خالد الشناوي يكتب: في قاهرة المعز "عائشة بنت جعفر الصادق"
تاريخ النشر: 4th, March 2024 GMT
يقول الروائي الكبير جمال الغيطاني:فى السعى إلى مراقد أهل البيت فى القاهرة، نمر بشوارع تفيض بالحياة، ويتدفق عبرها البشر فكأنهم يستأنسون بهم، ويطوفون باستمرار حول مراقدهم الشريفة الطاهرة ومن هذه المراقد مرقد السيدة عائشة، اسم إذا سمعه الإنسان تتداعى إلى ذهنه معان عديدة، فهى من بيت النبوة، وأيضا اسم لمسجد شهير.
يطالعنا مسجدها وتطاول مئذنته مآذن أخرى قريبة مثل، السلطان حسن والرفاعي، وابن طولون، وشيخون، ومآذن مسجد محمد على التى تقوم فوق القلعة وتشكل خلفية للقاهرة القديمة والحديثة .
على الطرف الآخر وفي الجوار والمواجهة ترى قباب الخلفاء العباسيين، وأضرحة الأمراء المماليك.
لذلك فإن الساعى إلى مراقد آل البيت فى هذا المسار لا يرى فقط أضرحتهم الطاهرة، إنما سيمر بأغنى منطقة فى مصر مزدحمة وثرية بالآثار الإسلامية من مختلف العصور.. أينما اتجه البصر لا بد أن يقع على قبة منقوشة، أو مئذنة رشيقة التكوين، أو آيات بينات محفورة بخط لا نظير له على الجدران أو ابيات من الشعر العربي الأصيل مثلما كتب على مرقد السيدة عائشة هذا البيت الشهير الذي يحفظه ويترنم به زوارها جيلا بعد جيل:
بمقام عائشة المقاصد أرخت
سل بنت جعفر الوجيه الصادق
نتوقف أمام مسجد السيدة عائشة، نتأهب للدخول إلى فضائه الجميل، المهدئ للنفس.. الباعث على الطمأنينة والأمن الروحى.. تلك سمات تميز كل مراقد آل البيت فى مصر، ولذلك ستلحظ العين وجوه مريدين جاؤوا من شتى الأماكن. من الريف و من الحضر، يسعون لزيارة هذا المرقد الشريف ... فمن صاحبته؟وما هي حكايتها؟
هي السيدة عائشة بنت جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن مولانا الإمام الحسين .
ولدت في عام ١٢٢ هجرية وانتقلت إلى الرفيق الأعلى في عام ١٤٥ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام .
ينتهي نسبها إلى البيت النبوي الشريف فهي من القوم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .
أبيها/الإمام جعفر الصادق أحد ائمه أهل البيت عليهم السلام وبلغ من علمه وفقهه أن تتلمذ على يديه الإمام ابو حنيفه النعمان_إمام المذهب_ ولازمه سنتان وقال الإمام أبو حنيفه قولته الشهيره متحدثا بفضل ذلك وبفضل ملازمته للإمام جعفر الصادق(لولا سنتان لهلك النعمان)!
وقد أثنى عليه الإمام مالك إمام دار الهجرة فقال:(ما رأت عين ولا سمعـت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً).
وقد رفض الإمام جعفر الصادق أن يتولى الخلافة بعد سقوط الدولة الأموية .
وبتصفح بطون الكتب نرى أن السيدة عائشة هي أخت أمير وزوجة أمير فأخوها إسحاق المؤتمن والي المدينة المنورة وأميرها وهو في ذات الوقت زوج كريمة الدارين سيدتنا السيدة نفيسة رضي الله عنها .
وزوجها هو عمر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر بن الخطاب وكان هو الآخر والي المدينة المنورة وأميرها رضي الله عنه .
ورغم ذلك فهناك قول يذهب إلى أنها لم تتزوج .
كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تلازم أبيها جعفر طوال حياتها؛ لذا اتسمت بجميع صفاته، واكتسبت منه العلم فهى من أكثر السيدات في عصرها زهدًا وفقهًا؛ حيث كانت تشارك أبيها الجلسات الأدبية التي كان يرتادها .
كان الصراع مشتعلا بين العباسيين أحفاد العباس والعلويين أحفاد الإمام علي حول الخلافة إلى أن كان التمرد الأكبر والأخطر الذى حدث على يد «أبومسلم الخراسانى» فى عهد «أبوجعفر المنصور» الخليفة العباسي وقد التف حوله آلاف المناصرين لحق الفرع العلوى من بيت النبوة فى الحكم ولم يجد «المنصور» بداً من المرواغة فاستدرج الخراساني إلى قصر الحكم بعيداً عن مناصريه، واغتاله، وألقى بجثته فى ماء دجلة!
بعد مقتل «الخراسانى» بترت الذراع العسكرية التى كانت تنافح عن أحقية بني علي وبدأت رحلة اضطهاد أخرى لأحفاد الإمام على بن أبى طالب!
فى ظل هذه الغيوم المانعة للرؤية انسحب الإمام جعفر الصادق من العمل السياسى وتفرغ للمدرسة الفقهية، وبرع فيها أيما تميز، سواء على مستوى علوم الدين أو علوم الدنيا، وأسس مذهبه الفقهي الشهير .
لكن الحياة كطبيعتها لم تخل من منغصات ومطاردات وفتن كبيرة حلت بالبيت العلوي الشريف حيث تربص بهم المتربصين وسعوا في الكيد لهم والوشاية بهم لدى أبو جعفر المنصور فساقت كل هذه الأحداث السيدة عائشة، رضى الله عنها، إلى الهجرة إلى مصر، فعاشت بها عدة أشهر، ثم توفاها الله، واحتضنها تراب المحروسة .
وكأن مصر أعدت منذ القدم لاستقبال واحتواء الثلة المباركة من آل بيت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لحكمة يعلمها الله جل في علاه .
إن نزول هؤلاء الأطهار في هذا البلد العامر وتمركزهم بقبابهم المنيرة وقوة جذبهم الروحانية بأفئدة من الناس تهوي إليهم لدليل على أن مصر بهم محفوظة وما سميت محروسة إلا بهم .
كيف لا وهم المجد الخالد والكتاب الناطق والاسم المحبب لسيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فهم بذلك العنوان المضئ والأسوة الحسنة لكل نفس أحبت الرسول الكريم وسارت على دربه وهداه .
وستظل ديار هؤلاء القوم قبلة كل باحث عن الحقيقة ووجهة كل سائر نحو الحق والفضيلة إلى أن يرث الله الأرض عليها وهو خير الوارثين .
نلاحظ أن حكاية السيدة عائشة فى مصر تشبه حكاية السيدة زينب بنت على، إذ لم تكمل العام بالبلاد حتى وافتها المنية، وقوبلت عند وصولها بما تعوّد عليه المصريون من احتفاء وابتهاج بأهل البيت عليهم السلام .
فإليها ينسب الحي الشهير بقاهرة المعز لدين الله الفاطمي(حي السيدة عائشة) .
عاشت في مصر عشرة أشهر و توفيت وعمرها ٢٢ عاما و سميت بعروس آل البيت .
وتمر الأيام وتدور دورتها ويأمر صلاح الدين الأيوبي ببناء مدرسة ومسجد بجوار ضريحها ثم أمر بأن يكون لها بابا مفتوحاً في سور القاهرة العظيم والذي بناه حفاظا على مصر من الهجمات الصليبية.
لقد عرفت مصر لذرية النبي حقهم حبا كبيرا واجلالا وتقديراً منذ أن دخلت السيدة زينب رضي الله عنها البلاد من أبواب بلبيس الشرقيه يستقبلها أهل مصر يتقدمهم والي البلاد مسلمة بن مخلد الأنصاري حافي القدمين .
حتى أن حكام مصر عبر العصور تراهم يتناوبون على الإهتمام بهم وبمراقدهم ليقينهم التام أن هؤلاء هم معصم قوى البلاد الروحانية ونقطة ارتكاز الوسطية وتلاقي النورانية بين الأرض والسماء .
وأخيرا وليس هذا بالآخر ما أجمل هذه المناجاة التي أثرت عن مترجمتنا رضي الله عنها في قولها للحق جل في علاه في مقام الحب والدلال:(وعزتك وجلالتك لئن عذبتني بعد هذا الحب الذي أحببته لك لآخذن توحيدي بيدي ولأطوفن به على أهل النار وأقول لهم اشهدوا،وحدته فعذبني)!
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: رضی الله عنها السیدة عائشة
إقرأ أيضاً:
أحمد عاطف آدم يكتب: العدو الشرس والصديق الحميم
فصل الشتاء حلبة المصارعة المفضلة التي ينتظرها ألد عدوين لبعضهما البعض: أحدهما صديق حميم لجسم الإنسان، والآخر من أشرِّ وأفتك الخصوم إذا تمكَّن وسيطر. أما الصديق فهو جهاز المناعة، والعدو فهي الفيروسات التنفسية التي تنشط بشدة في الفصل القارس. هذا الصراع الأزلي، الذي يستمر حتى قيام الساعة، له أدواته التي أبدع الله في فرضها وجعل الإنسان طرفًا فاعلًا يلعب دورًا فارقًا فيها، إما لصالحه أو ضده.
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة السجدة، بسم الله الرحمن الرحيم: "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" صدق الله العظيم. والآية الكريمة تنقسم في تفسيرها إلى جزأين: الأول هو "الَّذِي أَحْسَنَ"، أي أتقن وأبدع صنعه، وصبغه بصبغة الكمال الإلهي. والجزء الثاني من الآية هو "كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ"، ويعبر عن الإعجاز في الشمول والتفرد لخالق الكون، بما فيه من أصغر الذرات إلى أضخم المجرات، ومن الكائنات الحية إلى الأنظمة الجامدة... إلخ. وفي سياق هذا الإعجاز، فإن الله المبدع العظيم جعل للفيروسات – وهي من أدق مخلوقاته – استراتيجية تمويهية للخداع تكمن في شفرتها الجينية، كما منح لجهاز المناعة البشري المعقد في تركيبه، سر فك شفرة بعض تلك الفيروسات الفتاكة، عبر آلية الإعدام والتذكر التي يقوم عليها المصل (اللقاح). وهو إما فيروس مُضعف، أو جزء من الفيروس (مثل البروتين الشوكي) أو حتى مقتول، أي حكم الله عليه بالإعدام ثم سلَّمه لجهاز المناعة بعلم نافع، ليتعرف عليه ويحتفظ بنسخة منه في ذاكرته، حتى وإن عاد للهجوم من هم على شاكلته من الفيروسات ويحملون بصمته، يتم القضاء عليهم في هدوء بلا أي إزعاج أو ضرر يُذكر.
ومما لا شك فيه أن تلك الملحمة الإعجازية من الإحسان الإلهي المُلهم لجهاز مناعتنا، تُلقي على عاتقنا مسؤولية الحفاظ على استدامة القدرة القتالية لهذا الجهاز العجيب المدجج بذاكرة فتاكة ضد الفيروسات، لكنه يحتاج إلى طعام صحي يعمل كعتاد بيولوجي مُدعِّم له. ففي خضم معركتنا الشتوية مع الأمراض، يصبح غذاؤنا هو خط الدفاع الأول، خاصةً وأن نقص بعض العناصر الغذائية الأساسية كالزنك وفيتامينات (D) و (C) يقلل من كفاءة الخلايا المناعية، ويوجه ضربة قاضية للاستجابة الدفاعية لأجسامنا.
فبينما يُعد الزنك، المتوفر بكثرة في اللحوم الحمراء والبقوليات، عنصرًا محوريًا لنمو وتطور الخلايا التائية وإنتاج الأجسام المضادة، يُعتبر فيتامين د (D) منظِّمًا مناعيًا حيويًا يساعد الخلايا البيضاء على إنتاج مركبات مضادة للميكروبات، تقتل مسببات الأمراض مباشرة، وهو موجود بشكل أساسي في الأسماك الدهنية كالسلمون والتونة، بالإضافة إلى الأغذية المدعمة مثل الحليب وحبوب الإفطار وصفار البيض. أما فيتامين ج (C) فهو مضاد أكسدة قوي يحمي الخلايا المناعية من التلف التأكسدي، ويدعم وظيفة الخلايا البلعمية في القضاء على العدوى، وتجده حاضرًا في الحمضيات مثل البرتقال، ومتركزًا بكثرة في الفلفل الأحمر الحلو والفراولة والبروكلي.
في الختام عزيزي القارئ، يجب أن نثمن قيمة هذه الفلسفة الإلهية العميقة والعبقرية التي حصرها الله في "محنة" الفيروسات و"منحة" جهاز المناعة، تجسيدًا لقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} صدق الله العظيم. لذا تبقى معركتنا الشتوية مع الفيروسات امتحاناً إلهياً يُظهر إحسان الخالق في تركيب أجهزتنا الدفاعية. كذلك فإن جهاز مناعتنا، المُزوَّد بسر الإعدام والتذكر، ينتظر عتاده البيولوجي منا؛ فبينما ندعمه بالغذاء الصحي السليم، علينا أن ندرك أننا نملك أيضاً القدرة على تدميره بأيدينا. إن الضغوط النفسية المُزمنة، والحرمان من النوم العميق، وسموم التدخين، كلها تصيب هذا الجندي المُنقذ في مقتل. فلنحسن استثمار إحسان الله إلينا عبر حماية أجهزتنا، لنسهم بذلك الوعي في الانتصار على أعتى خصومنا، ونكون الطرف الفاعل الحقيقي في المعادلة التي أبدعها الله لنا.