لجريدة عمان:
2025-12-01@10:33:08 GMT

طغيان شركات التكنولوجيا الكبرى

تاريخ النشر: 6th, October 2024 GMT

ترجمة: نهى مصطفى -

في 30 أغسطس، حظرت المحكمة العليا البرازيلية منصة التواصل الاجتماعي «X»، من الإنترنت في البلاد. كان الحظر تتويجًا لصراع دام شهورًا بين إيلون ماسك، مالك المنصة وأغنى رجل في العالم، وألكسندر دي مورايس، أحد قضاة المحكمة.

تم تكليف مورايس بالتحقيق في دور المعلومات المضللة عبر الإنترنت في محاولات إبقاء الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو في السلطة، على الرغم من خسارته للانتخابات.

أمر مورايس موقع X بحذف مئات الحسابات التي تنشر معلومات مضللة. وردًا على ذلك، اتهمت المنصة العدالة البرازيلية بالرقابة. وسحب ماسك الموظفين المطلوبين قانونًا للعمل X في البرازيل، والذي أدى في نهاية الأمر بالعدالة إلى منع البرازيليين من الوصول إلى المنصة تمامًا.

لم يتقبل ماسك هذا القرار بلطف، حيث وصف مورايس بـ«الطاغية الشرير». ولم يحصر غضبه في الإدانات القاسية فقط، فوفقًا لتقارير صحيفة نيويورك تايمز، فقد قام أولا، شجع ماسك البرازيليين على استخدام الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN) لتجنب حالة المنع. استمرت شبكته الفضائية ستارلينك، التي توفر خدمة الإنترنت للمشتركين مباشرة من الفضاء، في توفير الوصول إلى الموقع. وأخيرًا، أعادت شركة X توجيه حركة الدخول على الإنترنت من خلال خوادم جديدة، مما سمح لها بالتحايل على ضوابط الاتصالات في البرازيل تمامًا.

وتحت ضغط متزايد من السلطات في بلد به عدد كبير من مستخدمي X، وافقت الشركة في النهاية على حظر حسابات المعلومات المضللة وسداد غراماتها. لكن الوقاحة التي تمكن بها قطب التكنولوجيا من تحدي قرار دولة ما تجعل الحقيقة الصارخة والمخيفة ملموسة للغاية: لقد فقدت الحكومات الديمقراطية أسبقيتها في العالم الرقمي، مع تزايد دور ونفوذ الشركات ومديريها التنفيذيين. وهذا التحول في السلطة هو مجموع اعتماد المجتمع على شركات التكنولوجيا، والمناطق القانونية الرمادية التي تعمل فيها، والخصائص الفريدة للتكنولوجيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، ونتاج لكيفية تجريد المؤسسات العامة من معرفتها التكنولوجية، وفاعليتها، ومساءلتها. إنها حقيقة سمح بها أجيال من السياسيين من مختلف الأحزاب بالظهور.

إذا كان للديمقراطية أن تستمر، فيتعين على القادة أن يحاربوا هذا الانقلاب وجهًا لوجه، إنهم بحاجة إلى تقليص اعتمادهم المفرط على شركات التكنولوجيا القوية. ويجب عليهم تمكين تكنولوجيا المصلحة العامة لتحقيق التوازن. يحتاجون إلى إعادة بناء خبراتهم التقنية الخاصة. والأهم من ذلك كله، أن عليهم بناء أنظمة تنظيمية فعّالة ومبتكرة قادرة على مساءلة شركات التكنولوجيا (والحكومات التي تستخدم التكنولوجيا). والقيام بذلك ضروري للحفاظ على المجتمعات الرقمية المفتوحة والحرة والحيوية القائمة على سيادة القانون. تذكرنا الحالة البرازيلية بأن الأوان لم يفت بعد، ويمكن للسلطات الديمقراطية أن تستعيد سيادتها وتؤكد نفسها بفعالية في مجال التكنولوجيا، إذا اختارت استخدام عضلاتها.

كل تلك القوة: تنتج الشركات الخاصة باستمرار اختراعات تكنولوجية جديدة، لكن صناع السياسات فشلوا في مواكبة هذه الوتيرة. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، تم إقرار اثنين من القواعد التنظيمية الرئيسية المتعلقة بالتكنولوجيا، قانون آداب الاتصالات وقانون الألفية الجديدة لحقوق طبع ونشر المواد الرقمية، منذ عقود من الزمن ــ في عامي 1996 و1998 على التوالي ــ قبل وقت طويل من تفكير ستيف جوبز في جهاز الآيفون. وفي السنوات التي تلت ذلك، تقدمت شركات التكنولوجيا من تطوير المنتجات إلى تشغيل أنظمة كاملة تؤثر على المجالات التي كانت تحكمها الدول حصريًا في السابق، مثل البنية التحتية الرقمية وضماناتها الأمنية. ومن خلال إطلاق العنان لأدواتها وخدماتها القوية في عالم يفتقر إلى حواجز الحماية المناسبة، أصبحت شركات التكنولوجيا هي الحاكم الفعلي للتكنولوجيات ذات الأهمية الجيوسياسية الكبرى، بما في ذلك أنظمة التعرف على الوجه، واتصالات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية، وبعض جوانب جمع المعلومات الاستخبارية.

مع نمو سلطتهم، أصبح الرؤساء التنفيذيون في مجال التكنولوجيا شخصيات أكبر من الحياة. ولعل ماسك هو المثال الأكثر وضوحا؛ نظرًا لهجماته المباشرة على زعماء العالم وتورطه في السياسة. وقد تم استدعاء مارك زوكربيرج الرئيس التنفيذي لشركة ميتا بشكل روتيني أمام الكونجرس، والذي قال إن عمله هام بالنسبة للولايات المتحدة للمنافسة مع الصين (وبالتالي لا ينبغي المساس بها).

نتيجة لذلك، تمارس شركات التكنولوجيا الكبيرة والصغيرة الآن سلطة غير مسبوقة، حتى على البنية التحتية الأكثر أهمية. على سبيل المثال، فهي تهيمن على كابلات البيانات الموجودة تحت سطح البحر، والتي تعمل كنظام نقل لكل حركة الإنترنت على مستوى العالم تقريبًا. وينتقل من خلالها ما يقرب من 99 % من بيانات العالم، بما في ذلك 10 تريليونات دولار من المعاملات المالية اليومية والمعلومات الحكومية شديدة الحساسية. بدون الكابلات، ستصبح جميع أنواع الأنشطة الأساسية مستحيلة. والمفترض أن يخضع التحكم بها وتأمينها من قبل الدول أو الهيئات الحكومية الدولية، ولكن بدلًا من ذلك، تقوم الشركات ببنائها واستخدامها والمحافظة عليها بينما يقف صناع السياسات على الهامش.

أسلحة الحرب: تم استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكل مثير للجدل لتحديد أعداد هائلة من الأهداف في غزة. وتستخدم أوكرانيا شركات الأقمار الصناعية للحصول على المعلومات الاستخبارية والتواصل. وقد أعطى هذا الاعتماد على شركات التكنولوجيا نفوذًا ملحوظًا على كيفية تعامل الدول مع دفاعها. إحدى الشركات التي تعتمد عليها أوكرانيا، على سبيل المثال، هي شركة ستارلينك، التي شجعت ماسك على إبداء رأيه في مسار الصراع، حيث دعا إلى مفاوضات السلام بالتوافق مع أهداف الكرملين، الأمر الذي أثار غضب كييف وأنصارها.

في حالات أخرى، أصبحت شركات التكنولوجيا فعليًا أطرافًا مباشرة في الصراعات، فالمواجهات تحدث على نحو متزايد في الفضاء الإلكتروني، وبالتالي تعتمد الدول بشكل متزايد على الشركات الخاصة للدفاع. لنأخذ بعين الاعتبار ما حدث عندما تعرضت شبكات شركة كولونيال بايب لاين لهجوم وطلبت فدية في عام 2021. تعد الشركة واحدة من أكبر موردي الطاقة في الولايات المتحدة، وبالتالي أوقف الهجوم تدفق النفط عبر معظم أنحاء الساحل الشرقي بالولايات المتحدة. أعلنت العديد من الولايات حالة الطوارئ، حيث تشكلت طوابير عند محطات الوقود، وكان لا بد من إعادة توجيه الرحلات الجوية.

في اجتماع مع الرؤساء التنفيذيين للتكنولوجيا في أعقاب الهجوم، اعترف الرئيس جو بايدن بأن «الحقيقة هي أن معظم بنيتنا التحتية الحيوية يملكها ويديرها القطاع الخاص». وتابع: «لا تستطيع الحكومة الفيدرالية مواجهة هذا التحدي بمفردها». كان اعترافًا نادرًا وصريحًا بأن الحكومة فقدت السلطة عندما يتعلق الأمر بحماية البلاد في المجال الرقمي.

في خضم كل هذا الغموض القانوني والسياسي، أصبحت الشركات أكثر راحة في العمل كمرتزقة. تقوم شركات برامج التجسس بتأجير وبيع أدوات استخباراتية متطورة للأنظمة الديكتاتورية والديمقراطية على حد سواء.

المصفوفة موجودة في كل مكان: في كثير من الأحيان، تعمل الدول في ظل عجز في المعلومات عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا. باستثناءات قليلة، تفتقر الدول إلى القدرة على الوصول إلى المعلومات فضلاً عن الخبرة اللازمة لفهم (ناهيك عن تنظيم) الخوارزميات والاختراعات الجديدة. ولأن المعرفة قوة، فإن هذه الندرة تترك صناع السياسات في موقف تفاوضي ضعيف في مواجهة شركات التكنولوجيا القوية، وهو ما يؤدي إلى المزيد من الاستعانة بمصادر خارجية.

تعمل شركات التكنولوجيا أيضًا على تعزيز قوتها من خلال محافظها المالية. تتمتع أكبر شركات التكنولوجيا بثروة استثنائية: تبلغ القيمة السوقية لشركة مايكروسوفت 3.2 تريليون دولار، أي أكثر من إجمالي الناتج المحلي لفرنسا، سابع أكبر اقتصاد في العالم. ونتيجة لذلك، فإن هذه الشركات ليس لديها مشكلة في إنفاق مئات الملايين من الدولارات على ممارسة الضغط، ولأن الساسة وغيرهم من المسؤولين لا يتمتعون إلا بالقليل من الخبرة التقنية، يستطيع ممثلو الشركات صياغة تفكيرهم بسهولة. استخدمت شركات التكنولوجيا أموالها لتأطير الفهم الجماعي العالمي لصناعتها من خلال الاستثمار في مؤسسات الفكر والرأي، والمؤتمرات، والمؤسسات الأكاديمية.

أحد الإطارات التي حققت شركات التكنولوجيا نجاحًا كبيرًا في الترويج لها هو أن «التنظيم يخنق الابتكار»، على حد تعبير فيسبوك عندما حاول منع الهيئات التنظيمية الأوروبية عن تنفيذ توجيهات حماية البيانات في الاتحاد الأوروبي في عام 2012.

الحقيقة أن التنظيم ديناميكي، وليس ثابتًا، ويتكيف كما تفعل الصناعات، وفي العديد من الحالات، أدت حواجز الحماية المسؤولة إلى تحفيز الابتكار. فالشركات، على سبيل المثال، اخترعت المزيد من المنتجات الصديقة للبيئة أو المستدامة بعد دخول قوانين حماية البيئة الأكثر صرامة حيز التنفيذ. ومن الناحية الفلسفية، فإن الابتكار ليس أكثر أهمية من سيادة القانون أو حماية المستهلك أو عدم التمييز أو أي من القيم الديمقراطية.

اكتسبت شركات التكنولوجيا المزيد من القوة من خلال رفض شرح كيفية عمل منتجاتها. ونتيجة لذلك، لا يستطيع الأكاديميون البحث بشكل مستقل في الأعمال الداخلية للخوارزميات أو تطبيقات الذكاء الاصطناعي. تقوم شركات التكنولوجيا بالخداع الصريح أيضًا. أخذت شركة أوبر في ممارسة التشويش باستخدام تطبيق جريبول، وفقًا لتقارير صحيفة نيويورك تايمز، حددت أوبر ضباط إنفاذ القانون في الولايات القضائية التي لم يُسمح للشركة فيها بالعمل بعد. وعندما يفتحون التطبيق، يواجهون صعوبة في تحديد ما إذا كانت خدمة أوبر متاحة بالفعل في مناطقهم. وبهذه الطريقة، تمكنت الشركة من العمل مع تجنب الكشف. وباستثناء الغرامات المتفرقة، لم تفعل الحكومات ما يكفي لكبح جماح هذه الممارسات، والمطالبة بالشفافية، ومحاسبة الشركات.

حتى الآن، تبدو الحكومات الديمقراطية غير مهتمة على نحو صادم بالقوة المتزايدة التي تتمتع بها شركات التكنولوجيا. لقد أطلق النشطاء والصحفيون ناقوس الخطر بشأن هذه الصناعة، لكن الإدارات المتعاقبة للولايات المتحدة متساهلة بشكل متعمد عندما يتعلق الأمر بالقطاع.

كان الاتحاد الأوروبي أكثر نشاطا، ولكن عددًا قليلًا جدًا من قوانينه تهدف إلى إنهاء الاستيلاء على السلطة. تحتاج الديمقراطيات إلى رؤية واضحة لكيفية إدارة التكنولوجيا بشكل شامل. وفي مجتمع تتمتع فيه شركات التكنولوجيا بسلطة اتخاذ القرار الحاسم، ينبغي للحكومة أن تتخذ إجراءات أكثر فعالية.

هناك العديد من الطرق التي يمكن للحكومات الديمقراطية أن تحقق ذلك، وتنطوي على تعريف صناع السياسات بطرق عمل المنتجات التقنية ومن ثم كبح جماح الشركات بشكل فعال. ويمكن للحكومات أن تبدأ بتعديل تدابير حماية السرية التجارية بما يتناسب مع عصر الخوارزميات. وينبغي لها أن تشترط أن يكون لدى الباحثين إمكانية الوصول إلى البيانات وأن الأنظمة التقنية المستخدمة باسم الحكومات يمكن الوصول إليها، على سبيل المثال، من خلال طلبات قانون حرية المعلومات. القيام بذلك من شأنه أن يسمح للجمهور بمعرفة كيفية عمل هذه الأنظمة، مما يسهل إجراء مناقشة تنظيمية مستنيرة.

وعلى الجانب الآخر، ينبغي للشركات أن تلتزم بمعايير شفافية أقوى عندما يتعلق الأمر بالمزايدة على عقود الأراضي والطاقة لمراكز البيانات أو الكشف عن مستثمريها. إذا كانت الشركة غير راغبة في تحديد من يمولها، فهي غير مؤهلة للقيام بأعمال تجارية في السوق المفتوحة.

يتعين على الحكومات أن تحول التركيز من تمرير القوانين إلى تنفيذها بطريقة سريعة. ويتعين عليها ترسيخ القوانين في المبادئ الأساسية للعدالة، والمساواة، وعدم التمييز، والمسؤولية مع مضاعفة التركيز على آليات التنفيذ الملموسة القادرة على تحمل التقدم التكنولوجي الحتمي.

يجب حظر شركات التكنولوجيا من بيع تقنياتها المناهضة للديمقراطية. في عام 2021، أضافت وزارة التجارة الأمريكية مجموعة إن إس أو «NSO»، الشركة الإسرائيلية التي تنتج برامج التجسس سيئة السمعة «Pegasus»، إلى قائمة الحظر التجاري، مما يحد من سهولة تداولها. هذا التصنيف مستحق تمامًا: فبرنامج بيجاسوس عبارة عن أداة تجسس شائعة لدى الحكومات القمعية التي تتطلع إلى مراقبة النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين والمعارضين السياسيين.

لم يفت الأوان لوقف الانقلاب والطغيان التكنولوجي، ولكن يتعين على الحكومات أن تسن إصلاحات نظامية حقيقية حتى تتمكن من استعادة سلطتها وتكريس سيادة القانون.

ماريتشي شاكي سياسية نيذرلاندية وناشطة فـي مجال حقوق الإنسان وحرية الإنترنت. كانت عضوة في البرلمان الأوروبي من 2009 إلى 2019، وركزت على قضايا التكنولوجيا، وحقوق الإنسان، والسياسة الرقمية.

المقال نشر في «Foreign Affairs ».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: شرکات التکنولوجیا عندما یتعلق الأمر على سبیل المثال التکنولوجیا ا صناع السیاسات الوصول إلى من خلال

إقرأ أيضاً:

إشارات تُنذر بالعاصفة الكبرى

عاصفة تقترب من العالم، وسوف نتأثر بها جميعا..

قبل العواصف، تحدث تغيرات غريبة في الجو، لا يستطيع الناس عادة تفسيرها. يشعر الجميع بأن هناك شيئا غير طبيعي، لكن لا يمكنهم فهم سببه بدقة. أظن أن الوضع الراهن في العالم يشبه تماما هذا الشعور.

أشياء غريبة تحدث، ظواهر غير قابلة للتوصيف، تغيّرات شاذة في سلوك البشر، ولا أحد يعلم السبب على وجه التحديد.

هناك تراكم هائل للطاقة السلبية

العديد من خبراء التاريخ السياسي وعلماء الاجتماع الذين تحدثت إليهم شبّهوا الوضع الحالي بما كان عليه العالم قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.

فبعد التحولات العظيمة التي أحدثتها الثورة الصناعية، اندلعت أولا الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية، ولم يُفرغ التوتر المتراكم إلا من خلالهما. واليوم، بعد الثورة الرقمية، وآخرا ثورة الذكاء الاصطناعي، تتراكم طاقة هائلة، والتوتر الناتج عنها يمكن رؤيته في كل مكان.

المعادن النادرة، التي تُعدّ المادة الخام الأساسية لعصر التكنولوجيا، تبدو محور التوتر الحالي. ومع ذلك، فإن التدفق الحر للمعرفة، الذي لم يشهد له التاريخ مثيلا، أدى إلى تعقيدات متعددة. على سبيل المثال، تدفقات المعلومات الملوّثة والموجّهة غذّت أيديولوجيات لا عقلانية، ونتج عنها طبقات اجتماعية أشبه بحالة من الهذيان.

في أميركا، ظهرت حركة "اجعل أميركا عظيمة مجددا" (MAGA)؛ وفي إيطاليا، "حركة النجوم الخمس"؛ وفي ألمانيا، الأحزاب العنصرية؛ في تركيا، جماعة "فتح الله غولن"؛ في إسرائيل، الصهيونية العنصرية؛ في الشرق الأوسط، "تنظيم الدولة"؛ وفي أفريقيا، التنظيمات الإجرامية ذات الطابع الديني والعرقي.

نحن في تركيا نناقش يوميا ازدياد العصابات الإجرامية الصغيرة. أما في أوروبا وأميركا، فالدول أصبحت عاجزة أمام تفشي المخدرات وتهريب البشر وأعمال العنف.

ولعلّكم لاحظتم، حتى في البلدان- التي تعيشون فيها- أن الناس باتوا يميلون إلى العنف بسرعة حتى في اختناقات مرورية بسيطة.

إعلان

ما السبب في كل هذا؟ إنه تماما ما يشبه اضطراب الأجواء الغامضة قبل العاصفة.

لا يمكن تفريغ الطاقة السلبية إلا بالحرب

يوما بعد يوم، تتصاعد التوترات، وتتراكم الطاقة. ولسوء الحظ، لا يتم تفريغ هذه الطاقة إلا من خلال حرب طاحنة. تماما كما حدث قبل الحرب العالمية الثانية.

في ذلك الحين، تصاعدت النزعات القومية، واتسعت الفجوة في توزيع الثروة، وازداد الطمع في الثراء، وبلغ الطلب على المواد الخام ذروته، وصعدت الأيديولوجيات اللاعقلانية، وبرز قادة بأفكار متطرفة جرّوا وراءهم الجماهير.

أما اليوم، فإن قائمة الاحتياجات الجديدة التي خلّفتها الثورة التكنولوجية حوّلت الشركات العملاقة الجشعة إلى أمراء حرب. وهذه الشركات- التي في معظمها مقرها أميركا- تعتقد أنها ستنهار إن حُرمت من المعادن الثمينة.

والولايات المتحدة تملك أكبر جيش في العالم. وهي الآن تحشد ثلث قواتها على حدود فنزويلا، مدعية مكافحة تهريب المخدرات، بينما تطمح في الحقيقة إلى الاستيلاء على النفط والثروات الباطنية.

ولقد صرّحت للعلن بقولها لأوكرانيا: "إذا لم تعطِنا معادنك الثمينة، سنوقف بيع السلاح لك". كما أن أطماعها في غرينلاند وكندا ليست فوق الأرض، بل تحتها.

أوروبا، بعد أن خسرت سباق التكنولوجيا، لم تعد تسعى وراء المعادن الثمينة، وبالتالي لا تنوي شنّ أي حروب. فهي قد استهلكت حقها في العدوان والجشع في القرن الماضي، وأشعلت حربين عالميتين دمويتين.

أما الآن، فيبدو أن الدور آتٍ على الولايات المتحدة، والصين، وروسيا لممارسة دورها "التاريخي" الجديد.

التوتر القائم في تايوان، وإن بدا ذا بُعد جيوسياسي، إلا أن الجاذب الأكبر فيه هو وجود شركة TSMC، التي تُعدّ احتكارا عالميا لإنتاج الرقائق الإلكترونية- وهي اليوم الأساس الأول لكل الصناعات التكنولوجية. بدون الرقائق، سيتوقف تقريبا كل إنتاج تقني على وجه الأرض.

أما روسيا، فقد احتلت ثلث أراضي أوكرانيا، ولا نية لديها للتخلي عنها.

يوما بعد يوم، تتصاعد التوترات، وتتراكم الطاقة. ولسوء الحظ، لا يتم تفريغ هذه الطاقة إلا من خلال حرب طاحنة. تماما كما حدث قبل الحرب العالمية الثانية.

سباق تسلّح مرعب

أمام هذه التهديدات، بدأت أوروبا بالفعل سباقَ تسلحٍ محموما. بل ليس في أوروبا وحدها، بل من أستراليا إلى الشرق الأوسط، ومن أميركا اللاتينية إلى أفريقيا، يجري سباق تسلّح جنوني.

في السنوات العشر الأخيرة، ارتفعت نسبة التسلّح عالميا بنسبة 37%. الأرقام مُفزعة: في عام 2024، أنفق العالم 2.7 تريليون دولار على الأسلحة. ولأجل تغطية هذه التكاليف، تقلّص الدول ميزانيات التعليم، والصحة، والاقتصاد، والتنمية الحضرية. وهذا بدوره يُفاقم من تدهور الحياة الاجتماعية.

بكلمة أخرى، يشهد العالم موجة تسلح عالمية. وتتصدّر الصين، وأميركا، وروسيا مشهد الإنتاج.

لكن، ما مصير كل هذه الأسلحة؟ لا بد أن تُستخدم في مكان ما.

إسرائيل تهاجم ست دول في محيطها محاولة تحقيق أهداف أيديولوجية غير عقلانية. وخلفها تقف أميركا، أكبر مُصنّع ومُصدّر للأسلحة في العالم.

دوافع إسرائيل نابعة من هوسها الأيديولوجي الأعمى بـ"أرض الميعاد"، واهتمامها بنفط البحر المتوسط، ورغبة شركات السلاح الأميركية- التي تخدم معظمها المصالح الإسرائيلية- في جني الأرباح.

أما ما يجري في السودان، والصومال، وغيرها من دول أفريقيا، فلا يمكن قراءته فقط بوصفه صراعا جيوسياسيا، بل هو سباق للسيطرة على الثروات الباطنية.

إعلان

كل ما ذُكر آنفا، ما هو إلا مؤشر على التوتر الهائل وتراكم الطاقة على مستوى العالم.

تصاعد ميول العنف، والرغبة في الثراء السريع، والتمرد المتزايد على الفوارق الطبقية- كل ذلك يدلّ على تراكم طاقات خطيرة على مستوى الأفراد كذلك.

وهذا ما نراه بوضوح في وسائل التواصل الاجتماعي، من موجات تمجّد الحرب، وتشجّع العنف، وتُضفي الشرعية على العدوان.

يحاول الناس التأثير على دولهم، وجيوشهم، وقادتهم الذين باتوا يُعاملون كأنصاف آلهة. الكل يهدد الكل، الأصابع مشهرة في الوجوه، والعنف صار فضيلة.

ولهذا، هناك عاصفة تقترب- وسوف تعصف في يوم ما لا محالة.

"لن يُنقذنا سوى إله"

رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية التركي (MIT) وأستاذ الفلسفة، البروفيسور إبراهيم قالن، نشر الشهر الماضي كتابا جديدا بعنوان: "رحلة إلى كوخ هايدغر".

الكتاب يتناول تأملات الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر حول "الوجود".

في أحد فصول الكتاب، يتحدث هايدغر عن الفوضى التي غرقت فيها البشرية بعد الثورة الصناعية، ويقول إن عالما يضع التكنولوجيا في المركز، ويختزل الإنسان إلى مجرد أداة إنتاج، إنما يتحوّل إلى حضارة فقدت معناها.

وعندما يُسأل: كيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟ يجيب:

"لن يُنقذنا سوى إله".

إلا أن هايدغر لا يقصد "إلها" دينيا بالمفهوم التقليدي.

بل يقصد أن الخروج من سجن التكنولوجيا ليس أمرا يمكن أن تحققه الإرادة البشرية وحدها؛ بل يحتاج إلى "انفتاح جديد"، إلى أفق غير مألوف، إلى انبعاث غير تقليدي.

أليس هذا تماما ما نعيشه اليوم؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • منصات الدفع والبلوكشين والذكاء الاصطناعي تتصدر أجندة ملتقى التكنولوجيا المالية 2025
  • بنك الإنماء الصناعي مصلحة وطنيه فلماذا تؤجله الحكومات ؟؟
  • أي دول أوروبية تبني الذكاء الاصطناعي السيادي الخاص بها للتنافس في سباق التكنولوجيا؟
  • بين الوعد والتنفيذ: الفساد يبتلع مشاريع مصر الكبرى
  • وزير الاتصالات: ديجيتوبيا مدينة المستقبل الرقمية والإنسان يظل قائد التكنولوجيا
  • يوم التضامن | الرئيس السيسي: العالم يشهد الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في مواجهة طغيان الاحتلال
  • منظمة دولية: التكنولوجيا تُستخدم لإسكات النساء وابتزازهن في ليبيا
  • هيئة الاستثمار تبحث مع الشركات القطرية الفرص المتاحة في مصر
  • إشارات تُنذر بالعاصفة الكبرى
  • الجراح تهنّئ الدكتورة حنان ملكاوي لفوزها بجائزة أفضل عالم عربي في التكنولوجيا الحيوية