من دفع الثمن لتتربع أميركا على العرش؟
تاريخ النشر: 17th, October 2024 GMT
جاء في بيان الاستقلال الأميركي، في الرابع من يوليو/تموز 1776، أن الملك جورج الثالث أضرّ باقتصاد البلاد حين "قطع تجارتها مع باقي العالم". التجارة مع العالم، بالنسبة للعقل الأميركي المبكّر، مسألة وجودية من شأن التلاعب بها أن يتسبب في "ثورة".
على مرّ الأزمنة كانت الكيانات السياسية، دول وغيرها، تسعى إلى أمرَين: الحصول على ما يكفي من الموارد، والتجارة مع باقي العالم.
شهدت التجارة العابرة للحدود تطورًا وتراجعًا عبر الزمن، وكانت الأسواق بين الدول تنتعش وتتلاشى، تتقارب وتتباعد، ولكنها بقيت حقيقة تاريخية. بين القرنين 15 و18 نمت التجارة العالمية على نحو بطيء لم يتجاوز الواحد بالمائة. برغم النمو البطيء لحجم التجارة العالمية خلال حقب زمنية واسعة فإن مفهومًا عامًا عن السوق العالمية استقرّ وتأكد.
تطلب نمو السوق العابرة للحدود وجود قوة "عالمية" نشطة خارج حدودها، قادرة على حماية تلك السوق، كما يتعيّن عليها من خلال عملتها وبضائعها أن تضمن الاستقرار. مطلع الـ 19 كانت بريطانيا هي القوة الاقتصادية العظمى في العالم، ونجحت عملتها في أن تكون مستقرّة وآمنة بالنسبة للذهب. مثّلت تلك القوة "العالمية" المهاد الملائم للسوق، وكان الإسترليني هو العملة الآمنة التي تضبط إيقاع التجارة والتبادلات. شهد القرن الـ 19 تحول أوروبا إلى عصر الصناعة.
تراكمت البضائع، ولم يعد بمقدور الأسواق المحلّية استيعاب كل ما تنتجه الآلة. تخلّقت الحاجة لسوق دولية تأتي منها المواد الخام وتذهب إليها منتجات المصانع. مع توقيع بريطانيا، وفرنسا على اتفاق التجارة الحرّة، 1860، كذا اتفاق الدول الإسكندنافية الكبرى الثلاث على اتحاد نقدي، فقد وضع العالم قدميه على عتبات الموجة الأولى من العولمة.
جرى الانتقال من السوق الدولية إلى العولمة بفعل التدفق المتسارع للبضائع، الأفكار، الأفراد، الأموال، والتقانة ليس بين الدول وحسب بل بين القارات. ازدحام العالم على ذلك النحو جعله أكثر ترابطًا ثقافيًا وفنّيًا، فنشأت فعاليات ومواسم دولية متنوّعة أسهمت في تعزيز الأواصر الدولية الجديدة.
بدا أن الشكل الجديد الذي بات عليه العالم، حيث تشابكت المصالح والثقافات وتداخلت الأموال، سيجعل الحروب جزءًا من الماضي. قيل آنذاك، كما سيقال بعد قرن من الزمن، إن البشرية قد وصلت إلى نهاية التاريخ، وإنه لا مكان للحروب، وإن الرؤية الرأسمالية للعالم هي حصنه الآمن. بيْد أن الحرب العالمية الأولى اندلعت من رحم تلك الموجة العولمية وأتت عليها من جذورها.
انكمش العالم مجددًا وأغلقت الحدود أمام البضائع، بل والأفكار أيضًا. إلى الخلف منها، وأمامها، تركت الحرب العالمية الأولى كل أسبابها قائمة، فانزلقت القوى الاستعمارية الكبرى مجدّدًا إلى حرب كونية ثانية. على الضفة الأخرى من الأطلسي كانت أميركا تتفتت تحت حوافر "الكساد الكبير"، إذ توقفت الآلة عن العمل، وذهب الناس إلى البيات على الأرصفة.
قال عزيز "إن 17 مليون عراقيّ لا يساورهم أدنى شك في قدرة بلادهم على الانتصار" فرد عليه بيكر بالقول إنه ليس بمقدور أحد في العالم تخيّل ما أعدته أميركا لتلك المعركة
جاءت الحرب العالمية الثانية لتنقذ أميركا من تلك الهاوية، فالحرب أيضًا سوق، وأميركا تعلم حاجتها الوجودية إلى السوق الدولية. حيال تلك الحرب انقسم الشعب الأميركي إلى قسمين: قسم ذهب إلى المعركة، وآخر إلى مصانع السلاح.
الكارثة التي أصابت كل القارات بلا استثناء ربحتها أميركا، وستعطي نفسها الحق في الادعاء بأنها باتت تملك العالم. قبل أن تضع الحرب أوزارها كانت أميركا قد أكدت نفسها بحسبانها القوة الاقتصادية الأسرع نمومًا والأكثر استقرارًا وفاعلية.
مع اتفاقية بريتون وودز، 1944، ربطت أميركا عملات كل الأمم بالدولار، وربطت الدولار بالذهب. على هذا النحو وضعت أميركا نهاية للنسخة البريطانية من العولمة، وأنهى الدولار زمن الجنيه الإسترليني وتربّع على عرشه.
قادت أميركا الموجة الثانية من العولمة وأوصلتها إلى حرب فيتنام، الحرب التي فرضت تداعيات داخلية وخارجية مزلزلة. في فيتنام تصادمت القوى الدولية، وبدت أميركا التي أسكرها الدولار والسلاح أقل جدارةً من أن تقود العالم إلى سلام من خلال التجارة.
في أتون تلك التعقيدات قرر الرئيس نيكسون الواقع تحت ضغوط داخلية متعددة المستويات، إلغاء ارتباط الدولار بالذهب، فيما عرف بصدمة نيكسون، 1971 منهيًا بذلك الموجة الثانية من العولمة.
تراجعت الأسواق إلى الخلف، إذ صارت فجأة بلا غطاء. تداعت المسائل الدولية الشائكة على نحو غير مسبوق، وأضافت صدمة النفط 1973 إلى معاناة التجارة العالمية التي تلقت بذلك رصاصة الرحمة، أو المسمار الأخير في النعش. توسعت الحرب الباردة في الفراغ الذي تركته العولمة، وتفككت الأواصر الدولية ثقافيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا.
ذهب العالم إلى جزر ثلاث: الاتحاد السوفياتي، الغرب، وكتلة عدم الانحياز التي ستطلق على نفسها صفة العالم الثالث، أي ذلك الذي لا ينتمي إلى أيّ من العالمين المتصارعين، وهو تعبير استخدمه الزعيم الهندي نهرو، أواخر أربعينيات القرن الماضي.
مع انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي تغيّر شكل العالم مجددًا وتخلّق فضاء جديد للتجارة العالمية بقيادة أميركا التي ستعطي نفسها الحق، مرّة أخرى، في ادعاء امتلاك العالم. انطلقت الموجة الثالثة من العولمة معزّزة بالموجة الثالثة من الديمقراطية، حيث التحقت عشرات الدول بالعالم الديمقراطي.
على أنقاض الشيوعية تأسست أسواق جديدة وشبكات مصالح مالية عابرة للحدود. أمام إبهار الموجة الثالثة من العولمة نظّر فوكوياما، ومعه كثيرون، حول نهاية التاريخ، أي وضع مستدام تصبح فيه القيم الغربية هي قيم العالم، والرأسمالية هي لغته. ركنت أميركا إلى انتصارها النهائي ودخلت في حقبة ممتدة من اللهو على مسارح عديدة حول العالم، متشاغلة بتحديات خفيضة المستوى، ما أدى إلى ضمورها إستراتيجيًّا كما يلاحظ وزير دفاعاها السابق مراك إسبر.
الموجة الثالثة تتراجعقبل أن تقرر أميركا إدخال العالم كلّه، مرّة أخرى، تحت سقف واحد، قامت باستعراض عسكري، تمكنت خلاله من إخراج العراق من عصر الصناعة، حد وصف روجيه غارودي. نال العراق النازلة التي همس بها جيمس بيكر، وزير خارجية أميركا آنذاك، في أذنَي طارق عزيز في مفاوضات الفرصة الأخيرة التي جرت في جنيف قبل الحرب بأيام قليلة.
فحين قال عزيز "إن 17 مليون عراقيّ لا يساورهم أدنى شك في قدرة بلادهم على الانتصار" فإن بيكر رد عليه بالقول إنه ليس بمقدور أحد في العالم تخيّل ما أعدته أميركا لتلك المعركة. هزمت أميركا العراق وروّعت سائر العالم.
كان ذلك هو الدخول الدرامي المهيب الذي دشنت به الموجة الثانية من العولمة – الأمركة بتعبير أدق. سبق أن استعرضت على المسرح الياباني بالطريقة ذاتها بُعيد الحرب العالمية الثانية ومع الدخول في عهد "بريتون وودز". قبل أن تصل البضائع الأميركية لا بدّ للعالم أن يرى النيران.
تفرّد أميركا بالعالم مجدّدًا جعلها تسكر بالقوة المطلقة، فدخلت في سلسلة من الحروب المتوالدة إلى أن وصلت إلى غمار الحرب الروسية – الأوكرانية. كما أن مساندتها لإسرائيل في حروبها الخمسة على غزّة جعلها في مواجهة أخلاقية، واقتصادية، مع الشعوب الإسلامية. مضافًا إلى ذلك فقد نجح وباء كورونا في التشكيك بمنظومة العقائد التي نشأت حول استقرار السوق الدولية وثباتها. إذ بدا أن القرية العالمية الجديدة تقوم على خطوط اتصال وسلاسل إمداد عرضة للانقطاع والتلف.
بالموازاة فقد انتعشت ضروب شتّى من التيارات اليمينية على جانبَي الأطلسي وفي مراكز العولمة الاقتصادية، وهي ظاهرة نوستالجية في المقام الأول تريد العودة بفكرة الدولة إلى القرن التاسع عشر، حيث تعمل السلطات على التحكم بكل ما يتدفق عبر الحدود من الأفكار إلى البضائع.
الرواج الذي لاقته الشعبوية فتحت سوق المزايدات الداخلية، واندفع قطاع من الليبراليين ليلتحق بالموجة، وسُمع صوت بايدن وهو يخاطب ناخبيه قائلًا "لا بد أن تصبح كل بضاعة يحملها كل قطار يمرّ في بلادنا من إنتاج بلادنا". تريد التيارات اليمينية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء على وجه الخصوص، وهي تعاني التدفق اللامحدود للعمل والأفراد والبضائع من الخارج.
قبل أن تحوز التيارات اليمينية تلك المكانة كانت القوى الرأسمالية الليبرالية نفسها قد دفعت العالم في اتجاه "حارب باردة ثانية". فالعولمة التي بلا سقف، العولمة التي هي حقيقة وجودية كالرياح والأمطار (وفقًا لكلمات بيل كلينتون 2000، وتوني بلير2019) لا بدّ أن تستمر من المركز إلى الأطراف. إن حدث غير ذلك فإن الظواهر اليمينية تجتاح الفضاء العام، والرأسمالية الليبرالية تتراجع إلى الوراء، وتنصب نقاط التفتيش على الحدود.
المظهر الأبرز للعولمة تمثّل في انتقال الآلة الصناعية من أوروبا إلى خارج حدودها deindustrialization. تنشط الرأسمالية في الأماكن التي توفر سوقًا جديدة وعمالة منخفضة الكلفة، وهو ما لم يعد يتحقق في الدول المتقدمة.
انحسار موجة التصنيع على ضفتَي الأطلسي، خصوصًا الصناعات الثقيلة الكثيفة، أحدث تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة. لم يكن هذا التحول قدرًا حتميًّا، كما يردد أرباب المال، بل يعكس الكيفية التي يعمل بها الرأسمال، فهو يركض خلف الأسواق الناشئة والعمالة الرخيصة من بلاد إلى أخرى، ويترك خلفه خرابًا، كما حدث في أماكن عديدة في أوروبا وأميركا لا تزال فيها هياكل المصانع شاهدة على الطبيعة الأنانية المدمّرة للرأسمالية. على أطلال تلك المصانع تقف التيارات الشعبوية، وتنتج خطابها القومي المعادي لكل من هو آخر، وكل ما هو آخر.
في ستينيات القرن الماضي قال الرئيس الأميركي جون كينيدي إنه سيحمل شعلة الحرية إلى كل مكان في العالم. المعنى النهائي للحرية في الخطاب السياسي الأميركي يذهب إلى التدفق الحرّ للسلع والأفكار والأفراد بما لا يمس هيمنة أميركا على العالم.
الآن تعود تلك الشعلة إلى بلادها منطفئة، إذ تفرض أميركا رسومًا حمائية ضد قطاع واسع من المنتجات التي تصنّع خارج حدودها. لا بدّ أن تمضي الشعلة في اتجاه واحد فقط، من المركز إلى الأطراف. إلى الحمائية ذهبت أوروبا أيضًا لتفرض رسومًا باهظة على قائمة من البضائع الصينية عالية القدرة التنافسية كالسيارات الكهربائية وغيرها. أبعد من ذلك فثمة دلائل على أن أوروبا ماضية إلى الاشتباك اقتصاديًا مع أميركا، وأن الضفتين ستتبادلان اللكمات والعقوبات بما سيسرّع من تراجع الموجة الثالثة من العولمة كما شهدنا سابقًا.
الحمائية الأميركية، كما يتحمس لها الشعبويون الأميركيون والرأسماليون المهزومون، هي ردّة عن ديانة السوق، جوهر الفكرة الكوكبية. انخفض الحماس الأميركي للتبادل الحُر للسلع حين لاحظ رأسماليو تلك البلاد أن العولمة ليست طريقًا من اتجاه واحد كما تخيّلوها مطلع تسعينيات القرن الماضي. قرروا التراجع إلى الوراء وفرض تعريفات جمركية ضد المنتجات القادمة من وراء الحدود؛ بهدف حماية المنتج المحلّي. ما يعني، بتعبير البروفيسور ريتشارد وولف، منح قلادة النصر لمن خسروا السباق.
بحسب تقرير حديث لصحيفة فايننشال تايمز، فقد أعدت المفوضية الأوروبية إستراتيجية لمواجهة سياسات ترامب الرامية إلى فرض تعريفة جمركية بنسبة 10% على السلع الأجنبية. تقتضي الخطة الأوروبية فرض رسوم تصل إلى 50% على قائمة من الواردات الأوروبية في حال قرر ترامب المضي في سياساته. تتفكك العولمة التجارية في بلدان المنشأ، ومعها تتراجع الديمقراطية الليبرالية إلى الخلف مفسحة الطريق لديمقراطية غير ليبرالية، تمجد الهوية الإثنية وتحتقر التنوّع الثقافي، وتنادي بعودة الدولة القومية القائمة على العرق.
عداء الظواهر الشعبوية لما هو أجنبي يدفعها إلى معادة السوق الدولية، أي العولمة، كونها مسؤولة عن تبديد الهويّة من ناحية، ونقل الآلات إلى الخارج من جهة أخرى.
وللحديث بقية..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الموجة الثالثة من الحرب العالمیة السوق الدولیة من العولمة فی العالم قبل أن
إقرأ أيضاً:
في انتظار نهاية العالم.. السيرة الدينية لسفير أميركا في إسرائيل
على وقع الصواريخ الباليستية الإيرانية التي تنطلق بتوقيت ليلي لقصف تل أبيب، جلس السفير الأميركي في إسرائيل والقس والواعظ السابق مايك هاكابي من أجل كتابة رسالة ملحمية إلى الرئيس دونالد ترمب، محرضًا إياه على التدخل في الحرب الإسرائيلية على إيران.
"السيد الرئيس، لقد نجاك الله [من محاولة الاغتيال] في بتلر، بنسلفانيا، لتكون أكثر رئيس تأثيرا خلال قرن، وربما في التاريخ كله. القرارات التي تقع على عاتقك لا أود أن يتخذها أي شخص آخر".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الضفة الغربية في الرواية "التوراتية" الإسرائيليةlist 2 of 2لماذا قررت إسرائيل تغيير قواعد الحرب مع إيران؟ هل السر إيال زامير؟end of listوبنبرة وعظيّة مكثفة أضاف "هناك أصوات عديدة تتحدث إليك يا سيدي، لكن هناك صوت واحد فقط يهم: صوته هو (الرب)".
بحسب هاكابي الذي لا يرى العالم إلى من فوق منبر كنيسته المعمدانية، لم تكن هذه المرة الأولى التي تنقذ فيها العناية الإلهية رجال السياسة الأميركيين.
وفي كتابه "الثلاث "سي أس C’s" التي جعلت أميركا عظيمة: المسيحية، الرأسمالية والدستور" (THE THREE C’s THAT MADE AMERICA GREAT: CHRISTIANITY, CAPITALISM AND THE CONSTITUTION)، قدم رواية دينية لقيام الولايات المتحدة الأميركية.
يروي هاكابي أحداث الثورة الأميركية كانعكاس لتدخل إلهي مباشر تغير فيه مجرى التاريخ بسبب تسخير الطقس لرجال مؤمنين يريدون إعلاء سلطان الله في الأرض.
ففي مارس/آذار 1776، حين نصب الثوار مدافعهم على تلال دورشيستر خلال حصار بوسطن، قرر البريطانيون شن هجوم ليلي لإزالتها، لكن عاصفة ثلجية مفاجئة أفشلت الهجوم، وقرر الجنرال ويليام هاو الانسحاب الكامل، في أول نصر إستراتيجي للثوار دون قتال.
وفي أغسطس/آب من العام نفسه، وبعد الهزيمة في معركة بروكلين هايتس، وجد جورج واشنطن نفسه محاصرًا على ضفاف نهر إيست، لكن ضبابًا كثيفا نزل ليلًا أتاح لجيشه الانسحاب الآمن عبر القوارب دون أن يكتشفه البريطانيون.
ثم في ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته، حين عبر واشنطن نهر ديلاوير لمهاجمة خصومه في ترينتون، شهد جنوده عاصفة ثلجية ورياحًا عاتية كانت تضرب وجه العدو، وأسهمت في إرباكهم وتحقيق نصر خاطف وأسر مئات الجنود. يروي هاكابي هذه الوقائع كعلامات تأييد إلهي لا لبس فيه، مؤمنًا بأن السماء نفسها انحازت لمولد أميركا.
بالنسبة لأول سفير إنجيلي أميركي لإسرائيل، لا يُعدّ دعم إسرائيل خيارًا سياسيا فحسب، بل التزامًا دينيا ينبع من النص المقدس. ففي تفسيره لوعد الله لإبراهيم في سفر التكوين "أبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه" (تكوين 12:3)، قال هاكابي لمقدم البودكاست والناشط تشارلي كيرك "دون تقديم أي اعتذار، أؤمن أن من يبارك إسرائيل سيُبارك، ومن يلعنها سيُلعن. وأريد أن أكون من المُباركين".
إعلانوفي خطاب ألقاه من القدس عام 2017، قدم هاكابي المطّلع على الخلاف اللاهوتي بين عقيدته المسيحية الصهيونية جملةً توضح عمق ما يؤمن به "يمكنك أن تكون يهوديا ولا علاقة لك بالمسيحية، ولكن لا يمكنك أن تكون مسيحيًّا دون أن يكون لك علاقة وثيقة باليهودية".
هذه العقيدة تُشكّل قطب الرحى في لاهوت هاكابي الإنجيلي، وتُبرز أهمية وجود دولة إسرائيل الحديثة، وضرورة استعادتها ليهودا والسامرة (الضفة الغربية) لتحقيق نبوءات غيبية، لا مجرد حدث جيوسياسي عابر.
بالنسبة للكنيسة المعمدانية الإنجيلية التي ينتمي إليها هاكابي، لا تمثل إسرائيل مجرد دولة على الخريطة، بل محطة نبوءة رئيسية يقف فيها المؤمنون بعصمة الكتاب المقدس انتظارًا للقطار الذي يحمل عودة يسوع المسيح، والمحطة القادمة ستكون نهاية العالم!
يرى الإنجيليون قيام الدولة العبرية عام 1948 تجسيدًا لنصوص نبوئية من العهد القديم، أبرزها ما ورد في سفر حزقيال (الإصحاح 37) وكتاب دانيال، إذ تشير هذه الكتب إلى عودة اليهود إلى "أرض الموعد" كعلامة كبرى على اقتراب قيام الساعة.
ينازع المعمدانيون اليهودَ وصف "شعب الله" ولا يسلمون لهم به. ولكنهم يرون في إسرائيل كدولة قومية لليهود، دورًا جوهريا في الخطة الإلهية التي تمهّد لعودة المسيح الثانية. يؤمن المعمدانيون بأن المسيح سيعود إلى الأرض عودة ماديّة ليؤسس مملكته التي تمتد لألف عام في القدس فيما يُعرف بـ"الملك الألفي". ولكن عودته لن تتم حتى يُعاد بناء الهيكل في موقع المسجد الأقصى، كما تحكي النبوءة.
في زيارة لهاكابي للأراضي المحتلة عام 2017 قدم خطابًا يؤطر فيه الخلاف السياسي بلغة دينية صريحة قائلا "لا وجود لما تسمّى الضفة الغربية، إنها يهودا والسامرة. لا وجود لما تسمّى مستوطنات، إنها مجتمعات، وأحياء، ومدن. ولا وجود لما يُسمّى احتلالًا".
وتبلغ تصورات الإنجيليين لنهاية العالم ذروتها في معركة هارمجدون، المعركة الخاتمة للصراع بين قوى الخير بقيادة المسيح، وقوى الشر بقيادة "المسيح الدجال"، والتي ستقع في شمال فلسطين، حيث ينتهي الصراع بانتصار الرب وإقامة ملكوته الأرضي.
مع صعود الإنجيليين في الحكومة الأميركية، تقفز النبوءات من الكتاب المقدس وقاعات الدرس اللاهوتي إلى المؤسسات السياسية وتوضع على أجندة العمل لدى مبعوثي الحكومة الأميركية إلى الشرق الأوسط.
شاب نشأ في مذبح الرببدأت رحلة هاكابي المولود في أركنساس عام 1955 مع الكلمة المكتوبة في الصحافة المدرسية، حيث ترأس صحيفة المدرسة في المرحلة الإعدادية، وفي أول عمل استقصائي له كتب بحماسة شبابية عن قذارة مقصف المدرسة، دافعًا الإدارة إلى التحرك. حين قرأ المشرف المقالة، نظر إليه وقال "ينبض في عروقك دم محرّر صحافة صفراء".
كان والده الذي يعمل رجل إطفاء يرى في اشتغال ابنه بالصحافة ترفًا لا يعين على إعالة الأسرة، لكن معلّمته للإنجليزية رأت موهبته وأهدته كتابا لتطوير مستواه، وقالت للفتى الذي هزّته نظرة أبيه للصحافة "الكلمات رصاص الرجل الأعزل". سيكبر الفتى الأعزل ويسخّر كلماته للدفاع عن حق حمل السلاح، واتخاذ خيار العنف المفرط ضد ما يسميه بالإسلام المتطرف.
إعلانكتب هاكابي في شبابه مقالات وعظية للشباب، دعا في بعضها الشباب المسيحي للابتعاد عن الرقص في الحفلات الموسيقية، ليس لأنه حرام، وإنما لأنه يخل بوقار الشاب المسيحي الصالح!
كتب "لا أظن أن كل من يذهب إلى حفلات الرقص يفعل ذلك ليتعاطى الكحول أو ليثير شهوات رفيقته، لكني لا أجد في الرقص خيرًا يُذكر". نصيحته كانت واضحة "ابتعدوا عن الرقص، لأنه قد يدفع الناس لإساءة الظن بكم".
"القدم الراقصة والركبة المُصلّية لا تجتمعان في ساق"
كما كان يردد رجال الدين
لاحقًا، انخرط هاكابي في الصراع العقائدي الذي هزّ الكنيسة المعمدانية الجنوبية فيما يتعلق بعصمة الكتاب المقدس، وعقيدة المسيحية وتولي المرأة منصبًا قياديا في الكنيسة. كان هاكابي في صف المحافظين الذين رأوا أن المرأة لا تكون رأسًا دينيا، والعقيدة هي لبّ الدين، والإنجيل نص معصوم!
قال عن خصومه الليبراليين الذين رأى في تأويلاتهم تمييعًا للعقيدة المسيحية، "لقد أعادوا تعريف الإنجيل ليجعلوه رسالة اجتماعية ناعمة لا تُغيّر القلوب".
عرف هاكابي أن أقصر الطرق إلى السياسة هي منبر الوعظ، فامتطاه. صنعت معركته اللاهوتية منه قائدًا سياسيا؛ فقد كونت له قاعدة جماهيرية، وصقلت مهاراته الخطابية. يقول سكوت لامب مؤلف سيرته إنه اختار هاكابي لأنه شخصية محورية في اليمين الإنجيلي، يجمع بين الدين والسياسة والإعلام، وجعل "أميركا العميقة" مرئية من جديد.
تولى هاكابي منصب حاكم أركنساس لعشرة أعوام من 1996 إلى 2007، ونافس في 2008 على منصب المرشح الجمهوري للرئاسة، ولكن الكنائس التي دعمته لم تستطع أن تؤمن له ميزانية ينافس بها المرشحين الأثرياء مثل ميت رومني، فلم يصمد للمنافسة. قال لاحقًا "لم تكن معركتي ضد أفكار خصومي، بل ضد ميزانياتهم".
التاريخ البديل لأميركايقدم هاكابي محكيّة دينية لنشأة الولايات المتحدة تخرج من صفحات الكتاب المقدس وتتغلغل في كل سطر من الوثائق التأسيسية للجمهورية الناشئة. فبحسب روايته، لم تُؤسس أميركا لتكون دولة علمانية، بل لتكون منارةً للعقيدة المسيحية ومنصة لتحقيق المقاصد الإلهية على الأرض.
في كتابه عن القواعد الثلاث لعظمة الولايات المتحدة، يسوق هاكابي نصوصًا تاريخية من مواثيق المستعمرات الأولى، يُبرز فيها كيف أن المستوطنين الأوائل اعتبروا مهمتهم في الأرض الجديدة جزءًا من "خطة الخلاص".
يستشهد على ذلك بوثيقة ميثاق فرجينيا (1609) التي نصّت على أن الهدف الأول من إنشاء المستعمرة هو "تحويل الشعوب إلى العبادة الحقة لله". كما يورد من ميثاق ماساشوستس (1629) عبارة تؤكد أن "حياة مستعمرينا قد تكون محفزًا للسكان الأصليين للإيمان بالمسيح". في ميثاق نورث كارولينا (1662)، يظهر هذا البعد الروحي أكثر وضوحًا "مدفوعون بحماسة تقوية لنشر الإيمان المسيحي".
ويذهب هاكابي إلى أبعد من ذلك بإشارته إلى ما يعتبره أول دستور أميركي فعلي المعروف بـ"الأوامر الأساسية لكونيتيكت" (Fundamental Orders of Connecticut)، الذي ينص صراحة على أن "الحكومة يجب أن تسير بحسب كلمة الله حفاظًا على الوحدة والسلام".
يرى المؤلف حضور الدين في نشأة أميركا ليس مجرد عنصر تاريخي، بل زاوية رئيسية لفهم أميركا، فهي ليست جمهورية ديمقراطية فحسب، بل "أمة دينية"، تستمد شرعيتها الأخلاقية من نصوص مقدسة.
حتى مؤسسات التعليم العالي، مثل هارفارد وييل وبرينستون، لا تُستثنى من رواية هاكابي؛ إذ يشير إلى أن هذه الجامعات العريقة لم تُبْنَ أساسًا لأغراض أكاديمية، بل لتدريب رجال الدين وتخريج الكوادر الكنسية قبل أن تنحرف لاحقًا عن رسالتها الأصلية.
لا تبدأ هذه الرواية البديلة لتأسيس أميركا من فلسفة التنوير أو الثورة الفرنسية، بل من أسفار الكتاب المقدس. وفي هذا الإطار، يرى هاكابي أن الصراع القائم اليوم بين الديمقراطيين والجمهوريين في الملفات الداخلية والخارجية هو امتداد لصراع عقائدي على هوية الأمة: هل ستظل أميركا أمة مؤمنة تقوم على العقيدة المسيحية أم تُختطف إلى دروب العلمنة والانفلات الأخلاقي؟
إعلانبمثل هذا التصور، لا يعود دعم إسرائيل مجرد سياسة خارجية، بل يصبح دفاعًا عن الأصل الذي قامت عليه الجمهورية، عن البذرة الأولى التي زُرعت بنص كتابيّ وحُرِست بعناية العناية الإلهية.
الموقّعون عن يسوعلم تكن رسالة الاصطفاء الإلهي لترامب التي كتبها هاكابي سابقة في تاريخ دولة تلتحم فيها القرارات السياسية بنصوص الكتاب المقدس وشخصياته.
فقد سبق أن اعترف الرئيس هاري ترومان بقيام دولة إسرائيل عام 1948 برسائل القساوسة البروتستانت، التي مثلت ضغطًا لاهوتيا بمنح القرار السياسي بعدا مقدّسا، حتى اعترف ترومان بإسرائيل بعد 11 دقيقة فقط من إعلانها، من أبرزها رسالة القس بيتر مارشال، التي غمسها في لغة الكتاب المقدّس قائلًا "سيدي الرئيس، إن الرب وعد إبراهيم ونسله بالأرض.. وإن فشلت أميركا في تأييد وعد الرب، فستُسلب بركتها".
بعد ربع قرن، حين كان الشارع الأميركي يموج سخطًا تجاه حرب فيتنام، لم يتردد القس بيلي غراهام، المقرّب من الرئيس نيكسون، في تكرار النغمة ذاتها، لكن بلحن مختلف: الحرب هذه المرة ليست لإنشاء دولة، بل لمواجهة "دين مضاد" كما وصف الشيوعية.
كتب غراهام إلى الرئيس "الشيوعية دينٌ في حد ذاتها.. إنها معركة حتى الموت: إمّا أن تموت الشيوعية، وإما تموت المسيحية". كان غراهام يقدّم لنيكسون شرعية توراتية للصمود، حيث أصبح البنتاغون أداة بيد الرب لكسر الشر.
ثم جاءت الألفية الجديدة، ومعها تبدّلت الجغرافيا، لكن لم تتغير العقيدة. ففي أعقاب هجمات سبتمبر/أيلول 2001، وبينما كانت الإدارة الأميركية تحشد لحرب العراق، كتب القس الإنجيلي جون هاغي إلى الرئيس جورج بوش الابن قائلا "الرب استخدم ملوكًا في الكتاب المقدس لينفذوا مشيئته.. والآن يستخدمك الرب لتطهّر العالم من بابل الجديدة"، مشبهًا صدام حسين بـ"نبوخذ نصّر"، جنّد هاجي الحرب كروح أخروية تجعل من القصف تنفيذا لإرادة السماء، لا إستراتيجية لواشنطن.
لم يكن هاكابي أول رجل دين أميركي يجلل المعارك الدنيوية التي تخوضها الإدارة الأميركية بوشاح من النبوءات الدينية، لكنه برسالته تلك سلّط الضوء على مشهد اشتباك اللاهوت بالسياسة في حكومة تعد النموذج الديمقراطي الأكبر في العالم.