لعله عصف ذهني، بالرغم من الهدف العميق، النبيل والإنساني.

كان ذلك في آخر التسعينيات، حين لفت نظري عنوان لندوة، أو ملف يجري الاستكتاب فيه:

تحرير الماضي من المستقبل وتحرير المستقبل من الماضي

وحين قمت "بجوجلة العبارة، لم أجد إلا هذه العبارة: * تحرير الماضي من المستقبل وتحرير المستقبل من الماضي: بحث مقدم لمعهد جوته، برلين، 1999م.

بحثت عن الأستاذ يوسف العيلة، فوجدته حاضرا بمقالاته الغنية على الفيسبوك، فتابعته، وبعثت له سلامي.

إذن كن ذلك عام 1999، وإذن فقد مر 24 عاما على قراءتي لهذا العنوان، الذي لم يغب عن البال، والذي كان يتجدد مع كل ما له صلة بمضمونه، أكان ذلك يخص النزاعات والحروب، أو أساليب الحياة، بين الماضي والحاضر، أو حتى تفسير الحوادث الشخصية والاجتماعية.

لم أقدم وقتها ملخصا للمشاركة، ولكن على مدار أشهر، كنت أردد العبارة، وزاد ذلك مع اندلاع الانتفاضة الثانية، التي دخلنا فيها مرحلة صعبة من الصراع هنا، على هذه الأرض.

تحرير الماضي من المستقبل وتحرير المستقبل من الماضي..

لعلي، وتسهيلا عليّ، بدأت بالنصف الثاني من العبارة: تحرير المستقبل من الماضي، حيث يمكن فهمها، من باب ألا يلقي الماضي معيقات على العيش معا في المستقبل. ارتحت لهذا الخاطر الإنساني الضروري، العملي والاستراتيجي.

أما تحرير الماضي من المستقبل، فطال تفكيري بها، وفي كل مرة كنت أعمل فكري، حتى إذا كنت أمشي مفكرا بها، همست لنفسي كما فعل أرخميدس: وجدتها!

إنه تحرير دراسة التاريخ من تأثيرات المستقبل. أي دراسة التاريخ بتجرد وموضوعية، لأن ذلك هو من سيضمن استمرار مستقبل إنساني أفضل.

التاريخ إذن!

تحرير الماضي من المستقبل وتحرير المستقبل من الماضي..

ضرورة، وتحد عال، وسؤال وجودي، ومقترح إجابة.

إذا أردنا فهلا تحرير المستقبل من الماضي، فعلينا فعلا أن نحرر الماضي من تحولات المستقبل، وكلما كنا أمينيين وأمينات على المستقبل فعلا، فإننا سنتحرى الصدق، ونستقصي الحقائق في كل ما يتعلق بالماضي-التاريخ، كذلك والحاضر الذي يصير كل يوم ماضيا.

من أهداف تعليم التاريخ، ودراسته هو تحرير الإنسان فعلا، وجعله أكثر قوة، بحيث يضع قدميه على أرض أكثر قوة.

ولعل أصعب أنواع التأريخ والتوثيق، ما يخص ذلك وقت الصراعات، حيث سيشكل ذلك تحديا، وسيصعب على الجيل الحالي المكتوي بنار الآلام مثلا أن يكون محايدا. لكن بالطبع، فإن المحترفين من المؤرخين، سيلتزمون الموضوعية وتحري الصدق: لقومهم وعليهم.

نحن مدعوون جميعا لتوخي الصدق، متذكرين ومتذكرات ما حدث من نتائج الصراعات الدولية والاجتماعية بل والنفسية في كل منّا.

في ظل معرفة الحق والصدق، وفي ظل الهدف السامي المتمثل بتحقيق العدالة، وعيش سلمي للأفراد والجماعات، فإن فهم التاريخ يجب ألا يقود لإطلاق الحكم على البشر الان، حتى ولو كانوا أحفاد طرفي صراع: أحفاد العدو، خصوصا إذا كان الأحفاد قد وعوا ما كان، دون الإغراق في جلد الذات أو الشعور بالذنب، لأن الأفضل هو البحث عن التعاون لتنظيم عيش الناس.

ليتني أتحصّل على أوراق مؤتمر معهد جوته الذي عقد كما يبدو في برلين عام 1999.

وبرلين هذه التي وعينا عليها مقسمة أو الشباب، شهدنا في وقت قريب من شبابنا، موحدة. كان ذلك ونحن طلبة على مقاعد الجامعة، في سنوات الرومانسية العاطفية والسياسية، الأقل تعقيدا، والأكثر قبولا للبشر.

كان سقوط جدار برلين في 9 تشرين الثاني نوفمبر 1989، حيث كان حدثا محوريا في تاريخ العالم الذي شهد سقوط الستار الحديدي. فسقطت الحدود الألمانية الداخلية بعد فترة وجيزة. وتم إعلان انتهاء الحرب الباردة في قمة مالطا بعد ثلاثة أسابيع، وتمت إعادة توحيد ألمانيا خلال العام التالي.

كان الجدار برلين خرسانيا محميًا ومحروسّا يفصل برلين الغربية عن برلين الشرقية وعن المناطق المحيطة ببرلين الغربية في ألمانيا الشرقية، بهدف تحجيم المرور بين برلين الغربية وألمانيا الشرقية. بدأ بناؤه في 13 آب أغسطس 1961، وجرى تحصينه على مدار الزمن، فقد اشتمل على أبراج حراسة موضوعة على طوله، مصحوبة بمنطقة واسعة (عُرفت فيما بعد باسم "شريط الموت") تحتوي على خنادق مضادة للمركبات، ودفاعات أخرى. فتح في 9 نوفمبر 1989 وهدم بعد ذلك بشكل شبه كامل.

وما زال جيلنا يتذكر هدم البرلينيين الجدار الفاصل بين برلين الشرقية والغربية، والذي أدى لعودة ألمانيا دولة موحدة. وعلمنا فيما بعد أن ألمانيا الغربية، كانت قد وضعت ميزانية مالية من سنوات طويلة قبل هدم الجدار، استعدادا لمثل هذا اليوم، بسبب الفجوة الاقتصادية بين البلدين. وعلمت أثناء زيارتنا لكوريا الجنوبية، أنها تضع ميزانية خاصة استعدادا ليوم الوحدة بين الكوريتين.

- .......................؟

- لم أبعد كثيرا!

هنا، وليس فقط من منظورنا كفلسطينيين، بل من منظور أي باحث محايد وموضوعي، حتى لو كان إسرائيليا، فإن الحق واضح جدا، حتى ولو وصلت إسرائيل أوج مجدها العسكري والاقتصادي، المدعومة من معظم الأقوياء في العالم، فإنها دولة لصة ظالمة، سطن وتسطو على أرض الفلسطينيين، وأن كل ما يقال عن تاريخ قديم، إنما هو تاريخ محتلق وغير صحيح، وحتى لو كان كذلك، فإنه قديم، ولا يعني شيئا للأصلانيين للذين يعيشون هنا.

تحرير الماضي من المستقبل وتحرير المستقبل من الماضي..

في جدل حول التاريخ الفلسطيني بمنظورنا، ومنظور الاحتلال، يمكن الاستماع لكل طرف ما يقدمه من سردية تاريخية، تتعلق بالتاريخ القديم، والحديث، ثم يدعى العلماء المختصون، والمؤرخون المجمع على صدقهم، ونزاهة منطلقاتهم، ليدلوا بدلائهم، من الفلسطينيين ومن الإسرائيليين، ومن آخرين موضوعيين، حتى نفهم معا ما كان فعلا، ثم لنعرف ما كان حديثا، بدءا بالمشروع الصهيوني، ووعد بلفور، وتهجير اليهود إلى فلسطين، وما كان ويكون من صراع.

إن النتاجات التاريخية الأمينة والمجمع عليها، تقصّر الطريق بهدف إحداث تحولات لدى الأجيال، في ظل أن الجيل الجديد أخلاقيا لا يتحمل وزر ما كان، لكن عليه مسؤولية تحمل مسؤولية ما يكون باتجاه عودة الحقوق لأصحابها. وخلال هذا كله، يجب وقف تدخلات صناع القرار العسكريين والأيديولوجيين الذي ينفون وجود الآخر.

وهكذا، فإننا سنحرر المستقبل من الماضي، في الوقت الذي نكون قد ضمنا بأمانة ومسؤولية سرد ما كان بشكل موضوعي، حتى لا يأتي أحد ليغيّر الرواية الحقيقية، لأن الصدق هو ما سيضمن تجنيبنا جميعا أية ويلات قادمة.

ما نحتاجه فعلا جميعا هنا: حسن النوايا، وصدق المثل الشعبي الفلسطيني: "صفّي النية وبات في البرية".

تلك هي مسؤوليتنا نحملها بنبل رغم ما بنا من جراح.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ما کان

إقرأ أيضاً:

ماسك يعد المكفوفين باستعادة بصرهم خلال عام واحد!

الولايات المتحدة – أكد رجل الأعمال الأمريكي إيلون ماسك، إن شركته “نيورالينك” تسعى لزرع شريحة دماغية ستمكن المكفوفين من استعادة بصرهم خلال العام المقبل.

وفي حديثه لقناة “فوكس نيوز”، أوضح ماسك أن الشركة تعمل على تطوير جهاز يدعى “Blindsight” مصمم لمساعدة المكفوفين، بما في ذلك أولئك الذين ولدوا بدون حاسة البصر.

ويعمل الجهاز من خلال التفاعل المباشر مع القشرة البصرية في الدماغ، مما يمنح المستخدمين إدراكا بصريا.

وأعرب عن ثقته بأن أول عملية زرع للجهاز ستجري قبل نهاية العام الجاري، قائلا: “أنا واثق من أننا سنتمكن من تحقيق هذا الهدف خلال الـ12 شهراً القادمة”.

ولم يقتصر طموح ماسك على استعادة البصر، بل أكد أن تقنيات “نيورالينك” قد تمهد الطريق في المستقبل لمساعدة المصابين بشلل الحبل الشوكي على استعادة القدرة على المشي.

وتأسست الشركة في عام 2016 بهدف تطوير واجهات بين الدماغ والحاسوب، وتركز على تمكين البشر من التفاعل مع التكنولوجيا عبر الأفكار مباشرة، مما قد يفتح آفاقا جديدة في مواجهة تطورات الذكاء الاصطناعي.

وشهدت “نيورالينك” سلسلة من النجاحات في هذا المجال، حيث أجرت أول زراعة للشريحة “Telepathy” في يناير 2024 لمريض مشلول، مكنته من التحكم في الحاسوب عبر أفكاره.

وتلاه عمليتان أخريان في أغسطس 2024 ويناير 2025، مما يعزز الآمال في إمكانية توسيع نطاق هذه التقنية لعلاج المزيد من الحالات الطبية المعقدة في المستقبل.

المصدر: Fox News

مقالات مشابهة

  • بين لعنات الماضي وخيارات المستقبل: لماذا يغضبكم مشروع التأسيس؟
  • برلين تعلن رفضها خطة احتلال غزة.. ملك للفلسطينيين
  • صحة المنيا: المرور على 778 منشأة غذائية وتحرير 528 محضرًا للمخالفات
  • الخصاونة يصر أنّ أجمل أيامنا لم تأتِ بعد.. وهجرة الشباب ليست تمرداً
  • برلين.. إصابة 13 شخصا بينهم 4 حالات خطيرة بعد رش غاز مهيج خلال حفل
  • ضبط نصف طن لحوم غير صالحة وتحرير 484 محضر بحملات تموينية على المخابز والأسواق في أسيوط
  • ماسك يعد المكفوفين باستعادة بصرهم خلال عام واحد!
  • بعد تأهيله.. كهف جارستين في دهوك يسرق أنظار محبي التاريخ (صور)
  • «كهرباء الشارقة» تشارك بمؤتمر عالمي في برلين
  • أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا