لجريدة عمان:
2025-10-15@16:34:07 GMT

«تاج العروس».. دائرة معارف العصر!

تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT

«تاج العروس».. دائرة معارف العصر!

- 1 -

كلما تعمّقت في قراءة المصادر والمراجع المتاحة عن الشيخ مرتضى الزبيدي (1732-1791) في سياق إعادة قراءة الحركة الفكرية والثقافية والعلمية "الإنسانية" في القرن الثامن عشر الميلادي، قبل مجيء حملة نابليون بونابرت على مصر (1798-1801)، استوقفني الحضورُ الفذ لشخصية هذا الرجل صاحب أشهر وأضخم قاموس ومعجم لغوي "عربي" وصلنا عبر العصور!

فالقصة لم تكن مجرد التباهي بهذا الجهد الضخم الذي يفني الأعمار (على اعتبار أنه لم يؤلف غيره، وإن كان ألف غيره في مجالات معرفية أخرى وبأحجام تفوق حجم تاج العروس!)، إنما وببساطة وضعية هذا العمل الموسوعي العجيب ضمن سياق أوسع وأشمل يمكن أن نطلق عليه بذور "إحياء" أو عصر "رينيسانس" عربي، يقوم على النبش والتفتيش في أصولنا التراثية "المعرفية" والانطلاق منها والتأسيس عليها وصولًا إلى إحداث "نهضتنا" نحن، الآن وهنا!

أكد تلك الفكرة وصاغها بلغة واضحة ومنضبطة المؤرخ القدير د.

أحمد زكريا الشلق في كتابه عن «النهضة والاستنارة»، إذ يكشف لنا عن حركة مزدهرة في تأليف المعاجم اللغوية في تلك الفترة، حتى أن هناك ست نسخ بين كل ثماني نسخ من المعاجم ترجع إلى القرن الثامن عشر، وارتبط ذلك بعمل علماء الحديث أيضًا، ويبرز معجم «تاج العروس» للزبيدي كأحد أهم منجزات هذه الفترة، التي شهدت أيضًا نشاطًا في الكتابة في النحو، وكان من فرسانها "الزبيدي" نفسه، و"الصبان".

ويلاحَظ أن علماء هذا العصر كانوا بشكلٍ عام من «الموسوعيين»، الذين درسوا وكتبوا في أكثر من علم وفن وموضوع، والذين لم تشهد مصر مثيلًا لهم خلال القرون الثلاثة السابقة على القرن الثامن عشر. وكانت تلك بطبيعة الحال مرحلة من مراحل التطور العلمي والفكري، وشكلت تمهيدًا وقاعدة لمرحلة التخصص التي تليها، بل إن هناك من يرى أن «دائرة المعارف» الفرنسية التي لا يضارعها إلا القليل في عصرنا، والتي كانت من نتاج شخصيات عظيمة في فرنسا، ربما لا تضارع «تاج العروس».

(2)

ومن المهم إلقاء بعض الضوء على هذا العمل الفذ الذي يتجاوز كونه مجرد معجم أو قاموس، فتلك فيما أظن نظرة قاصرة ومحدودة لقيمة الكتاب ومادته الهائلة وجمعه الاستقصائي المذهل لكل معارف وفنون العصر.

الكتاب عنوانه بالكامل «تاج العروس من جواهر القاموس» (أو الحاوي من جواهر القاموس)، وهو شرح للقاموس المحيط الذي ألفه اللغوي الشهير "الفيروز آبادي".

ويقع هذا الشرح في عشرة أجزاء (تصل في النسخ المطبوعة المحققة إلى أربعين مجلدًا)، واستغرق الزبيدي في تأليف كتابه الضخم أربعة عشر عامًا، فقد بدأ الاشتغال به في عام 1774هـ/ 1760م وانتهى منه في عام 1188هـ/ 1774م.

لقد بدأ الزبيدي في تأليف هذا الكتاب بعد أن مضى على قدومه على مصر سبع سنوات كاملة، فقد جاء إلى مصر كما ذكرنا آنفا 1754م، وبعد أن بلغ التاسعة والعشرين من عمره.. لكن لماذا قرر الزبيدي التصدي لهذا العمل الضخم بل بالغ الضخامة؟

يجيبنا عن ذلك الدكتور عبد الله العزباوي في رصده لنشاط الحركة العلمية في القرن الثامن عشر، وبخاصة نصفه الثاني، حيث يوضح لنا أن الزبيدي اضطلع بشرح هذا الكتاب عندما شعر برغبة علماء الحديث في فهمه لأنهم كانوا محتاجين إليه للاستعانة به في دروسهم ودراساتهم، فقد ذكر الزبيدي في ديباجة هذا الشرح: "فلما أنست من تناهي فاقة الأفاضل إلى استكشاف غوامضه والغوص على مشكلاته، ولا سيما من انتدب منهم لتدريس علم غريب الحديث، فناط به الرغبة كل طالب وعشا ضوء ناره كل مقبس ووجه إليه النجعة كل رائد".

ويتفق هذا الذي ذكره الزبيدي مع ما ذهب إليه العلامة ابن خلدون في مقدمته من أن الاهتمام بالعلوم اللغوية راجع إلى أنها علوم مساعدة للعلوم الشرعية حتى يمكن فهم معانيها وفهم ما جاء في الكتاب والسنة، ويعود الزبيدي فيؤكد هذه الحقيقة فيقول: "فإنني لم أقصد سوى حفظ هذه اللغة الشريفة، إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية، ولأن العالم بغوامضه يعلم ما يوافق فيه النية اللسان، ويخالف فيه اللسان النية".

(3)

تطلب شرح القاموس من الزبيدي مجهودًا ضخمًا، فقد كان لزامًا عليه أن يقرأ كل معاجم اللغة السابقة عليه، كالصحاح للجوهري، واللسان للفيروز آبادي، والجمرة لابن دريد، والمخصص والمحكم لابن سيده، والتهذيب للأزهري، وفصيح ثعلب، والأساس والفائق للزمخشري، وإصلاح المنطق لابن السكيت، والخصائص لابن جني، والمجمل لابن فارس والمعرب للجواليقي... إلخ، وقد قرأها الزبيدي بأكملها، وهذا وحده جهد مذهل. لكن هل اكتفى الزبيدي بقراءة هذه الأصول والمعاجم اللغوية فقط؟

أبدًا. فإلى جانب هذه القواميس والمعاجم الضخمة، قرأ الزبيدي أيضًا كتب التواريخ والحديث والإسناد والأنساب والرجال والتراجم وتقويم البلدان «الجغرافيا، والرحلات» والطب والحيوان والنبات، ودواوين الشعر، ولو أوردتُ أسماء هذه الكتب التي تشكِّل تقريبًا ما يزيد على ثلاثة أرباع المكتبة التراثية العربية التي وصلتنا منذ عصر التدوين وحتى عصر الزبيدي لاحتجنا مقالين أو ثلاثة لإيراد هذه القائمة بكاملها!

وهكذا نرى أن المصادر التي اعتمد عليها الزبيدي في تأليفه للشروح على القاموس واسعة ومتباينة وغزيرة، وهي إن دلَّت على شيء، فإنما تدل على ثقافته الواسعة "المذهلة" المتعددة الألوان، وعلى معرفته الوثيقة بالمكتبة العربية، والمصادر الأصلية المهمة.

وكان منهجه في شرح القاموس، هو أن ينسب كثيرًا من التفسير اللغوي إلى قائليه إرجاعًا لمتن القاموس إلى أصله الذي استمد منه، ثم يشرح "المادة" التي ألفها الفيروز آبادي، ويضيف إليها معتمدًا في ذلك على المعاجم اللغوية الأخرى، فينتقي منها ما لم يذكره صاحب القاموس، ويضيف إليه، كما يستعين بكتب التاريخ والتراجم والجغرافيا والرحلات، فيضيف أسماء الرجال والمواقع والبلدان المتصلة بكل مادة بشرحها، ثم يضيف بعد هذا كله جديدا من عنده يضعه تحت عنوان «المستدرك».

وهذا الجديد في معظمه هو خلاصة تجاربه والمعرفة التي حصلها خلال رحلاته في الهند وبلاد العرب ومصر، فقد يكون هذا «المستدرك» لفظا علميا يستعمله أهل مصر أو اليمن أو الهند، وقد يكون موقعا في قطر من الأقطار، ولهذا كانت لهذه «المستدركات» أهمية كبرى لأنها تتضمن معلومات جديدة انفرد بها الزبيدي وحده، ولا توجد في أي مرجع أو معجم لغوي آخر.

(4)

وقد امتازت شروح الزبيدي على القاموس بروح "تاريخية" يعرف معها الباحث والدارس وجوها لمعاني الكلمات التي تتعلق بحياتها واصطناعها وهو ما ينقص معاجمنا العربية حتى اليوم، فليس هناك في العربية معجم يذكر حياة الكلمات وموتها، ولكن الزبيدي يتتبع حياة الكلمات وموتها.

وقد ذاع أمر هذا الشرح في مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامي، فعندما أنشأ محمد بك أبو الذهب مدرسته الشهيرة بالقرب من الأزهر، ووضع فيها خزانة للكتب واشترى جملة من الكتب أُشير عليه بشراء هذا الشرح لأنه "إذا وضع بالخزانة كمل نظامها وانفردت بذلك دون غيرها"، ولذا فقد اشتراه بمبلغ 100 ألف درهم. كما اشترى هذا الكتاب أيضًا كل من سلطان تركيا، وسلطان دارفور، وسلطان المغرب.

يمكننا القول في ختام هذا التعريف الموجز بـ«تاج العروس»، إنه يكشف عن عقلية مؤلفه التي تمارس وظيفتها في مجال واسع من العلاقات العلمية، والذي يقف على قدم وساق مع دوائر المعارف والموسوعات الشهيرة في أوروبا، بحسب ما أشارت وأكدت الدراسات التاريخية الحديثة والمعاصرة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: القرن الثامن عشر الزبیدی فی

إقرأ أيضاً:

الإمارات تصعّد ضغوطها على الانتقالي وتجبر الزبيدي على الاعتذار

الجديد برس| خاص| أفادت مصادر سياسية، الثلاثاء، أن الإمارات نسفت محاولات المجلس الانتقالي الجنوبي الموالي لها للتقارب مع السعودية، وأجبرت رئيس المجلس عيدروس الزبيدي على تقديم اعتذار رسمي لأبوظبي. وأوضحت المصادر أن الزبيدي اضطر للبقاء في مدينة الضالع، رغم افتقارها لأبسط الخدمات الفندقية، كجزء من خطوات الاعتذار التي شملت افتتاح مدرسة قديمة أعيد تلوينها بأعلام الإمارات، بعد أن كان قد استبعد رموز وأعلام أبوظبي من فعالية أقيمت في الضالع الاثنين، ورفع بدلاً عنها صور ولي العهد السعودي وأعلام المملكة فقط، ما يعكس توتر العلاقة بين المجلس ورعاته الإقليميين. وأضافت المصادر أن الإمارات ألزمته برفع أعلامها قرب الحدود اليمنية مع السعودية، في وقت أقام فيه أنصار المجلس فعالية ذكرى أكتوبر في مدينة شبام بمحافظة حضرموت، رُفعت فيها أعلام وصور رموز الإمارات دون أي تمثيل للسعودية، رغم إعلان الانتقالي سابقًا ضم المحافظة إلى المملكة. وتعكس هذه التحركات الأخيرة التشتت والعجز داخل المجلس عن إدارة ملفاته الداخلية والخارجية، وتوضح صعوبة قدرته على إدارة الأوضاع في ظل تبعيته الكاملة لقوى إقليمية، حتى خلال الفعاليات الوطنية المرتبطة بالثورة ضد الاحتلال السابق.

مقالات مشابهة

  • افتتاح منفذ لبيع إصدارات هيئة الكتاب بمكتبة مصر العامة في أسوان
  • افتتاح منفذ بيع لهيئة الكتاب بمكتبة مصر العامة في أسوان
  • بدعم سعودي.. العليمي يعود إلى عدن لتطويق تحركات الزبيدي
  • العدد الجديد من الكتاب الذهبي: أقلام واجهت الإرهـ اب.. وكتّاب ومفكرون أسقطوا أقنعة الإخـ وان
  • الإمارات تصعّد ضغوطها على الانتقالي وتجبر الزبيدي على الاعتذار
  • الكاتبة السويسرية دوروتيه إلمجر تفوز بجائزة الكتاب الألماني
  • برنامج ثقافي متنوع لهيئة الكتاب بمعرض الأقصر الرابع
  • المبدعون والذكاء الاصطناعي تحديات وعيوب.. ندوة باتحاد الكتاب
  • "رسوم أحضان" جزء من المهر.. هكذا تصرفت عروس صينية في يوم زفافها
  • المجلس الأعلى للشئون الإسلامية يفتتح معرض الكتاب بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بالإسكندرية