شهدنا قبل أقل من عقد من الآن رصداً لموجات الجاذبية، تم الأمر من خلال مراصد تداخل الليزر المخصصة لذلك، وقدم الاكتشاف دليلًا مباشرًا على وجود موجات الجاذبية، ما أكد تنبؤاً رئيسيًا لنظرية أينشتاين وفتح حقبة جديدة من علم فلك موجات الجاذبية، هذا التأكيد يرسخ نظرية علمية وبالتالي يزحزح أفكاراً أقدم منها، إنه ضرب من التغييرات التي اعتبرها توماس كون ثورات في التفكير العلمي، وهي استعارة من علم الاجتماع السياسي، أما كارل بوبر فإنه إضافة إلى اعتباره أن المنهج العلمي إنما يقوم على إمكانية الدحض فإن التقدم عنده يكمن في ممارسة الافتراض والتفنيد، ويرى مسألة التقدم العلمي من منظور تطوري وتحديداً من مبدأ الانتخاب الطبيعي، فكيف يتقدم العلم؟
يمكن اعتبار التقدم العلمي وسيلة بشرية للتكيف مع البيئة، تستند إلى مبدأ التجربة والخطأ، لاغتنام فرص موجودة أو اختراع فرص أخرى، فمنذ العصور الغابرة تحكم البشر بالتقنيات ليتكيفوا مع محيطهم ولتسخير ذلك المحيط لتحقيق غاياتهم، مسخرين طاقة الاحتراق مثلاً ما أدى إلى تغير كبير في الأنظمة البيئية، يرى بوبر أن الاكتشاف العلمي هو نوع من التكيف، مشيرا إلى ثلاثة مستويات من التكيف: التكيف الجيني والتكيف السلوكي والاكتشاف العلمي، ومن حيث المبدأ فإن آلية التكيف في الحالات الثلاث واحدة وإن اختلفت عن بعضها في أوجه أخرى، يقول بوبر: «يبدأ التكيف من بنية موروثة أساسية في المستويات الثلاثة: وذلك واضح في وراثة التركيب الجيني للكائن الحي، أما على المستوى السلوكي، فإن المخزون السلوكي هو أيضاً متأصل ومتاح للكائن الحي؛ وعلى المستوى العلمي تنتقل الفرضيات أو النظريات العلمية المهيمنة بإيعاز داخلي من بنية كل واحدة منها» ويمكن اعتبار الطفرات في المستويات الثلاثة في أنها تتمثل في الطفرات الجينية في الأولى والسلوك الجديد في الثانية أما في الثالثة وهي التقدم العلمي فإن الطفرة تتمثل في تبني فرضيات جديدة ينتج عنها أفق من التحديات والمشكلات الجديدة، وكما هو واضح فإن الفكرة تخلص إلى أن مخرجات التكيف في المستويات الثلاثة إنما تنبع من داخل البنى لا من البيئة الخارجية المحيطة بها.
ويرى كون أن الثورة العلمية تكون مسبوقة بممارسة اعتيادية لما يسميه العلم العادي، أي الممارسات المستندة إلى النظريات المعتادة في زمن تلك الممارسة، حتى يظهر ما يسميه عدم انتظام التوقع وخير مثال على ذلك هو التحدي الذي واجه العلماء في تفسير إشعاع الجسم الأسود والذي أدى إلى ظهور نموذج نمطي جديد للتفكير أو «بارادايم» جديد هو ميكانيكا الكم، هذا التغيير هو ما يطلق عليه كون مسمى ثورة وتستتبع الثورة العلمية تعارضاً بين النظرية الجديدة والقديمة كالتعارض بين الفكرة القديمة للفيزياء الكلاسيكية بإمكانية قياس متغيري الموضع والزخم لجسيم ما، وبين مبدأ عدم التحديد لهايزنبرج في فيزياء الكم والذي ينص على محدودية إمكانية قياس المتغيرين بدقة في ذات الوقت.
وعلى قدر التعقيد والتشعب الذي تتسم به مجالات العلم تكون التحديات والعقبات معقدة ومتشعبة بدورها، وأهمها التحديات الاقتصادية، ولا يتعلق الأمر بحجم التمويل متمثلاً بتفاوت نسبة الإنفاق على البحث العلمي بين دول وأخرى، حيث يصل في بعض الدول إلى 4 في المائة بينما يكون أقل من واحد في المائة في دول أخرى، ليس ذلك وحسب، وإنما هناك تحديات تتعلق بتوزيع التمويل، وإذ تفرض المبادئ الربحية نظامها في التمويل فإن انعكاس ذلك يكمن في أن المجالات العلمية التي تحصل على قدر أعلى من ضخ الأموال فيها تكون أكثر أهمية، ويؤدي ذلك إلى تأخر التقدم العلمي في المجالات الأخرى.
ومع كل فتح علمي هناك من يرى كارثة جلبها ذلك التقدم، فقد أعلنت المفوضية الأوربية مؤخراً عن تخفيف القيود التشريعية المتعلقة بالمنتجات الزراعية الناتجة عن استخدام أداة التعديل الجيني كريسبر، التقنية التي تحمل آفاقا واعدة تتمثل في تخليص المواليد من الأمراض الجينية وتعطي أملا للدول الإفريقية بالقدرة على تحسين النوع النباتي خلال فترة وجيزة ما يؤدي إلى وفرة غذائية، إلا أن تلك التقنية تواجه معارضة كبيرة بسبب المخاطر البيئية والأخلاقية المحتملة، وهذه التحديات يرى فيها الكثيرون الحد الآخر لسيف العلم، فكما أحيا التقدم العلمي متمثلاً في إنجازات الطب الحيوي النفوس من خلال اللقاحات التي اجتثت العديد من الأمراض الفتاكة وخفضت معدل الوفيات من الأمراض المعدية، إلا أن ذلك التقدم فتح الباب لإمكانية التصنيع المتعمد للأسلحة البيولوجية في الوقت ذاته الذي يحفظ فيه نفوس البشر. يرى بوبر في كتابه المهم «المجتمع المفتوح وأعداؤه» أن الاعتماد على نظريات اجتماعية تتنبأ بالمسار المستقبلي للتاريخ هو أمر معرقل للتقدم العلمي ويرى أن المستقبل تشكله التطورات العلمية وهي تطورات لا يمكن التنبؤ بها وبالتالي فإن التقدم العلمي لا يرتهن بتنبؤات حول المستقبل بل بالظروف التي ينشئها الإنسان المعاصر لتحرير الأفكار العلمية بتهيئة ظروف العمل المؤسسي والقانوني في المجتمعات ما يدعم تقدم العلم ويقلل من أثر الجانب المظلم منه.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
افتتاح الدورة العلمية الكبرى إتحاف الناسك بأحكام المناسك في المسجد الحرام
مكة المكرمة
افتتح سماحة المفتي العام للمملكة رئيس هيئة كبار العلماء الرئيس العام للبحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ، اليوم، الدورة العلمية الكبرى”إتحاف الناسك بأحكام المناسك” في المسجد الحرام، التي أطلقتها رئاسة الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي بالتعاون مع الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء خلال الفترة من 19 ذي القعدة إلى 5 ذي الحجة 1446هـ.
وأكد معالي رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس، أن الرئاسة حريصة على إيصال رسالة الحج الوسطية إلى العالم، وإبراز جهود المملكة في خدمة ضيوف الرحمن، معبرًا عن شكره لسماحة المفتي العام للمملكة لمشاركته في الندوة العلمية ودعمه لتعزيز رسالة الحج الوسطية العالمية، وعلى متابعة سماحته وحرصه على تعزيز البرامج التوجيهية والإرشادية والدعوية بالحرمين الشريفين، والتعاون البناء بين الرئاسة والأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، لا سيما في موسم الحج، كما شكر أصحاب المعالي والفضيلة المشاركين في الدورة العلمية، التي تقام في رحاب المسجد الحرام، وتعد الأكبر من نوعها.
وسيشارك في الدورة العلمية سماحة المفتي العام للمملكة، ومعالي عضو هيئة كبار العلماء فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، ومعالي المستشار بالديوان الملكي عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد المطلق، ومعالي عضو هيئة كبار العلماء فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، ومعالي رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس، ومعالي المستشار بالديوان الملكي عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري، وعضو هيئة كبار العلماء فضيلة الشيخ الدكتور جبريل بن محمد البصيلي، وعضو هيئة كبار العلماء فضيلة الشيخ الدكتور سامي بن محمد الصقير، وعضو هيئة كبار العلماء فضيلة الشيخ عبدالباقي بن محمد آل الشيخ مبارك، وعضو هيئة كبار العلماء فضيلة الشيخ الدكتور عبدالإله بن محمد الملا.
وتهدف الدورة إلى نشر العلم الشرعي، وتوعية الحجاج بأحكام المناسك، من خلال نخبة من أصحاب المعالي والفضيلة، تعزيزًا لدور المسجد الحرام في التوجيه والإرشاد الديني خلال موسم الحج.