أفاد مصور لوكالة فرانس برس في المكان.
أوقف إيفان غيرشكوفيتس مراسل "وول ستريت جورنال" الذي سبق أن تعاون مع وكالة فرانس بر في موسكو، من قبل جهاز الأمن الفدرالي الروسي خلال تحقيق كان يجريه في إيكاترنبورغ في منطقة أورال في مارس 2023.
وهو متهم بالتجسس ويواجه احتمال الحكم عليه بالسجن 20 عاما لكنه يرفض هذه الاتهامات على غرار الولايات المتحدة وصحيفته وأوساطه وعائلته.
ا
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی أوکرانیا
إقرأ أيضاً:
عقدة أوكرانيا.. لماذا فشل الغرب في هزيمة روسيا حتى الآن؟
في الساعات الأولى من صباح الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2022، عندما تصاعد الدخان فوق سماء كييف وعبرت الدبابات الروسية الحدود، كان واضحا منذ اللحظات الأولى أن ثمة شيئا خطيرا سوف يتأثر به العالم كله. لم تكن تلك حربًا محدودة على إقليم متنازع عليه، بل كانت في جوهرها إعادة فتح حسابات الجغرافيا السياسية العالمية من قلب أوراسيا، حيث تتقاطع دائما أطماع القوى الكبرى، وتُختبر معادلات القوة.
مثلت الحرب اختبارا حاسما للنظام الدولي الذي وُلد على أنقاض الاتحاد السوفياتي. فمن جانب روسيا؛ لم تكن الحرب إلا محاولة لتصحيح ما تعتبره انكسارًا جيوسياسيًّا أصابها منذ نهاية الحرب الباردة، بعد فقدان مجالها الحيوي في شرق أوروبا. أما أوكرانيا، فتسعى للانفكاك النهائي من جاذبية المدار الروسي، وتحقيق حلم الانتماء الكامل إلى الغرب. وفي المنتصف، تقف الولايات المتحدة وأوروبا، أمام انقسام تاريخي حول تحديد الأولويات وتعريف الضرورات الأمنية لكل منهما.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ترامب والشرع.. ماذا تريد أميركا من سوريا؟list 2 of 2بعد اشتعال سماء السودان.. من ينتصر في حرب المسيرات؟end of listومنذ بداية الحرب؛ راهنت العديد من العواصم الغربية على أن مزيجًا من العقوبات الاقتصادية الصارمة، والدعم العسكري السخي لأوكرانيا، إلى جانب وحدة الموقف في حلف الناتو، سيكون كفيلًا بردع موسكو ودفعها إلى التراجع، أو على الأقل استنزاف قدراتها الإستراتيجية.
إعلانلكن مجريات الحرب، وما تبعها من تحولات ميدانية وسياسية، كشفت عن محدودية هذا الرهان، وأظهرت قصور الغرب عن تحقيق انتصار حاسم. وبعد أكثر من ثلاثة أعوام، أصبح واضحًا أن أسباب هذا الإخفاق لا تقتصر على العوامل العسكرية أو الميدانية، بل تعود إلى منظومة أعمق وأكثر تعقيدًا، تشمل الأبعاد الجيوسياسية والديموغرافية والإستراتيجية.
فرغم الضغوط المتواصلة، أظهرت روسيا قدرة ملحوظة على الصمود والمرونة في التكيف مع حرب طويلة الأمد، في حين واجه الغرب فجوة بين إمكاناته الهائلة وقدرته على تحويلها إلى نتائج ملموسة على الأرض. فما العوامل التي منعت الغرب من تحقيق الانتصار السريع على موسكو؟ ولماذا تدخل الحرب عامها الرابع وسط آمال محدودة في الوصول إلى اتفاقيات جزئية دون الوصول إلى اتفاق يحسم الأسباب الجذرية لاندلاع الحرب؟
بعد أكثر من ثلاثة أعوام من المواجهة الغربية لموسكو؛ تُسيطر روسيا الآن فعليًّا على ما يقارب 20٪ من الأراضي الأوكرانية، بما يشمل شبه جزيرة القرم التي ضمّتها عام 2014، وأغلب أراضي المناطق الأربع: لوغانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا، وخيرسون، التي أعلنت موسكو ضمها بعد بدء الغزو في 2022.
هذه المكاسب الميدانية ترافقت مع تغيّر سياسي لافت، تجسّد في مقاربة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي تتبنى سياسة أكثر براغماتية وأقل حدة، وتُجري مفاوضات مباشرة مع موسكو بهدف وقف الحرب، حتى وإن تطلّب الأمر الإبقاء على المناطق التي خسرتها أوكرانيا تحت السيطرة الروسية.
في بدايتها، بدت الحرب محاولة لاجتياح سريع من جانب روسيا، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى حرب استنزاف طويلة الأمد. وفي هذا النوع من الحروب، يصبح الانتصار مرهونا بعاملين رئيسيين: القدرة على القتال، وإرادة الاستمرار فيه، كما يقول المؤرخ الأميركي المتخصص في الشأن الروسي، ستيفن كوتكين.
ولا تُقاس القدرة على القتال بما تملكه الدولة من دبابات أو مقاتلات أو طائرات مسيّرة فحسب، بل بما تستطيع إنتاجه بشكل مستمر عبر مجمّعها الصناعي، وعدد خطوط إنتاجها، وعمال مصانعها، وتحالفاتها الخارجية.
وقد زادت روسيا ميزانيتها العسكرية إلى أكثر من 6٪ من ناتجها المحلي في 2024، بعد أن كانت 3.9٪، مما يُعد مؤشرًا واضحًا على نيتها مواصلة القتال. كما أمر الرئيس بوتين في سبتمبر/أيلول من العام نفسه بزيادة عدد الجيش بنحو 180 ألف جندي، ليصل إلى 1.5 مليون، وهي التوسعة الكبرى الثالثة له منذ بدء الحرب.
إعلانوعلى عكس الحالة الروسية، يعاني الجانب الأوكراني من هشاشة القدرة على القتال واستنزاف تدريجي في الإرادة القتالية، نظرًا إلى اعتماده المفرط على الإمدادات الغربية. فجُلّ العتاد العسكري الأوكراني مصدره الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وهو ما يجعل قدرة كييف على مواصلة الحرب مرتبطة بشكل مباشر بإرادة الشركاء الغربيين ومدى التزامهم.
لكن هذه الدول، رغم كثافة الإمدادات، لم تُطوّر خطوط إنتاج جديدة كافية لتعويض ما ترسله إلى أوكرانيا. وكانت المخزونات الأوروبية في الأصل محدودة، في حين لا يزال إنتاج الذخائر، وخصوصًا المدفعية منها، يسير بوتيرة أبطأ من وتيرة الاستهلاك في جبهات القتال.
وفي مؤشرات واضحة على هذا الاستنزاف، لجأت الولايات المتحدة إلى استدانة ذخائر من كوريا الجنوبية، رغم القيود الدستورية التي تمنع سول من تصدير الأسلحة إلى مناطق النزاع. كما اضطرّت واشنطن إلى تزويد أوكرانيا بذخائر عنقودية محظورة في الدول الأوروبية، وسبق أن تحفّظت الولايات المتحدة نفسها على استخدامها.
كل ذلك يعكس هشاشة البنية العسكرية الذاتية لأوكرانيا، وعجزها عن مواكبة متطلبات الحرب دون دعم خارجي مباشر. كما يُبرز محدودية الإرادة الغربية في تحويل المعركة إلى مواجهة شاملة وطويلة الأمد، في ظل تزايد الضغط السياسي الداخلي في الغرب، وشعور الناخبين بالإرهاق المالي والعسكري من حرب لا أفق لنهايتها.
الجغرافيا تقاتل مع روسياتُعد روسيا أكبر دولة مساحة في العالم، بامتداد جغرافي يبلغ نحو 17 مليون كيلومتر مربع، مما يمنحها قدرة استثنائية على المناورة الإستراتيجية من أوروبا الشرقية إلى سواحل المحيط الهادي. وهي تتشارك حدودًا برية أو بحرية مع 16 دولة، بعضها من الحلفاء النوويين، وأبرزهم الصين، ثاني أقوى قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، بحدود يصل طولها إلى 4200 كيلومتر، إضافة إلى كوريا الشمالية، ثم إيران التي لا تشترك مع روسيا بحدود برية، لكنها ترتبط بها جغرافيًّا عبر بحر قزوين، وهو امتداد إستراتيجي لا يقل أهمية عن الحدود البرية من الناحية اللوجستية.
إعلانومن ثم فلا يمكن إغفال الدور المحوري الذي أدته الجغرافيا في تعزيز قدرة روسيا على الصمود في وجه الحصار الغربي. فالدول المجاورة لها مباشرة، مثل الصين وكوريا الشمالية ومنغوليا، أو تلك التي ترتبط بها عبر حدود وسيطة، وفّرت لها دعمًا متنوعًا، سواء عبر الإمداد المباشر أو عبر توفير نقاط عبور إستراتيجية، بدوافع تتراوح بين المصالح الذاتية والعداء للغرب. هذا الامتداد الجغرافي الواسع، الذي يشمل قلب أوراسيا، يجعل من المستحيل عمليًّا فرض حصار شامل وفعّال على روسيا.
ورغم أن بعض هذه الدول ليست داعمة لروسيا بشكل كامل، فإن امتناعها عن المشاركة في العقوبات الغربية، واحتفاظها بعلاقات اقتصادية وتجارية مع موسكو، يجعلها فعليًّا "حليفة بحكم الجغرافيا"، وكان التجلي الأبرز لهذا العمق الجغرافي هو مشاركة كوريا الشمالية بأكثر من 10 آلاف مقاتل لإسناد الجيش الروسي في الدفاع عن كورسك.
منذ الأيام الأولى للحرب، خيّم شبح الخوف من التصعيد النووي على كل قرارات الغرب في معايرة الردود الممكنة على موسكو. وعلى الرغم من الإدانات والعقوبات والدعم العسكري الغربي الواسع لكييف، بقيت هناك "خطوط حمراء غير مرئية" تقيّد السلوك الغربي، لمنع وقوع الخطر النووي.
تمتلك روسيا ثاني أكبر ترسانة نووية في العالم، وأكثر من 6 آلاف رأس نووي. ومنذ بداية الحرب، لمّح الرئيس فلاديمير بوتين ومسؤولون روس إلى إمكانية استخدام السلاح النووي في حال "تهديد وجودي". هذا التهديد، وإن لم يكن صريحا، أجبر صناع القرار في واشنطن وبروكسل على التعامل مع موسكو بوصفها قوة ذات "حواجز خطيرة".
وكانت النتيجة: لم تُستهدف المصانع، ولا المنشآت العسكرية العميقة، ولا البنية التحتية داخل روسيا، رغم أنها تمدّ على جبهات القتال. لم تواجه روسيا أي قصف عميق داخل أراضيها كما حصل مع ألمانيا النازية أو صربيا في الحروب السابقة، مما منحها حرية نقل السلاح والجنود بأمان داخل أراضيها، والإنتاج العسكري المستمر في مصانع بعيدة عن الجبهات.
إعلانفي المقابل، لم تتمتع أوكرانيا بهذا العمق الإستراتيجي، حيث كانت بنيتها التحتية هدفا مستمرا للقصف الروسي، مما وضعها في موقع دفاعي دائم.
وإجمالا يمكن القول بأن الخوف من الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع قوة نووية، قيّد خيارات الدول الغربية. فالولايات المتحدة والناتو كلاهما رفضا إقامة منطقة حظر جوي، أو إرسال قوات برية، أو تسليم أوكرانيا صواريخ بعيدة المدى (في بداية الحرب) لضرب العمق الروسي. وحتى حين قدّمت واشنطن لكييف صواريخ طويلة المدى (ATACMS)، فرضت شروطا صارمة بأن لا تُستخدم داخل الأراضي الروسية.
ربما كان توقع التهديد النووي مبالغا فيه، لكن احتمال استخدامه ليس صفرا، ويبدو أن بوتين راهن على أن مجرد التهديد بالغموض النووي كاف لشل إرادة الغرب في بعض الاتجاهات، وقد نجح.
راهنت أوروبا والولايات المتحدة على "سلاح العقوبات" ليكون أداة فعالة تؤدي إلى تدمير الاقتصاد الروسي وإلحاق الهزيمة بموسكو، غير أن الواقع وأرقام الاقتصاد الروسي يرويان حكاية مختلفة تثبت فشلا واسعا لرهانات الغرب، وتكشف الكثير من مواطن الخلل في توظيف ذلك السلاح.
مع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الرابع، ورغم 16 حزمة من العقوبات الغربية، نما الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 4.1 بالمئة في عام 2024، مقارنة بـ 3.6 في المئة في العام السابق له، بعد أن وصل إلى حدود -1.3 في المئة عند بداية الحرب.
ورغم العقوبات الواسعة، نجحت روسيا في التحايل على القيود التجارية عبر بيع النفط بطرق غير رسمية، إلى جانب تصدير النيكل والبلاتين والغاز الطبيعي إلى دول مثل الصين والهند.
وسمحت هذه الإيرادات بتمويل المجهود الحربي وتعزيز الإنفاق الحكومي، رغم ارتفاع التضخم إلى 9.5 في المئة وفوائد الإقراض إلى 21 في المئة لكبح التضخم، كما ذكر تقرير لشبكة "سي إن إن" الأميركية في فبراير/شباط 2025.
إعلانكما استمرت المصانع الروسية في الحصول على المواد الخام والتكنولوجيا اللازمة للإنتاج العسكري، مما مكّن الدولة من مواصلة الحرب دون أزمات مالية كبيرة، بحسب صحيفة الغارديان البريطانية.
في محاولة للحد من الأرباح الروسية من النفط، أعلنت مجموعة السبع أن شركات التأمين والسفن الغربية يمكن استخدامها فقط عند شحن النفط بسعر 60 دولارًا أو أقل. لذلك طورت روسيا شبكة جديدة من السفن من أجل الالتفاف حول القيود ومواصلة الشحن إلى الصين والهند، وفق شبكة "سي إن بي سي" الأميركية.
وبحسب المجلس الأطلسي الذي يتتبع تأثير العقوبات، تنقل روسيا 71 بالمئة من صادراتها من النفط عبر "أسطول شبحي" يجري إخفاء أصول ملكيته. كما أظهرت بيانات "Windward" في سبتمبر/أيلول 2023 أن هناك 1400 سفينة اسُتخدمت لنقل النفط الروسي في تحدٍّ للعقوبات الغربية، والعديد منها يبحر دون تأمين.
وأشار المجلس الأطلسي أيضا إلى أن معظم البنوك الروسية مستمرة في الوصول إلى نظام سويفت (خدمة مراسلة تربط المؤسسات المالية حول العالم) بما يمكنها من إجراء المعاملات الدولية وتسوية المدفوعات العابرة للحدود.
التوجه الأميركي نحو الصين وأولويات أوروبية أخرىخلال العقد الماضي على الأقل؛ اعتُبر احتواء صعود الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادي، والصراع المحتمل حول تايوان، أولويات قصوى للولايات المتحدة. ورغم أن واشنطن دعمت أوكرانيا بشكل واسع عسكريا واقتصاديا، فإن الصراع مع روسيا لم يكن أولوية إستراتيجية أميركية عليا، مقارنة بالملف الصيني، حيث تبرز الصين بمنزلة قوة التحدي الأولى للنظام الدولي بقيادة واشنطن.
وبخلاف كوريا الجنوبية، واليابان، وتايوان (ضمنيا)، ودول الناتو، فإن أوكرانيا لا ترتبط باتفاق دفاعي ملزم مع الولايات المتحدة. لذا فإن الدعم الأميركي لها، رغم أهميته، يظل محدودا بطبيعة المصالح الإستراتيجية الأميركية الأشمل، مما جعله أقرب إلى التضامن السياسي والمساعدات العسكرية المشروطة، وليس التزاما وجوديا.
إعلانوبصرف النظر عن القدرة الاقتصادية والعسكرية الأميركية الهائلة، فإن القيادة السياسية لا يمكنها خوض صراعات كبرى متعددة أو تمويلها في وقت واحد. التصعيد في تايوان، أو مواجهة مباشرة مع الصين، سيكون كل منهما أكثر تعقيدا وأهمية جيوسياسية من الحرب في أوكرانيا، أيا كانت نتائجها. وهذا ما يجعل صنّاع القرار الأميركيين يوازنون بين دعم أوكرانيا، وحشد الإمكانات لكبح نفوذ الصين.
ويبدو أن واشنطن أدركت مؤخرا أن استمرار الحرب الأوكرانية سيكون صراعا مفتوحا يستنزف طاقات الولايات المتحدة ويضعف قدرتها على التركيز على أولوياتها البعيدة المدى، ويُهدد بإيجاد حالة "إرهاق إستراتيجي" داخلي، سياسي وشعبي، قد تؤثر في التزامات واشنطن اتجاه تايوان أو تحالفاتها في آسيا.
وفضلا عن واشنطن؛ ظهرت في بعض الدول مثل ألمانيا، وفرنسا، وهنغاريا، وسلوفاكيا، قوى سياسية تشكك في جدوى استمرار دعم أوكرانيا، كما تصاعدت أصوات من تيارات يمينية وشعبوية تقول: "هذه ليست حربنا"، أو "لماذا نمنح أوكرانيا مليارات الدولارات بينما نعاني داخليًّا؟". وفي المقابل، تدعو دول أخرى، مثل دول البلطيق وبولندا، إلى هزيمة عسكرية واضحة لروسيا، معتبرة أن أية تسوية ستعطي روسيا فرصة لاستعادة نفوذها الإقليمي.
هذا التردد الإستراتيجي والانقسام حول تفسير الحرب وحدود الموقف المفترض، أظهر المعسكر الغربي مؤخرا بصورة المنشق الباحث عن مخرج، وهي صورة بكل الأحوال تغري بوتين في استمرار ممارسة الضغوط العسكرية، واستمرار الضغط على نقطة ضعف ترامب التي يدركها جيدا وهي أنه لا يريد هذه الحرب.
موسكو مستعدة لدفع الأثمان"بدون أوكرانيا، تتوقف روسيا عن أن تكون إمبراطورية"
مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو بريجنسكي في مقال لفورين أفيرز عام 1994
بحسب بريجنسكي ومنظرين آخرين؛ كان استقلال أوكرانيا ضربة قاسية وجهت إلى صميم مكانة موسكو الإمبراطورية، ولا تزال النخبة الأمنية في موسكو منذ ذلك الحين تعتبر استقلال أوكرانيا وضعية شاذة تاريخيا وخطرا يهدد مكانة روسيا بوصفها قوة عظمى.
إعلانومن ثم؛ حين أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا بعد سنوات من بدء زحف الناتو شرقا منذ قمة بوخارست عام 2008 التي فتحت الباب لمناقشة انضمام جورجيا وأوكرانيا للحلف، كان بوتين يدرك أنه يقوم بإعادة تصحيح التاريخ وإيقاف تدهور مكانة الأمة الروسية، ويعني هذا أن سقفا عاليا من الخسائر يمكن تحمله في سبيل هذه المغامرة التاريخية.
على الصعيد الجيوستراتيجي، يرى الإستراتيجيون الروس أوكرانيا منطقة عازلة ضرورية لحماية العمق الروسي من أي اعتداء غربي محتمل. لقد عانت روسيا تاريخيًّا غزوات مدمرة جاءت عبر السهل الأوكراني -من حملة نابليون في القرن التاسع عشر إلى اجتياح هتلر في الحرب العالمية الثانية- ولذلك ترسَّخ في الوعي الإستراتيجي الروسي أن غياب السيطرة أو النفوذ في أوكرانيا يفتح الباب أمام تهديد وجودي لا يمكن تحمله أو التعايش معه.
ورغم أن حلف الناتو لم يكن يخطط فعليًّا لشن حرب على روسيا، فإن منطق الجغرافيا السياسية يفترض دائما التحسب للسيناريو الأسوأ. فبدون أوكرانيا في فلكها، تفقد روسيا عمقها الإستراتيجي، وتتراجع خطوط دفاعها إلى حدودها المباشرة بشكل خطير. في حال التحقت أوكرانيا بحلف الناتو، يمكن لصواريخ الحلف أن تُنْصَب على مسافة لا تزيد على 200 كيلومتر من سان بطرسبرغ.
وإلى جانب الهاجس الأمني، ثمة بُعد تاريخي وهوياتي يحكم نظرة موسكو لأوكرانيا. كثيرًا ما عبّر بوتين وغيره من كبار المسؤولين الروس عن اقتناع مفاده أن الروس والأوكرانيين "شعب واحد" تربطه جذور تاريخية ودينية عميقة، هذه الرؤية لا تعتبر أوكرانيا مجرد دولة جارة، بل تراها مكوّنًا جوهريًّا من "العالم الروسي"، وهي رؤية ثقافية وحضارية ترتكز على ثلاثة أعمدة: روسيا، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا. وفق هذا المنظور، تُعتبر كييف مهد الحضارة السلافية الشرقية، حيث وُلدت "كييف روس" في القرن التاسع الميلادي، ويرى القوميون الروس أنها الجذر التاريخي للدولة الروسية الحديثة.
إعلانهذه الاعتبارات هي التي دفعت بريجنسكي وآخرين منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك أوروبا الشرقية إلى القول بأن بقاء أوكرانيا على الحياد ضرورة لمنع استفزاز روسيا، وأن أي محاولة لضم أوكرانيا للناتو ستمثل ضغوطا هائلة على الوعي القومي والإستراتيجي الروسي لن يمكنه تحملها. لكن لسبب غير مفهوم بدقة؛ وبعد سنوات طويلة من عقلنة محاولات تحجيم موسكو، غامرت الولايات المتحدة والناتو بتجاوز الخطوط الحمراء المستقرة في نظام ما بعد الحرب الباردة، وهي المغامرة التي لم تخرج منها بعد.