ذات مرة جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينا كان عليه، فاشتد عليه، حتى قال له: أُحرِجُ عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه، وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟! قال: إنّي أطلب حقي، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "هلّا مع صاحب الحق كنتُم؟!".

ثم أرسل إلى خولة بنت قيس رضي الله عنها فقال لها: "إن كان عندك تمرٌ فأقرضِينا حتى يأتينا تمرُنا فنقضيك"، فقالت: "نعم، بأبي أنت يا رسول الله"، فأقرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال الأعرابي: "أوفيت، أوفى الله لك"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك خيار الناس، إنه لا قُدست أمةٌ لا يأخذُ الضعيف فيها حقه غير مُتَعْتَع".



وقد عنون له ابن ماجه الذي أخرج الحديث بسند صحيح في السّنن حين رواه في كتاب الصّدقات بقوله: "باب لصاحب الحقّ سلطان".

لقد ربّى رسول الله صلى عليه وسلم جيلا كاملا على أن يكونوا أحرارا في مواقفهم، أحرارا في قناعاتهم، أحرارا لا يخضعون إلا لله تعالى، يعلنون مطالبتهم بحقّهم دون مواربة أو تردّد أو خوف أو وجل، وينصرون الحقّ دون اعتبارٍ للشخص ضعيفا كان أم قويا، غنيا أم فقيرا، صاحب جاه ومنصب أم من الطبقات المسحوقة؛ فحريتهم تقتضي خضوعهم للحق وحده يدورون معه حيث دار، فالعبرة بالحق حيث يكون ولا عبرة لمن يدعيه.

ما أعظم المجتمع حين يكون مجتمعا يقف إلى جانب الحقّ لا إلى جانب القوّة والسلطان، فالضّعيف فيه إن كان صاحب حقّ يأخذ حقّه في ذلك المجتمع ولو كان من رئيس الدولة غير متَعتَع، ومعناها كما يقول السّندي في حاشيته على سنن ابن ماجه: "غَيْرَ مُتَعْتَعٍ؛ بِفَتْحِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصِيبَهُ أَذى يُقْلِقُهُ وَيُزْعِجُهُ".

من أراد أن يعيش ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يتحسس الحرية في نفسه، حريته هو من قيود الطغاة والمجرمين، وعمله من أجل تحرير الإنسان من الخضوع لأغلال الرقّ كلّها، وعندما يكون الفرد حرا فإنّه يكون قادرا على صناعة أمة لها قداسة ومكانة، فلا قداسة لأمة يعلو فيها الظلم وتكمم الأفواه وتخرس الأصوات ويحسب صاحب الحق ألف حساب قبل أن يطالب بحقّه.

كلّ أمّةٍ أو مجتمع أو جماعة ولو وصفت نفسها أنّها إسلاميّة لا يستطيع الضعيف أن ينال فيها حقه غير متَعتَع ولا يكون لصاحب الحقّ فيها مقالا؛ هي أمة لا قداسة فيها أو لها، وهي جماعة تنكبت درب نبيها ونهج أسوتها وقدوتها
في المجتمع الذي يتربى على الحرية يغدو صوت صاحب الحقّ مرتفعا، وارتفاع صوت صاحب الحقّ ليس منّة من حاكم أو مكرمة ملكية أو رئاسيّة، بل هو فطرة إنسانيّة رسّخها التشريع الإسلاميّ وحرس حماها التّبيلغ النّبويّ.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه كما أخرج البخاريّ في صحيحه: "أنَّ رَجُلا تَقَاضَى رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأغْلَظَ له فَهَمَّ به أصْحَابُهُ، فَقالَ: دَعُوهُ، فإنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالا، واشْتَرُوا له بَعِيرا فأعْطُوهُ إيَّاهُ وقالوا: لا نَجِدُ إلَّا أفْضَلَ مِن سِنِّهِ، قالَ: اشْتَرُوهُ، فأعْطُوهُ إيَّاهُ، فإنَّ خَيْرَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاء".

ويقول ابن حجر العسقلاني في تعليقه على الحديث في "فتح الباري": "فإنّ لصاحب الحق مقالا؛ أي صولة الطّلب وقوّة الحجّة".

ولا يمكن أن يكون لصاحب الحقّ صولة في الطلب وقوة في القول وإقداما في العرض إلّا في المجتمع الذي أحاط حماه بسياج من حريّة حقيقيّة؛ لا مجرد شعارات زائفة يرددها التلاميذ في الطابور الصباحيّ.

هكذا صاغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم المجتمع من جديد بعد أن كان معجونا بالاستبداد وملفوفا بالقمع ومتسربلا بالظلم؛ فنسجه من جديد جاعلا العدل سُداه والحريّة لحُمتَه.

إنّ كلّ أمّةٍ أو مجتمع أو جماعة ولو وصفت نفسها أنّها إسلاميّة لا يستطيع الضعيف أن ينال فيها حقه غير متَعتَع ولا يكون لصاحب الحقّ فيها مقالا؛ هي أمة لا قداسة فيها أو لها، وهي جماعة تنكبت درب نبيها ونهج أسوتها وقدوتها، وإنّ ذكرى ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلّم ينبغي أن تكون مناسبة تتحسس فيها الأمة قدرة الضعفاء فيها على نيل حقوقهم، وتراجع فيها الجماعات الإسلاميّة مساحات الحريّة الممنوحة داخلها لرفع الأصوات من أصحاب الحقوق، فهذا أحد أهم المعايير لمدى تحقق الولادة الحقيقيّة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في قلوبنا ونفوسنا وأرواحنا وواقعنا المتشابك وأعمالنا اليوميّة.

x.com/muhammadkhm

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المجتمع العدل الحقوق حقوق العدل المولد النبوي المجتمع سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة من هنا وهناك صحافة سياسة رياضة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة صلى الله علیه وسل م صلى الله علیه وسلم رسول الله صلى صاحب الحق ه غیر م

إقرأ أيضاً:

حالات يجوز فيها الغيبة بدون ذنب.. علي جمعة يوضحها

الغيبة والنميمة .. من الكبائر وهي سبب كبير من أسباب عذاب القبر ، واللسان هو سبب هلاك الإنسان وعذابه في الأخرة، وحذرنا الله تعالى من الغيبة فى قوله تعالى:" وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا"(سورة الحجرات:12).

وهذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه، أضمن له الجنة"، ومضمون الحديث التنبيه على خطورة اللسان والفرج، والحث على حفظهما، وأن من فعل ذلك كان جزاؤه الجنة.

الفرق بين الغيبة والنميمة

أن الغيبةهي ذكر الإنسان لأخيه الإنسان بالسّوء بظهر الغيب، فإذا ذكرت إنسانًا بكلام لو وصله لساءه لكنت بذلك قد اغتبته، اما النميمة هي نقل الكلام بين الناس على سبيل الإفساد .

أدعية وأذكار تزِيل الهم وتفك الكرب.. رددها الآندعاء لمن يُريد السفر للعمل .. ردّد 10 كلمات وابدأ في تجهيز حقائبكحالات يجب فيها الغيبة والنميمة

هناك حالات تُباح فيها الغيبة والتى أوردها الفقهاء في بيت شعري، وهو «القـدحُ ليس بِغيبةٍ في سِتَّةٍ مُتظلِّمٍ ومُعرِّفٍ ومُحذِّرِ.. ولِمُظهِرٍ فِسقًا ومُستَفتٍ ومَن طلبَ الإعانةَ في إزالةِ مُنكرِ».

حالات يجب فيها الغيبة والنميمة

فسر الدكتور علي جمعة، المفتي السابق وعضو هيئة كبار العلماء، هذه الأوصاف كما يلي:

مُتظلِّمٍ: أى التَّظلم من شخص ما، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السُّلطان والقاضي وغيرهما.

ومُعرِّفٍ: فأنه لا يجوز وصف الإنسان بأنه أعمش أو أعرج، أما إذا كانه اسمه الأعمش، والأعرج، والأصمِّ، والأعمى، والأَحوَل، وغيرهم؛ فجائزَ تعريفُهم بذلك فتقول قابلت الأعرج قاصدًا اسمه وليس وصفًا له.

مُحذّر: أي يحذر المسلمين من شر ظالم، كمن يحذر الناس من التعامل مع شخص نصاب، فهذا الأمر ليس غيبة، بل نصيحة.

لِمُظهِرٍ فِسقًا: فيجوز فضح شخص بأنه يشرب الخمر إذا كان مجاهرًا بفسقه ويشربها أمام الناس، وهذا الأمر لا غيبة فيه.

مُستَفتٍ: أي الاستفتاء، بأن يقول للمفتي ظلمني فلان أو أبي أو أخي بكذا فهل له فعل كذا؟ وما طريقي للخلاص.

إزالةِ مُنكرِ: أي الاستعانة بشخص على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن والد فلان، ابنك يعمل كذا فاعبده.

كفارة الغيبة والنميمة

((اللهم اغفر زلات ألسنتنا)).

((اللهم اجعل كتابي في عليين واحفظ لساني عن العالمين)).

«اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا».

طباعة شارك كفارة الغيبة والنميمة حالات يجب فيها الغيبة والنميمة الفرق بين الغيبة والنميمة الغيبة والنميمة

مقالات مشابهة

  • تدشين فعاليات ذكرى المولد النبوي في أكاديمية القرآن الكريم للطالبات بالأمانة
  • مربع رداع بالبيضاء يدشن فعاليات إحياء ذكرى المولد النبوي
  • مجدي الجلاد عن واقعة سايس نادي القضاة: صاحب السلطة مُقيد والناس فيها اللي مكفيها
  • حالات يجوز فيها الغيبة بدون ذنب.. علي جمعة يوضحها
  • نور على نور
  • عقوبة جديدة في السعودية خاصة بالقصائد وناشريها
  • هذا ما كان يفعله النبي في الحر الشديد.. تعرف عليه
  • طريقة احتساب مجموع الأيام التي يكون فيها مستفيد حساب المواطن خارج المملكة
  • قطاع الأوقاف والإرشاد و العلوم الشرعية والعلماء في الحديدة يحيون ذكرى المولد النبوي
  • مصدر مسؤول في الحكومة السورية عن مؤتمر قسد: تؤكد الحكومة أن للمجموعات الدينية أو القومية كامل الحق في التعبير عن رؤاها السياسية وعقد اجتماعاتها وتأسيس أحزابها ضمن الأطر القانونية الوطنية شريطة أن يكون نشاطها سلمياً وألا تحمل السلاح في مواجهة الدولة وألا ت