عندما قررت حركات المقاومة تنفيذ عمليتها الكبرى يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كان معلوما لديها أن العدو الصهيوني لن يترك الأمر يمر دون رد عسكري غير اعتيادي، وربما راهنت المقاومة على عوامل ذاتية وخارجية تجعل الرد العسكري يتوقف عند حدود معينة، لكن العدو اللاأخلاقي تجاوز كل الحدود، فوصلنا إلى ما يقارب 150 ألف شهيد ومفقود ومصاب.
يتحدث الساسة في الكيان الصهيوني، وغيرهم من السياسيين على مستوى العالم، بأن تصرفات نتنياهو طوال هذا العدوان تحكمها مصلحته الشخصية، وقد أصبحت الحرب الانتقامية لصيقة بشخصه، وما يدل على ذلك أن وزير الحرب الصهيوني غالانت، يتحدث عن وجوب إتمام صفقة تبادل لإنهاء الحرب، ومؤخرا انتقل إلى اتهام مباشر لنتنياهو بأنه يعطل الصفقة، وقد نقل ابن عمه دان نتنياهو، أنه يرى نفسه "الدولة"، ونقل دان عن سارة نتنياهو قولها "بيبي [نتنياهو] سيقاتل من أجل الدولة، وإذا لزم الأمر، فليحترق البلد".
ما فعله نتنياهو باغتيال إسماعيل هنية وكون عملية الاغتيال داخل إيران، وأيضا اغتيال فؤاد شكر، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه قرر أخذ الأمور إلى مدى أكثر تعقيدا وتصعيدا في الصراع العسكري، وخوفا من هذه النتيجة سارعت واشنطن بجلب حاملات طائرات وإعادة تموضع لقواتها بالمنطقة، في سبيل تخفيف أو منع الرد على العمليتين. وبغض النظر عن حملة الإنقاذ الأمريكية، فالسؤال: لماذا يُصرُّ نتنياهو على التصعيد؟
ما فعله نتنياهو باغتيال إسماعيل هنية وكون عملية الاغتيال داخل إيران، وأيضا اغتيال فؤاد شكر، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه قرر أخذ الأمور إلى مدى أكثر تعقيدا وتصعيدا في الصراع العسكري، وخوفا من هذه النتيجة سارعت واشنطن بجلب حاملات طائرات وإعادة تموضع لقواتها بالمنطقة، في سبيل تخفيف أو منع الرد على العمليتين
هناك أمران ربما يفسِّران سبب هذا التصعيد الدائم لنتنياهو؛ أولهما، ما قاله رجل الأعمال الإسرائيلي إيلي جولدشميت، في تسجيلٍ على حسابه في منصّة "تيك توك"، وهو من قياديي حزب العمل الإسرائيلي، في معرض هجومه على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.
وبحسب ترجمة وكالة "سما الإخبارية"، قال جولدشميت في رسالته إلى نتنياهو: "السنوار، ابن مخيم اللاجئين، الذي أطلقتَ سراحه في عام 2011 بصفقة شاليط (وفاء الأحرار)، هذا الرجل وخلال حرب الأدمغة بينه وبينك، أنت الملك من قيساريا مع بركة السباحة، ومع لغتك الإنجليزية الممتازة، هزمك شر هزيمة، إنّه [السنوار] جعل منك ترابا ورمادا، لقد كان أذكى منك بعشرات المرّات".
ويرى جولدشميت أن "نتنياهو استفاق متأخرا وبات مقتنعا بأن الرجل من مخيم اللاجئين انتصر عليه، وهو الذي يرى في نفسه تشرتشل الصهيوني، لكن السنوار جعل منه إنسانا صغيرا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان". وبيت القصيد في كلام جولدشميت الموجه إلى نتنياهو: "لذا فإنه من ناحيتك يجب أن يموت السنوار قبل أن تتم صفقة التبادل، فقط عند ذلك ستوافق على الصفقة، لأنك تريد أن ترمم الكرامة الشخصية التي أفقدك إياها السنوار".
إذا يريد نتنياهو ترميم كرامته، ولو بجرِّ العالم إلى حرب إقليمية، ليُبقيَ الباب مفتوحا أمام أي مشاركة سياسية مستقبلية له، وهيهات أن ينال ترميمها بعد تحطيم "الطوفان" لها. هذا الأمر الأول الذي يتسبب في إطالة المعركة.
أما السبب الثاني، الأكثر أهمية، أن نتنياهو يعلم جيدا أنه لن يبقى وحيدا إذا أذكى نار حرب إقليمية، فالمشروع الصهيوني أكبر من أن يسقط عند الغرب والأمريكان، إذ هو نبتة الغرب الخبيثة في المنطقة منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، تزامنا مع إنشاء أول مستعمرة يهودية في فلسطين على يد اليهودي البريطاني مونتفيوري في العام 1837م، وكان عدد سكانها في ذلك الوقت 1500 يهودي، وارتفع العدد سريعا إلى عشرة آلاف يهودي عام 1840م، ما يشير إلى وتيرة عمليات الاستيطان، وذلك قبل مؤتمر بازل بستة عقود.
يدرك نتنياهو جيدا أنه مهما فعل، فلن يترك الغرب هذا المشروع الذي أُنفقت عليه أموال طائلة ربما تتجاوز تريليونات الدولارات، لذا لا يخشى من تماديه في السلوكيات العدوانية، فلن يتوقف السلاح المرسَل إليه، كما لن تتردد الدول الأوروبية كثيرا قبل خوض مواجهة عسكرية ضد إيران وغيرها إذا اقتضى الأمر. صحيح أن لا أحد في الدوائر الصهيونية أو الغربية يقول ذلك، لكن العالم بأسره يعلم ما سيحدث إذا واجهت الدولة الصهيونية خطرا عسكريا وجوديا، ونتنياهو يراهن على ذلك تماما، وأبرز دلائل صحة وجهة نظره أن العالم يشاهده وهو يسبح، حرفيا، في الدماء الفلسطينية، دون أي رد فعل حقيقي لإيقاف المجزرة.
العالم بأسره يعلم ما سيحدث إذا واجهت الدولة الصهيونية خطرا عسكريا وجوديا، ونتنياهو يراهن على ذلك تماما، وأبرز دلائل صحة وجهة نظره أن العالم يشاهده وهو يسبح، حرفيا، في الدماء الفلسطينية، دون أي رد فعل حقيقي لإيقاف المجزرة
ربما أصبح على المقاومة أن تستخدم ورقة ضغط (إذا وُجدت) ضد القيادات العربية، فمن المعلوم أن المقاومة الفلسطينية استطاعت اقتحام قاعدة أوريم العسكرية "يَرْكون" التي تعد من أهم منشآت التجسس وجمع المعلومات الاستخباراتية لدى الاحتلال الإسرائيلي، وهي مقر عمل الوحدة 8200 التي تعد أبرز وحدات المخابرات العسكرية الإسرائيلية والمعروفة اختصارا باسم "أمان".
هذه القاعدة سُحبت منها معلومات قيِّمة، وإذا كانت المقاومة تمتلك وثائق تجاه حكومات إقليمية نتيجة اقتحام القاعدة، فربما حان وقت استخدام الملفات التي بحوزتهم والتلويح ببعض المعلومات بداخلها، ليتحرك الضغط العربي تجاه الكيان المحتل باعتبارها معركة بقائهم في السلطة، ومعركة عدم الافتضاح "الموثَّق" أمام الشعوب التي تدرك وجود عمالة، لكنها لا تعلم حجمها، ولا تملك توثيقا يؤكدها، وإذا أفصحت المقاومة في الغرف المغلقة عن بعض ما لديها فربما يكون هذا الوقت المطلوب، خاصة أن تغير أحد الأنظمة (بوفاة أحد الحكام) قد يُفقد المعلومة أهميتها.
إن محور المقاومة بأسره، والمقاومين بقطاع غزة تحديدا، يواجهون أشرس حروب القرن الحادي والعشرين، وأشرس معارك القضية الفلسطينية، والانتصار السياسي فيها أمر لا يمكن التنازل عنه، كما أن فشل العدو العسكري في تحقيق أهدافه العسكرية أمر بالغ الأهمية، والانتصار السياسي سيكون بوقف العدوان وإبرام صفقة تبادل وفقا لشروط المقاومة، وكل ما قد يحدث بعد ذلك من تصرفات عسكرية كقصف منشأة أو محاولة اغتيال أحد المقاومين، لن يكون له أثر في تغيير حقيقة الانتصار السياسي أو إفشال مخطط العدو العسكري، لذا ربما تحتاج المقاومة إلى بسط أوراق قد تكون قررت من قبل أن تجعلها مُرْجَأة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المقاومة نتنياهو التصعيد غزة غزة نتنياهو المقاومة تصعيد مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات اقتصاد صحافة سياسة سياسة سياسة تكنولوجيا سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
هل ينجح أردوغان في صياغة دستور جديد يطيح بإرث الانقلاب العسكري؟
أنقرة- أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الثلاثاء الماضي، تكليف فريق من 10 خبراء قانونيين من حزب العدالة والتنمية بإعداد مسودة دستور جديد للبلاد، ينهي ما وصفه بـ"عبء دستور الانقلاب" الذي وُضع عقب انقلاب 1980، في خطوة تعيد فتح أحد أقدم الملفات في السياسة التركية.
وفي حين شدد أردوغان على أن الخطوة "لا تهدف إلى تمديد ولايته الرئاسية"، بل تعبر عن "مسؤولية تاريخية تجاه 86 مليون مواطن"، تباينت ردود الفعل داخل الساحة السياسية، بين دعم من الحلفاء وتحفظات شديدة من أبرز أحزاب المعارضة، وسط تساؤلات مفتوحة عن فرص نجاح المشروع، واحتمال اللجوء إلى استفتاء شعبي إذا فشل تمريره برلمانيا.
ورغم مرور أكثر من 40 عاما على صياغته، لا يزال دستور 1982 يُعد عقدة سياسية في تركيا، باعتباره نتاجا لانقلاب 1980 وفُرض في أجواء غير ديمقراطية.
ورغم تعديله في استفتاءي 2010 و2017، فلا تزال الانتقادات تطاله بسبب تكريسه هيمنة الدولة العميقة وتقليصه للمشاركة الشعبية والحريات الديمقراطية.
لجنة الصياغةضمّت اللجنة المكلفة بصياغة مسودة الدستور الجديد 10 من أبرز وجوه حزب العدالة والتنمية، في تركيبة تُظهر الرغبة في إضفاء وزن سياسي وتشريعي على المشروع منذ لحظاته الأولى.
إعلانويتولى رئاسة اللجنة نائب الرئيس جودت يلماز، وشخصيات ذات باع طويل في الجهاز التنفيذي والتشريعي، إذ شغل 3 من أعضائها مناصب وزارية في حكومات سابقة، بينما يُعد الباقون من أعمدة التنظيم البرلماني للحزب.
وأفادت تقارير لاحقة بأن أستاذة القانون الدستوري البارزة سراب يازجي ستنضم إلى لجنة فنية مرافقة، إلى جانب تشكيل هيئة دعم تقني من خبراء وأكاديميين في القانون الدستوري.
وتعقد اللجنة أول اجتماعاتها الرسمية في الرابع من يونيو/حزيران داخل مجمع القصر الرئاسي في أنقرة، حيث يتوقع أن تحدَّد آليات العمل ومراحل الصياغة. ولا يُستبعد أن يشارك أردوغان شخصيا في بعض هذه الجلسات، بما يعكس اهتمامه المباشر بتوجيه العملية، حسب ما أوردته وكالة الأناضول.
ووفق وسائل إعلام تركية، ستعتمد اللجنة نظام التشاور الجماعي في إدارة نقاشاتها، وتخطط لبدء عملها الفعلي بعد عطلة عيد الأضحى.
ومن المنتظر أن تركز في مرحلتها الأولى على تحديد المبادئ التأسيسية ومنهجية كتابة الدستور، على أن تنتقل لاحقا إلى صياغة المسودات التفصيلية للمواد الدستورية.
وتباينت مواقف الأحزاب السياسية التركية إزاء مبادرة صياغة دستور جديد، بين دعم مشروط ورفض صريح وتوجّس صامت، ففي حين يدعم "تحالف الجمهور" بقيادة حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية المشروع بوصفه ضرورة لإنهاء إرث الانقلابات العسكرية، أبدت أحزاب المعارضة الرئيسية، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، رفضا واضحا للمشاركة في أي مسار دستوري دون ضمانات تتعلق بالحريات واستقلال القضاء.
يحظى الحديث عن المواد الأربع الأولى من دستور 1982 بحساسية سياسية فائقة في المشهد التركي، إذ تعد هذه المواد بمثابة الركائز التأسيسية للجمهورية، وتنص على أن تركيا دولة ديمقراطية، علمانية، اجتماعية، موحدة، متمسكة بمبادئ مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك، مع تحديد أنقرة عاصمة ولغتها الرسمية التركية.
إعلانوتمنع المادة الرابعة صراحة تعديل أي من هذه المواد أو حتى اقتراح تعديلها، مما يجعلها بمنزلة "خط أحمر" في أي محاولة لإعادة كتابة الدستور.
وفي هذا الإطار، شدد أردوغان، في أكثر من مناسبة، على التزامه الصارم بعدم المساس بهذه المواد، مؤكدا في تصريحات أدلى بها عقب عودته من المجر في مايو/أيار الجاري أن "ليس لدينا أي مشكلة مع المواد الأربع الأولى"، مضيفا أن هذا التوافق يشمل أيضا معظم الأحزاب الممثلة في البرلمان.
لكن المعارضة، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، تنظر إلى هذه التصريحات بتحفظ شديد، وترى فيها محاولة لطمأنة الرأي العام دون أن تلغي المخاوف من إمكانية تجاوز هذه المواد بطرق غير مباشرة.
في السياق، يرى المحلل السياسي مراد تورال أن إعلان الرئيس أردوغان التزامه بعدم المساس بالمواد الأربع الأولى من الدستور يحمل بعدا تكتيكيا أكثر منه ضمانة حقيقية، ويهدف بدرجة أولى إلى تهدئة الرأي العام العلماني، دون أن يبدد بالضرورة مخاوف المعارضة من مشروع يخشى أن يكرس صلاحيات السلطة التنفيذية على حساب مبدأ الفصل بين السلطات.
ويؤكد تورال -في حديثه للجزيرة نت- أن المواد الأربع لم تكن موضع تهديد صريح في تجارب التعديل الدستوري السابقة، غير أن التركيز المتكرر عليها اليوم قد يكون محاولة لصرف النظر عن بنود أخرى يتوقع أن تكون محل جدل، مثل نظام الحكم، وصلاحيات الرئيس، وتعريف المواطنة، والضمانات المرتبطة بالحريات العامة.
تواجه المبادرة تحديات برلمانية معقّدة قد تعوق تقدمها في ظل موازين القوى الحالية داخل البرلمان التركي، فحسب ما تنص عليه المادة (175) من الدستور، فإن تمرير مشروع دستور جديد يتطلب موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، أي 400 نائب من أصل 600، وهو رقم صعب بالنسبة لتحالف "الجمهور" الحاكم الذي يضم حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، ويملك معا 321 مقعدا فقط.
إعلانوحتى إمكانية اللجوء إلى استفتاء شعبي تظل مشروطة دستوريا بالحصول على دعم 360 نائبا، وهو ما يعني حاجة التحالف الحاكم إلى استقطاب ما لا يقل عن 39 نائبا إضافيا من خارج صفوفه.
ورغم الإشارات المتفرقة إلى محاولات التواصل مع بعض الأحزاب الصغيرة، فإن مجموع مقاعد هذه الأحزاب لا يكفي وحده لتأمين النِصاب المطلوب، فضلا عن تحفظها أو رفضها العلني حتى الآن لأي مسار قد يُفسّر على أنه تفصيل دستور لصالح السلطة التنفيذية.
تمرير محتملمن جانبه، يذكر المحلل السياسي التركي علي أسمر -في حديث للجزيرة نت- أن النقاش حول إعداد دستور جديد في تركيا ليس وليد اللحظة، بل يعود إلى سنوات مضت. غير أن العائق في السابق كان عدم امتلاك "تحالف الجمهور" أغلبية برلمانية كافية لتمرير المشروع.
لكن المشهد تغير، وفق تقديره، بعد ما وصفه بـ"التقارب السياسي الأخير بين التيار القومي والأوساط الكردية"، وهو ما أفرز توازنات جديدة في البرلمان قد تتيح تمرير مشروع الدستور دون الحاجة إلى اللجوء لاستفتاء شعبي.
ويشير أسمر إلى أن حل حزب العمال الكردستاني قد يكون جزءا من هذا التحول، وأن الدستور الجديد سيشمل -على الأرجح- إضافات تعزّز الحقوق الثقافية للأكراد في تركيا.
ويعتقد المحلل السياسي أن مواد بعينها في الدستور الجديد، مثل تعزيز حرية المعتقد ومراعاة مظاهر التدين في الفضاء العام، بما في ذلك الحجاب، ستدفع الأحزاب المحافظة إلى دعم المسودة.
ويختم أسمر بالإشارة إلى أن النقاش الأعمق سيكون حول قضايا مثل التعددية الثقافية ومواجهة الخطابات العنصرية، التي تصاعدت في الفترة الأخيرة، لا سيما مع صعود أحزاب يمينية متطرفة كحزب "الظَفر"، مما يزيد من الحاجة إلى نص دستوري يوازن بين الحفاظ على الهوية الوطنية والانفتاح على التعددية المجتمعية.