السومرية نيوز – منوعات

لطالما كانت التحديات التي تفرضها الكوارث الطبيعية والحروب والأوبئة والتوسع العمراني جزءاً لا يتجزأ من التاريخ البشري. المدن التي كانت يوماً معاقل للحضارة والثقافة، قد تلاشت تحت وطأة هذه الكوارث، تاركةً وراءها أطلالاً تحكي قصصاً عن مَجدها السابق ونضالاتها، لتعتبر بعد ذلك مدن تاريخية لم تعد موجودة في عالمنا.


علماء الآثار، بمساعدة التكنولوجيا الحديثة والدراسات المتقدمة، يكشفون عن أسرار هذه المواقع القديمة، موفرين بذلك نافذة على ماضينا. هذه الأطلال، التي تبدو اليوم هشة ومهجورة، كانت في يوم من الأيام مراكز للحياة والنشاط، تعج بالناس والأسواق والمعابد.

ورغم مرور الزمان على اختفائها وبفضل جهود علماء الآثار عرفنا العديد من المدن التي كانت تزخر بالحياة في فترة من الفترات، والتي كانت تعد معقل التقدم في وقتها، إلا أنها اختفت لأسباب مختلفة سواء أكانت طبيعية أم حربية أم غيرها.

تُقدِّم هذه الأماكن القديمة لمحات عن التاريخ والثقافة والهندسة المعمارية في فتراتها، ولا تزال آثارها تأسر خيال الناس اليوم. وبعد مرور آلاف السنين في المستقبل، تخيل ما سيكتشفه الناس عن كيفية إدارة مجتمعنا وكيف عشنا حياتنا.

كم سيبقى من ثقافتنا المتاحة الآن؟ وهل سيكون لدى الناس في المستقبل أمل في معرفة من نحن؟ الوقت وحده كفيل بالإجابة على هذه الأسئلة.

مدينة الاستجمام الإيطالية والبركان الثائر "بومبي"
حسب موقع World Atlas الكندي تعد مدينة بومبي، التي تقع في قلب كامبانيا الإيطالية، واحدة من أكثر المواقع الأثرية إثارة للإعجاب والفضول في العالم. هذه المدينة، التي أدرجتها اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي عام 1997، كانت في يوم من الأيام موطناً لأكثر من 10 آلاف نسمة.

كانت مومبي تعيش في ازدهار حتى ذلك اليوم المشؤوم في 24 أغسطس/آب سنة 79م، حين انفجر بركان جبل فيزوف، مغطياً المدينة بالكامل تحت طبقات سميكة من الرماد البركاني.

الكارثة التي حلت ببومبي لم تترك أي فرصة لسكانها للهروب أو حتى للتحذير من الدمار الوشيك. الاكتشافات الأثرية في الموقع تحكي قصة مأساوية، حيث تم العثور على السكان كما لو كانوا متجمدين في الزمن، بفضل الحفظ الاستثنائي للرماد والحجر البركاني.

ما يضاف إلى فظاعة الحادثة هو الاكتشاف الأخير لغرفة يُعتقد أنها كانت تؤوي عبيداً، ما زالت مغطاة بالرماد والزجاج البركاني، والتي توفر نظرة عميقة على الحياة اليومية والظروف المعيشية في تلك الفترة.

لفهم أعمق لهذه الظروف، لجأ علماء الآثار إلى إنشاء قوالب من الجبس لتسليط الضوء على العناصر الموجودة داخل الغرف. هذه الطريقة، إلى جانب استخدام التكنولوجيا الحديثة، تسمح بإعادة تصور الحياة في بومبي بطريقة لم يكن ممكناً تخيلها قبل عقود.

الزوار والباحثون يمكنهم الآن التجول في شوارع المدينة القديمة، مستكشفين منازلها، وحماماتها، وأسواقها، في رحلة خلفية في الزمن تعيد إلى الذاكرة مجتمعاً بأكمله توقف فجأة عن الوجود.

مع توسع فهمنا لهذه الفترة من خلال التكنولوجيا والأبحاث المستمرة، تصبح بومبي ليست فقط موقعاً أثرياً يستحق الزيارة، بل أيضاً مركزاً للتعلم والتأمل في هشاشة الحياة البشرية وقوة الطبيعة المتغيرة.

مدينة الحرب الخالدة.. طروادة بتركيا
طروادة، المدينة الأسطورية التي تقع على أرض تركيا الحديثة، تمثل واحدة من أروع النقاط التي تجمع بين التاريخ، والأسطورة، والثقافة الشعبية عبر العصور. تأسست حوالي سنة 3600 قبل الميلاد، وهي تشهد على التداخل الفريد بين الواقع والخيال، حيث ارتبط اسمها ارتباطاً وثيقاً بحرب طروادة، الحدث الذي ألهم العديد من الأعمال الأدبية وأسر الخيال الشعبي لقرون.

قصص هوميروس، "الإلياذة" و"الأوديسة"، لعبت دوراً حيوياً في خلود مصير طروادة المأساوي وأبطالها، مانحةً الحياة لشخصيات وأحداث قد تتجاوز الواقع التاريخي لتنتقل إلى عالم الأساطير. الموقع الأثري لطروادة، بطبقاته الإحدى عشر المذهلة، يكشف عن قصة طويلة الأمد تمتد لأكثر من 4000 عام، متضمناً فترات متعددة من التاريخ البشري والتطور الحضاري.

في عام 1996، قامت الحكومة التركية بإنشاء متنزه وطني تاريخي حول طروادة، في مبادرة لحماية هذا الموقع الأثري القيم وآثاره وبيئته. وجاء افتتاح متحف طروادة في قرية توفيقية عام 2018 ليضيف بُعداً جديداً لتجربة الزوار، حيث يعرض المتحف نحو ألفي قطعة من مجموعته الشاملة التي تزيد عن 40 ألف قطعة أثرية، مقدماً للزائرين فرصة نادرة للغوص في أعماق التاريخ واكتشاف ثروات طروادة الثقافية.

طروادة، سواء أكانت مدينة تاريخية حقيقية أم رمزاً أسطورياً، تظل تراثاً فريداً يحتفظ بسحره وغموضه عبر الزمن. إنها تقف كشاهد على قوة السرد الإنساني وقدرته على تجاوز حدود الزمان والمكان، ممزوجة بين الحقيقة والخيال، وتقدم للعالم لغزاً آسراً يستمر في إلهام الأجيال وجذب علماء الآثار والمؤرخين والسياح على حد سواء لاستكشاف أسرارها وتراثها العريق. أكبر مدينة للإمبراطورية الآشورية.. نينوى بالعراق
نينوى، هذه المدينة العريقة التي تقع في العراق الحديث، كانت في يوم من الأيام قلب الإمبراطورية الآشورية النابض، وتعد من أهم المدن في التاريخ القديم. كأكبر مدينة في العالم قبل انهيار الإمبراطورية الآشورية في عام 612 قبل الميلاد.

كانت نينوى تمثل مركزاً حضارياً وتجارياً رئيسياً يربط بين الشرق والغرب، وقد استفادت من موقعها الاستراتيجي بين البحر المتوسط والمحيط الهندي.

تعكس الحفريات الأثرية التي أجريت في الموقع عظمة نينوى القديمة، حيث كشفت عن قصور ملكية فخمة، ومعابد دينية مهيبة، وتحصينات مدروسة بعناية. كانت هذه التحف الهندسية تزخر بالتماثيل الكبيرة التي تصور التاريخ الغني لبلاد ما بين النهرين، ما يؤكد على القوة والثراء الذي كانت تتمتع به الإمبراطورية.

لم تتوانَ الإمبراطورية الآشورية في إنفاق الثروات لبناء نينوى وجعلها تحفة حضارية، لكن هذه العظمة لم تدم طويلاً. بزوغ نهاية نينوى جاء عندما اقتحمها الميديون والبابليون، مخلفين وراءهم دماراً وخراباً لم يسبق له مثيل.

الهياكل العظمية غير المدفونة التي اكتشفها علماء الآثار تشهد على النهاية المأساوية لسكانها الذين لم يستطيعوا الفرار من الهجوم.

اليوم، يبقى من نينوى القديمة جداران فقط، أحدهما حجري والآخر من الطوب اللبن، يحيطان بما تبقى من الآثار القديمة. هذه الجدران، التي يصل ارتفاعها إلى 10 أمتار وسمكها إلى 14.5 متر، تقف كشاهد على ما كانت عليه هذه المدينة العظيمة.

على الجانب الآخر من نهر دجلة، تقع الموصل، المدينة التي تعتبر الخليفة الحديثة لنينوى. بعدد سكان يتجاوز 3.7 مليون نسمة، تعد الموصل ثاني أكبر مدينة في العراق، وهي موطن لآثار نينوى التي لا تزال تروي قصة الماضي العريق لهذه الأرض.

إن تراث نينوى، الذي يجمع بين العظمة والدمار، يظل شاهداً على تقلبات التاريخ، ويذكرنا بالحضارات التي ساهمت في تشكيل العالم الذي نعرفه اليوم.

عاصمة ملوك الأخمينيين.. مدينة برسبوليس "إيران"
في جنوب غربي إيران، تمثل واحدة من أروع الشواهد على عظمة الحضارة الفارسية القديمة. مدينة برسيبوليس عاصمة الإمبراطورية الأخمينية، التي امتد حكمها من سنة 550 إلى 330 قبل الميلاد، تقف أطلال برسيبوليس شاهدة على التاريخ العريق والفن المعماري المتقن الذي طبع هذه الحقبة.

المباني الضخمة في برسيبوليس، المشيدة من الحجر الرمادي المصقول بدقة بالغة، تعكس مهارة وإبداع العمارة الأخمينية. هذا الحجر، الذي يعطي مظهراً يشبه الرخام، يضفي على الموقع جمالية خاصة تنبض بالحياة من خلال المنحوتات الزخرفية التفصيلية التي تحكي قصة داريوس الأول وعظمته.

داريوس الأول، الذي حكم من سنة 522 إلى 486 قبل الميلاد، اختار برسيبوليس عاصمة للإمبراطورية الفارسية، وأمر ببناء أكبر قصورها فيها.

الاكتشافات الأثرية في الموقع قدمت أكثر من 30 ألف نقش، ما يوفر نافذة فريدة لفهم الحياة السياسية والاجتماعية والدينية في ذلك العصر. برسيبوليس، بموقعها البعيد، بقيت محتجبة عن العالم الخارجي وخاصة اليونانيين حتى غزو الإسكندر الأكبر لآسيا في عام 330 قبل الميلاد.

الإسكندر، في خطوة رمزية للسيطرة على الإمبراطورية الفارسية، استولى على المدينة وأحرق القصر، في حدث يعتبر منعطفاً مهماً في التاريخ القديم.

اليوم، تعد برسيبوليس موقعاً أثرياً يجذب الباحثين والسياح من جميع أنحاء العالم، كما أن بعض القطع الأثرية البارزة من الموقع معروضة في متاحف بارزة في إنجلترا، والولايات المتحدة، وكندا، وفرنسا. هذه القطع تشكل جسوراً ثقافية تسمح بتبادل المعرفة والاحترام المتبادل بين الشعوب، وتروي قصة حضارة فارسية عظيمة استطاعت، عبر الزمن، أن تترك بصماتها الخالدة على صفحات التاريخ.

مدينة الإمبراطورية الرومانية.. ليبتيس ماغنا (لبدة الكبرى)
الجوهرة الأثرية المطلة على ساحل البحر المتوسط في ليبيا، لبدة الكبرى تعد واحدة من أبرز الشواهد على عبق التاريخ الذي يمتد عبر العصور. تم الاعتراف بأهميتها التاريخية والثقافية على الصعيد العالمي بإدراجها ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو في عام 1982، تقديراً لمكانتها كأحد المراكز الحضارية العظيمة التي شهدت العديد من الحقب التاريخية.

أسسها الفينيقيون في القرن السابع قبل الميلاد، وشهدت لبدة الكبرى تطورها كمركز تجاري مهم خلال العصر الروماني، بعد ضمها للإمبراطورية الرومانية إثر الحروب البونيقية. الموقع الاستراتيجي للمدينة على ساحل البحر المتوسط جعل منها نقطة عبور تجارية حيوية بين الشرق والغرب.

في عهد الإمبراطور سيبتيموس سيفيروس، الذي ولد في ليبيا، شهدت لبدة الكبرى عصرها الذهبي. سيفيروس، الذي حكم حوالي عام 193 من الحقبة العامة، استثمر ثروات طائلة في توسعة وتجميل المدينة، ما جعلها واحدة من أروع المدن في العالم القديم.

لكن المجد الروماني لم يدم إلى الأبد، حيث تدهورت أهمية المدينة تدريجياً بسبب التغيرات في طرق التجارة، وفي النهاية، دُمّرت بشكل كبير بسبب تسونامي مدمر في عام 365م. اليوم، تقف آثار لبدة الكبرى كشاهد على ماضٍ عريق، متحدية عوامل الزمن والطبيعة.

بين الأطلال الباقية، يبرز قوس سيبتيموس سيفيروس، وهو معلم بارز يحتفي بالإمبراطور وإنجازاته، وكنيسة سيفيران، والتي تعد من أشهر الأمثلة على العمارة الرومانية. المدرج والسوق يوفران أيضاً للزوار فرصة نادرة للسفر عبر الزمن واستكشاف الحياة اليومية في عصر لبدة الرومانية.

تمثل لبدة الكبرى ليس فقط شاهداً على عظمة الإمبراطورية الرومانية في شمال أفريقيا، ولكن أيضاً تذكيراً بالدورة المتغيرة للحضارات والمدن عبر التاريخ. تعكس الأطلال الرائعة لهذه المدينة التاريخ الغني للمنطقة وتبقى كنزاً للإنسانية تجب المحافظة عليه للأجيال القادمة.

مدينة وسط الصحراء السورية.. تدمر
الواحة الصحراوية التي تشكّل واحدة من أكثر المواقع الأثرية إثارة في العالم، تقع تدمر في قلب الصحراء السورية. كمركز تجاري مزدهر على طول طريق الحرير، لعبت تدمر دوراً حيوياً في التبادل الثقافي والتجاري بين الحضارات القديمة.

تحت حكم الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول الميلادي، شهدت تدمر ازدهاراً لم يسبق له مثيل، ما أتاح الفرصة لإنشاء تحف معمارية مذهلة تظهر الثراء والتنوع الثقافي للمدينة.

معبد بعل، الذي يعد واحداً من أبرز المعالم في تدمر، يمثل تكاملاً رائعاً بين الأديان والثقافات. مخصصاً للإله بعل، إله بلاد ما بين النهرين، تحول هذا المعبد فيما بعد إلى كنيسة مسيحية في العصر البيزنطي، ما يدل على التغيرات الدينية والثقافية التي مرت بها المدينة عبر العصور.

تدمر، بموقعها الفريد بين سلسلتين جبليتين ومواجهتها للصحراء السورية من الجانبين، تقدم منظراً طبيعياً خلاباً يعزز من جمالها الأثري. الأعمدة القائمة لمعبد بعل، التي تعود إلى القرن الأول الميلادي، تقف شامخة حتى اليوم شاهدة على عظمة تدمر القديمة ومرونتها أمام الزمن.

رغم التحديات التي واجهتها، تظل تدمر شاهداً على قدرة الحضارات على الازدهار في أقسى الظروف، وتبقى مثالاً للجمال والعظمة التي يمكن أن تصل إليها البشرية. تمثل الأطلال الرائعة لتدمر دعوة للعالم للتأمل في عظمة الماضي وضرورة الحفاظ على تراثنا الثقافي للأجيال القادمة.

مدن تاريخية لم تعد موجودة في عالمنا.. موهينجو دارو
موهينجو دارو، المدينة القديمة التي تنتمي إلى حضارة وادي السند، تقف اليوم كأطلال أثرية في باكستان، تحكي قصة حضارة عريقة تميزت بتقدمها الهندسي والاجتماعي. تأسست في القرن السادس والعشرين قبل الميلاد، وكانت في زمانها نقطة إشعاع حضاري، تمتعت بنظام تخطيط شبكي للشوارع يظهر مستوىً عالياً من التنظيم الحضري والاجتماعي، وأنظمة صرف صحي متطورة تدل على فهم عميق للصحة العامة.

الهياكل المعمارية متعددة المستويات والمصنوعة من الطوب تعكس معايير معيشية رفيعة ومجتمعاً يتمتع بتنظيم دقيق. الاكتشافات الأثرية، بما في ذلك الفخاريات المصنوعة بدقة والمجوهرات المعقدة والتركيز على طقوس الاستحمام، تقدم نظرة ثاقبة إلى ثقافة قيمت الجمال والنظافة.

تعتبر موهينجو دارو شاهداً على قدرة الإنسان على التكيف والابتكار في مواجهة التحديات البيئية. يُعتقد أن الكوارث الطبيعية والتغيرات في مجاري الأنهار كانت من بين الأسباب التي أدت إلى هجر هذه المدينة العظيمة في القرن التاسع عشر قبل الميلاد.

تصنيف موهينجو دارو كموقع تراث عالمي لليونسكو في عام 1980، جعلها أول مدينة في جنوب آسيا تحصل على هذا الشرف، ما يؤكد على أهميتها العالمية كمركز حضاري قديم. اكتشافها في 1919-1920 فتح الباب أمام العالم لاستكشاف إنجازات وأسرار حضارة ظلت مفقودة لآلاف السنين.

موهينجو دارو، بأطلالها الساحرة، تقدم لنا نافذة على الماضي، تظهر كيف كان يمكن للمجتمعات القديمة أن تبني مدناً ذات بنية تحتية متقدمة وأنظمة اجتماعية معقدة. تبقى هذه المدينة القديمة رمزاً للعبقرية البشرية وتذكيراً بأن حضارات عظيمة كانت تزدهر في أماكن اليوم قد نعتبرها غير مهمة.

أسسها الفينيقيون .. قرطاج تونس
قرطاج، المدينة التي شهدت على عظمة وسقوط حضارات، تقف اليوم كأطلال تختزل آلاف السنين من التاريخ على الساحل الشمالي الشرقي لأفريقيا، ضمن أحضان العاصمة التونسية الحديثة. تأسست في القرن التاسع قبل الميلاد على يد الفينيقيين، كانت قرطاج نقطة محورية في التحكم بالمرور البحري نحو البحر الأبيض المتوسط عبر خليج تونس، مما جعلها مركزًا للقوة والثروة.

الدمار الذي لحق بقرطاج في نهاية الحرب البونيقية الثالثة عام 146 قبل الميلاد لم يكن النهاية، بل كان بداية فصل جديد. إذ أعاد الرومان بناء المدينة بعد مائة عام، لتصبح قرطاج الرومانية، العاصمة الفخورة للإمبراطورية الرومانية في أفريقيا. اليوم، تشهد أطلال أكروبوليس بيرسا، الموانئ البونيقية، المقابر، المدرج، والسيرك، بالإضافة إلى الحمامات، البازيليكا، وصهاريج لامالجا، على العظمة التي كانت لهذه المدينة.

على الرغم من التوسع الحضري الذي شهدته تونس في القرن العشرين، استطاعت أطلال قرطاج الحفاظ على جوهرها التاريخي والأثري، مما يعكس ثراء المدينة الثقافي والحضاري عبر العصور. تم تصنيف قرطاج كموقع تراث عالمي لليونسكو في عام 1979، وهو تقدير يليق بأهميتها الكبيرة كمحور للأحداث التاريخية، وكنقطة التقاء للفنون والثقافات المتنوعة.

زيارة قرطاج اليوم تعد بمثابة رحلة عبر الزمن، حيث يمكن للزوار استكشاف الأطلال الباقية والتأمل في عظمة ما كانت عليه هذه المدينة. تشكل الأطلال الأثرية دعوة لاستكشاف الحياة اليومية، العبادة، والنشاط التجاري الذي شكل جزءًا لا يتجزأ من تاريخ المتوسط. قرطاج، بكل ما تحمله من أسرار الماضي وعظمة الحضارات التي احتضنتها، تظل شاهدة على تدفق الزمن وتغير العصور، محتفظة بقيمتها كجوهرة تاريخية وأثرية لا تقدر بثمن.

أيقونة البحر الأبيض المتوسط .. أفسس
المدينة اليونانية القديمة التي تحولت إلى واحدة من أبرز المراكز الرومانية في شرق البحر الأبيض المتوسط، أفسس التي تقع بالقرب من قرية سلجوق في غرب تركيا، على بعد خطوات من بحر إيجه. مع تأسيسها في القرن العاشر قبل الميلاد، تكشف الحفريات الأثرية عن بدايات الاستيطان البشري في المنطقة منذ 6000 قبل الميلاد، ما يؤكد على الأهمية الطويلة الأمد لأفسس كمركز حضاري.

المدينة لها أهمية خاصة في تاريخ المسيحية؛ فقد عاش فيها الرسول بولس بين عامي 52 و54 ميلادي، حيث نظم نشاطه التبشيري وكتب الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، معالجًا الانشقاقات التي نشأت في الجماعة المسيحية المبكرة. هذا التاريخ الديني يضيف طبقة عميقة من الروحانية إلى أفسس، مما يجعلها نقطة جذب للزوار المهتمين بالتاريخ المسيحي.

على صعيد الهندسة المعمارية، تُعتبر أفسس مثالًا باهرًا للعظمة الهندسية في العالم القديم. كان معبد أرتميس، أحد عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، يقف شامخًا كرمز للثروة والقوة في المدينة. وعلى الرغم من أن القليل جدًا قد بقي منه اليوم، إلا أن الموقع يظل شاهدًا على الماضي العريق لأفسس ويجذب مليوني زائر سنويًا.

توفر أفسس لزوارها الفرصة للتجول بين آثارها المذهلة، والتي تشمل ليس فقط معبد أرتميس ولكن أيضًا الأكروبوليس، الموانئ، المقابر، المدرج، والمنطقة السكنية. كل زاوية في هذا الموقع تحكي قصة عن الحياة اليومية، الدين، والفنون في واحدة من أكثر المدن تطورًا في العالم القديم.

أفسس، بتاريخها الغني ومعالمها الأثرية الفريدة، تقف كموقع لا يُنسى يجسد عبقرية الإنسان في البناء والتنظيم الاجتماعي، مما يجعلها واحدة من أهم وجهات السياحة التاريخية في تركيا والعالم.

سميت على البطل هرقل.. مدينة هيركولانيوم إيطاليا
المدينة الرومانية القديمة التي وقفت ذات يوم على خليج نابولي في كامبانيا بإيطاليا، تمثل هركولانيوم شاهدًا آخر على القوة المدمرة لجبل فيزوف البركاني. سميت المدينة تيمنًا بالبطل الأسطوري هرقل، وقد شاركت مصيرها المأساوي مع مدينة بومبي في العام 79 ميلادي عندما ثار البركان، مخلفًا وراءه مأساة وجمالًا محفوظًا عبر الزمن.

تم إعلان أنقاض هركولانيوم، إلى جانب بومبي وتوري أنونزياتا، كموقع للتراث العالمي لليونسكو في عام 1997، تقديرًا لأهميتها الأثرية والتاريخية الفريدة. الحفريات المبكرة في الموقع قد أشارت إلى أن سكان هركولانيوم ربما تلقوا تحذيرًا مسبقًا، حيث تم اكتشاف عدد قليل من الرفات البشرية في البداية. ومع ذلك، كشفت الاكتشافات اللاحقة في الثمانينيات عن قصة أكثر دراماتيكية، حيث وُجدت هياكل عظمية على الشواطئ القديمة لخليج نابولي، تحكي عن محاولات الفرار اليائسة من الكارثة.

مثل بومبي، ظلت هركولانيوم مخفية تحت الرماد والمواد البركانية لمئات السنين حتى تم اكتشافها بالصدفة، مما أتاح للعالم نظرة نادرة على الحياة في العصر الروماني. عمق الرماد الذي غطى المدينة، والذي وصل في بعض الأماكن إلى 50 قدمًا، ساهم في الحفاظ على الآثار بشكل كامل تقريبًا، موفرًا بذلك فرصة فريدة لاستكشاف المباني، الفسيفساء، الجداريات، والأدوات اليومية التي كانت جزءًا من الحياة اليومية لسكانها.

التنقيب في هركولانيوم مستمر حتى اليوم، مما يعكس الجهود المتواصلة لفهم أعمق لتاريخ هذه المدينة العظيمة والحفاظ عليها للأجيال القادمة. كل اكتشاف جديد يقدم رؤى ثمينة حول العادات، الثقافة، والتقنيات التي شكلت الحياة في عالم البحر المتوسط القديم، مما يجعل هركولانيوم وجهة لا تقدر بثمن للباحثين والسياح على حد سواء، الراغبين في استكشاف عجائب التاريخ الروماني. 

المصدر: السومرية العراقية

كلمات دلالية: فی العالم القدیم الحیاة الیومیة البحر المتوسط علماء الآثار الرومانیة فی قبل المیلاد هذه المدینة عبر العصور فی الموقع عبر الزمن التی کانت الحیاة فی تحکی قصة واحدة من فی القرن على عظمة التی تقع مدینة فی کانت فی

إقرأ أيضاً:

على حافة الغابة البدائية: الحلقة (10)

الفصل الرابع
على حافة الغابة البدائية: الحلقة (10)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الازهري – السودان

*ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الإنساني في علاقتهم بالإنسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للإنسان الأفريقي في الجابون الحالية، اذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.

هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم:
(On the Edge of the Primeval Forest)

**************************
• التعاويذ
بالإضافة إلى خوف السكان المحليين من السموم، هناك أيضاً رهبتهم من قوى الشر الخارقة للطبيعة التي يمكن لشخص أن يمارسها على آخر، فالسكان هنا يعتقدون أن هناك وسائل لاكتساب مثل هذه القوى. وهم موقنون بأن من لديه معرفة بالطقوس الصحيحة يستطيع فعل أي شيء؛ كأن يكون موفقاً دائمأً في رحلات الصيد، كما يمكنه جلب الحظ السيء والمرض والموت لأي شخص يرغب في إيذائه. في الواقع لن يستطيع الأوروبيون فهم مدى الرعب الذي تعيش فيه هذه المخلوقات الآدمية المسكينة الذين يمضون أيامهم في هلعٍ مستمر من الطقوس التي يمكن استخدامها ضدهم. فقط، أولئك الذين عايشوا هذه المأساة من قرب، سيفهمون أنه من أبسط الواجبات على أي إنسان السعي لتوصيل صورة مغايرة عن العالم، لهذه الشعوب البدائية، لتحررها من هذه الخرافات المعذبة. وبهذا الفهم، سيكون لأكبر ملحد دور فعال، لو أوجد نفسه هنا، ليقدم عملاً حقيقياً مفيداً يكمل به المهمة التي جاءت من أجلها هذه البعثات التبشيرية.
يتولد الايمان بالتعاويذ من مخاوف الإنسان البدائي، إذ يرغب هذا الإنسان البدائي في امتلاك تعويذةٍ ما تحميه من الأرواح الشريرة المتواجدة في الطبيعة أومن تلك التي تأتي من الأموات، فضلاً عن اعتقاده بقدرة زملائه من بني البشر على الأتيان بافعال الشر، وهذه الاستراتيجية الدفاعية يعزوها إلى أشياء معينة. لا يعبد هذا الإنسان البدائي التعاويذ، ولكنه ينظر إليها على أنها قطعة صغيرة من الاشياء التي يملكها ويؤمن بانها مفيدة له من خلال قواها الخارقة.
ما الذي يعزز الايمان بالتعاويذة؟ يفترض أن كل ما هو مجهول له – أي الانسان البدايئ - هو قوة سحرية. وتتكون التعاويذ عادة من عدد من الأشياء الصغيرة التي ربما تملأ حقيبة صغيرة أو قرن بقرة، أو صندوقاً؛ ومن بين الأشياء الأكثر استخداماً الريش الأحمر، وصرة صغيرة من التربة الحمراء، ومخالب وأسنان النمر، و... أجراس من أوروبا! أجراس قديمة تعود إلى صفقات التبادل في القرن الثامن عشر!
أنشأ أحد السود مزرعة صغيرة للكاكا،في الجهة المقابلة لمحطة البعثة، وعلق التعويذة التي يتوقع أن تحمي المزرعة في زجاجة قديمة على شجرة. وفي هذه الأيام، يتم وضع التغاويذ القيمة في صناديق من الصفيح لكي لا تتعرض للضرر من قبل النمل الأبيض، الذي لا يمكن لصندوق خشبي أن يوفر الحماية الدائمة من قدراته التخريبية.
هناك تعاويذ كبيرة وأخرى صغيرة. تتضمن التعويذة الكبيرة عادةً قطعة من جمجمة بشرية، ولكن يجب أن تكون من جمجمة شخص قتل خصيصاً لتوفير التعويذة. في الصيف الماضي وعلى مسافة قصيرة أسفل المحطة، قتل رجل كبير في قارب. وتم اكتشاف القاتل، الذي قام بارتكاب الجريمة من أجل الحصول على تعويذة كان يأمل عن طريقها تأمين الوفاء بعقود من أشخاص كانوا مدينين له ببضائع وأموال!
بعد بضعة أسابيع، قمنا بزيارة مشياً على الأقدام في يوم أحد، عبر الغابة إلى بحيرة ديجل، التي تبعد حوالي ساعتين. وفي القرية التي استرحنا بعد الظهر، لم يكن لدى الناس شيء للأكل لأن النساء كنا خائفات لعدة أيام من الخروج إلى حقول الموز. لقد علم الناس أن عدة رجال كانوا يتجولون في تلك المنطقة يريدون قتل شخص ما للحصول على تعويذة. أكدت نساء لامبارين أنهن رأين أولئك الرجال أيضاً بالقرب من أحد الآبار، وكانت المنطقة بأكملها في حالة من الاضطراب لعدة أسابيع.
أنا شخصياً أمتلكت تعويذة. أهم ما فيها قطعتان من جمجمة بشرية، على شكل بيضاوي طويل ومصبوغة بمادة حمراء ملونة. يبدو لي أنهما من العظمين القشريين. كان المالك لهما رجل مريض لعدة أشهر، وكذلك زوجته، وكلاهما كان يعاني من الألم بسبب قلة النوم. سمع الرجل عدة مرات، صوتاً يناديه في منامه. أسّر له الصوت أنهما لن يتمكنا من الشفاء إلا إذا أخذا تعويذة العائلة التي ورثاها، هدية الى السيد هوغ، المبشر في نغومو،ثم يتَِبعان بعدها تعليمات السيد هوغ. أحال السيد هوغ الرجل إليّ، وقدم لي الرجلُ التعويذةَ هديةً. ظل الرجل وزوجته معي عدة أسابيع لتلقي العلاج، وغادرا بعد أن تحسنت صحتهما كثيراً.
هناك اعتقاد راسخ بتواجد قوة سحرية في الجماجم البشرية التي عثر عليها. كانت تلك الجماجم قد خصصت لهذا الغرض، وهي تثبت إيماناً بدائياً بصحة هذا الاعتقاد. لم يمض وقت طويل منذ أن رأيت في مجلة طبية، تأكيداً على أن الحالات المفترضة للفتحات الجراحية، التي تم التعرف عليها، في كثير من الأحيان أثناء حفر وفحص القبور القديمة، لم تكن لعمليات بغرض علاج أورام في الدماغ، أو زوائد نامية، كما كان يفترض، ولكنها ببساطة كانت عمليات جراحية أجريت بغرض الحصول على أشياء لعمل التعاويذ. ويبدو على الأرجح أن كاتب المقال كان على صواب.
وفي كتاب كيث "عصور الإنسان" الصادر من (ويليامز ونورجات، 1915)، ص 21، كانت هناك صورة لجمجمة ما قبل التاريخ فيها ثقب ناتج عن عملية فتح جراحي، يظهر حقيقة أن حوافي الجمجمة كانت مدحرجة، وحالة العظم تظهر كذلك أن الجرح قد تعافى قبل الوفاة.
* * * * *
في الشهور التسعة الأولى من عملي هنا، كان عليّ فحص ما يقرب من ألفي مريض، وأستطيع أن أؤكد أن معظم الأمراض الأوروبية ممثلة هنا؛ كان لدي طفل يعاني من السعال الديكي. لكن لم أر أي حالات سرطان أو التهاب للزائدة الدودية أبداً. يبدو أنها لم تصل بعد إلى السود في إفريقيا الاستوائية. من ناحية أخرى، فإن الحمى تلعب دوراً كبيراً هنا. يوجد في بداية موسم الجفاف، الكثير من العطاس والسعال في الكنيسة في لامبارين مثلما يحدث في إنجلترا في قداس منتصف الليل في ليلة رأس السنة. ويموت العديد من الأطفال بسبب التهاب الجنب غير المعروف.
الليالي هنا أكثر انتعاشاّ وبرودة من الأوقات الأخرى في فصل الجفاف، وبما أن السود لا يملكون أغطية سريرية، فيصيبهم البرد عادة لدرجة أنه يحرمهم النوم، حتى وإن كانت درجة الحرارة بحسب المعايير الأوروبية لا تزال مرتفعة بصورة مقبولة. يظهر الميزان الحراري في الليالي الباردة، على الأقل 68 درجة فهرنهايت، ولكن الرطوبة في الجو تجعل الناس يتعرقون بشكل مستمر في النهار، وتجعلهم حساسين لدرجة أنهم يرتعشون ويتجمدون ليلاً.
أما الأشخاص البيض فيعانون أيضاً وباستمرار من الحمى ونزلات البرد في الرأس، وهناك الكثير من الحقيقة في جملة وجدتها في كتاب عن الطب الاستوائي، على الرغم من أنها بدت آنذاك متناقضة قليلاً تقول : "حيث تكون الشمس حارة، يجب عليك أن تكون أكثر حرصاً من أي مكان آخر على تجنب الحمى." وبالتحديد يكون العيش في المخيم على السواحل الرملية قاتلاً للسكان المحليين عندما يخرجون في رحلاتهم الصيفية للصيد، إذ يموت معظم كبار السن بسبب الالتهاب الرئوي الذي يصابون به في هذه المناسبات.
أما الروماتيزم فشائع هنا أكثر من أوروبا، وكثيراً ما أصادف حالات من مرض النقرس، على الرغم من أن المصابين به لا يمكن أن يقال أنهم قد أصيبوا بسبب النظام الغذائي الفاخر الذي يتبعونه، إذ لا يمكن أبداً اتهامهم بأنهم يتناولون كميات كبيرة من اللحوم، فهم في الواقع يعيشون تقريباً وحصرياً على الموز واليام.
لم أكن أبداًا أصدق بانني سأضطر لعلاج التسمم النيكوتيني المزمن هنا. ففي البداية، لم أستطع أن أفهم ماذا أفعل مع الإمساك الحاد الذي كان ترافقه اضطرابات عصبية ويعالج فقط بواسطة الملينات، ولكن أثناء علاج مسؤول حكومي أسود كان يعاني بشدة، أصبحت أرى بوضوح، عبر المراقبة والتحقيق، أن سوء استخدام التبغ هو سبب العلة. فقد تعافى الرجل بسرعة وأثارت الحالة الكثير من الجدل، حيث كانت معاناته مستمرة لسنوات وكان تقريباً غير قادر على العمل. ومنذ ذلك الوقت، وكلما واجهتني حالة شديدة من الإمساك، أسأل فوراً: "كم رأساً من التبغ تدخن في اليوم؟" وتعرفت في غضون بضعة أسابيع على الأذى الذي يسببه النيكوتين لهؤلاء البشر. وتكثر حالات التسمم بالنيكوتين بصورة أكبر بين النساء. وقد أوضح لي جوزيف أن السبب في ذلك أن السكان المحليين يعانون كثيراً من الأرق، فيدخنون طوال الليل ليخدروا أنفسهم.
يأتي التبغ الى هذه البلاد من أمريكا في شكل أوراق، حيث تشكل كل سبعة أوراق رأساً (رأس التبغ). وهو نبتة شائعة بصورة مرعبة وأيضاً قوية بصورة مرعبة، (إذ هي أقوى بكثير مما يدخنه الأشخاص البيض)، ويحل التبغ محل القطع النقدية الصغيرة في التبادل النقدي بصورة كبير: فعلى سبيل المثال، يمكن أن تشتري بورقة واحدة، تُقدر بنصف بني، اثنين من قطع الأناناس، وتدفع معظم الخدمات المؤقتة بهذه الكيقية. أما إذا كنت تحتاج إلى السفر، فيمكنك استخدام التبغ لشراء الطعام للطاقم، لا المال، لأن ذلك ليس له قيمة في الغابة، ولكن يكفي شراء صندوق من أوراق التبغ، ولمنع الرجال من الاستيلاء على محتوياته الثمينة، فستجعله رهينة تحت مقعدك. وينتقل غليون التخين من فم إلى فم أثناء الرحلة؛ وأي شخص يرغب في السفر بسرعة، ما عليه الا أن يعد طاقمه بورقتي تبغ إضافيتين لكل واحد منهم، فمن المؤكد أنه سيصل أبدر بساعة أو ساعتين مما كان من دون هذا الإغراء.
******************************
• ملاحظة جانبية: الأسنان. العملية الأولى. فرس النهر
تسبب الأسنان أيضاً الكثير من المشاكل للسكان المحليين. يعاني العديد من مرضاي من انكماش اللثة مع تدفقات عصارية (تسمى التهاب اللثة الصديقي) ناتجة عن تراكم الجير. ثم بمرور الوقت، تتخلخل الاسنان ثم تسقط. يبدو أن هذه الحالات تتعافى بشكل أسرع هنا مما هو الحال في أوروبا، حيث يفشل العلاج المعقد في العديد من الأحيان في تحقيق هدفه. حصلت على نتائج ناجحة بالإستخدام المنتظم لمحلول الثيمول الكحولي، لكن يجب أن يكون المريض حذراً من ابتلاع أي قدر من السائل، الذي هو بالطبع سام للغاية..
كان يبدو للسكان أنه من الصعب تصديق أنني قادر على قلع الأسنان التي لم تسقط بعد، لكنهم جميعاً لا يثقون في الملاقط المصقولة! رفض زعيم كان يعاني من ألم في الأسنان أن يوافق على استخدامها الا بعد ان يعود إلى منزله ليستشير زوجاته. ويبدو أن قرار الأسرة كان غير مواتي، حيث لم يظهر مرة أخرى. ومن ناحية أخرى، يطلب مني بعض الأشخاص قلع كل أسنانهم والحصول على أسنان جديدة من أوروبا. حصل بعض علية بعض كبار القوم، عبر المبشرين، على بعض الأطقم المزدوجة فعلياً، "صنعت من قبل لأشخاص بيض"، وأصبحوا الآن موضوع حسد كبير.
• أورام البطن شائعة جداً هنا بين النساء.
تم تحقيق أملي في عدم الاضطرار إلى إجراء أي عملية كبيرة قبل أن يكون القسم الطبي جاهزاً للاستخدام. ففي 15 أغسطس، اضطررت لإجراء عملية على حالة فتاق تم إحضارها في المساء السابق. طلب مني الرجل، وكان اسمه آيندا، إجراء العملية، لأنه، مثل جميع السكان المحليين، كان يعرف جيداً مخاطر حالته. لم يكن هناك وقت لنضيعه. جمعت الأدوات بأسرع ما يمكن. سمح لي السيد كريستول باستخدام غرفة نوم الأولاد كقاعة عمليات؛ وافقت زوجتي على ادارة عملية التخدير، وتولى مبشر دور المساعد. كل شيء حدث بشكل أفضل مما كنا نتوقع، لكنني كنت تقريباً مذهولاً من الثقة الكبيرة التي وضع بها الرجل نفسه على طاولة العمليات.
يقول لي طبيب عسكري يعمل بالداخل، وسيسافر إلى أوروبا في إجازة، إنه يحسدني على المساعدة الممتازة التي حصلت عليها في أول عملية لي على جراحة الفتق! قال إنه قام بعملية بمساعدة سجينين من السكان المحليين، احدهم كان يناوله الأدوات والآخر يتحكم في جرعة الكلوروفورم بالتخمين، وكانوا كلما تحركوا تصدر القيود على أرجلهم أصواتاً مزعجة ؛ ولكنه كان مضطراً للاستعانة بهم لغياب مساعده الدائم بسبب المرض، ولم يكن هناك أحد يمكن أن يحل محله. لم تكن التدابير الوقائية، بالطبع، بعيدة عن الكمال، ولكن المريض تعافى.
كدت بالكاد قد انتهيت من كتابة الفقرات أعلاه هذا العصر في 10 يناير 1914، عندما اضطررت للإسراع إلى الرصيف، فقد وصلت السيدة فور، زوجة المبشر في نغومو، في قارب يعمل بالمحرك. كانت تعاني من نوبة شديدة من الملاريا، وسرعان ما قمت بإعطائها الحقنة العضلية الأولى من الكينين عندما وصل قارب صغير آخر يحمل شاباً كسرت فخذه الأيمن وتمزقت بشكل سيء بواسطة فرس النهر هاجمه في بحيرة سونانج.
كان الشاب في حالة سيئة. كان هو وصديقه قد خرجا معاً للصيد، لكن لم يبعدا كثيراً عن مرسى قريتهما حتى ظهر فرس نهر النهر فجأة وألقى بقاربهما في الهواء. نجا الصديقان، لكن تم مطاردة المريض في الماء من قبل الوحش الغاضب لمدة نصف ساعة، ونجح في النهاية في الوصول إلى الشاطئ، بالرغم من كسر في فخذه. كنت أخشى أن يكون هناك التهاب دموي خطير، لأنهم جلبوه في رحلة بالقارب في الساعة الثانية عشرة، بفخذه المشوه ملفوفاً بقطع قماش متسخة.
لقد واجهت بنفسي فرس النهر، ولكن انتهت المواجهة، لحسن الحظ، بصورة طيبة. ففي مساء خريفي ما، تم استدعائي لزيارة أحد المزارعين، وكان علينا أن نمر بقناة ضيقة بطول خمسين ياردة تتمتع بتيار قوي للغاية للوصول إليه. وخلال رحلة الذهاب رأينا اثنين من أفراس النهر على مسافة منا. وكانت رحلة العودة في الظلام، لأن الليل كان قد حل. نصحنا موظفو المتجر بأن نأخذ مساراً طويلاً لبضع ساعات حتى نتجنب القناة والحيوانات، لكن مجدفي القوارب كانوا متعبين لدرجة أنني لم أطلب منهم مثل هذا الجهد الإضافي.
لقد وصلنا للتو إلى مدخل القناة عندما خرج فرسا النهر من الغوص ثلاثين ياردة قبالتنا تماماً، كان صوتهما صاخباً يبدو وكأن اطفالاً يضخون بوقاً في قارورة ماء، بل كان الصوت أكثر ارتفاعاً . ثبت الطاقم على الفور القارب بالضفة، حيث كان التيار ضعيفاً، وكنا نتقدم ببطء شديد، خطوة بخطوة، وفرسا النهر يرافقاننا، يسبحان على الضفة الأخرى. كانت تجربة رائعة ومثيرة. تعلقت بعض جذوع أشجار النخيل قي منتصف المجرى، كانت ترتفع في الماء وتتمايل وترقص كالقصب؛ وعلى الضفة ارتفعت أشجار الغابة مباشرة كأنها جدار أسود، ثم أضاء القمر الساحر المنظر بأكمله. تنفس جميع من في القارب الصعداء من الخوف وتشجع بعضهم في الكلام بصوتٍ منخفض بينما كان فرسا النهر يخرجان رأسيهما القبيحتين من الماء ويحدقان بغضب عبر اليابسة. خرجنا في ربع ساعة، من القناة وما كدنا ننحدر عبر الذراع الضيق للنهر، حتى سمعنا وراءنا زئير الوداع من فرسي النهر.
لقد أقسمت بأنني في المستقبل لن أكون مبالغاً، إذا اضطررت الى إضافة ساعتين فقط إلى الرحلة، من أجل تجنب هذه الحيوانات المثيرة، ومع ذلك، سأكون متأسفاً وقتها إن لم أكن قادراً للنظر للوراء بمتعة، إلى تلك الدقائق الرائعة، على الرغم من أن التجربة بدت غير مريحة في ذلك الوقت.



aahmedgumaa@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • من بينها جراحة الأورام والكسور.. معلومات عن الطب المصري القديم تصيبك بالذهول
  • رحلة العائلة المقدسة ..مصر كانت الملاذ الآمنً للمسيح وأسرته
  • قرية تتحول إلى مدينة أشباح في بريطانيا بسبب سلوك سكانها.. ماذا فعلوا؟
  • على حافة الغابة البدائية: الحلقة (11)
  • رد جمعية البنوك اليمنية على قرارات مركزي عدن بوقف التعامل مع كبرى البنوك في صنعاء وإلغاء العملة القديمة
  • على حافة الغابة البدائية: الحلقة (10)
  • مدينة الملك عبدالله الرياضية تُضاهي المدن الرياضية العالمية
  • أحياء دبي القديمة..هذا ما يكتشفه الزوار بعيدَا عن السياحة الاعتيادية
  • اتحاد كرة القدم يوضح بشأن بيع تذاكر كلاسيكو العراق: لا علاقة لنا بها
  • اتحاد كرة القدم يوضح بشان بيع تذاكر كلاسيكو العراق: لا علاقة لنا بها