تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

كيف يمكن أن تعود الحياة للأماكن بعد موتها؟ تساؤلات كثيرة تسببت فيها الحروب، والتي قضت على أماكن ومدن وميادين كانت تعج بالحياة والثقافة والفن، لن تثير التساؤلات فضولك كثيرًا إذا ما عرفت أن الحرب العالمية الثانية قد اتخذت شعارًا أغرب من تلك الأسئلة، وهو: «حرب من أجل إنهاء الحرب»، ذاك الشعار الذي اختفت أو تغيرت معه وبسببه مدن ودول وبشر، مثل لندن برلين ووارسو وباريس، وهي أبرز المدن التي شهدت على الحرب وتأثرت بها.

حكايات القصور والبشر وممالك وسرديات لا يمكن نكرانها ولا محوها من التاريخ على الرغم من محو الأماكن بفعل الحرب، ومحاولات عزل كل ما كان، لتأتي الطائرات والمدافع والدبابات والجنود لتمحو جزء من تاريخ عريق، لأهم المعالم التاريخية وتمحو ملامح المدن حتى لا يتبقى منها سوى حطام وبواقي مبانى وأماكن وأحجار تحمل معها بصمات من عاشوا فيها.  

وتعد الحرب العالمية الثانية، التي اندلعت في الفترة من عام 1939 إلى 1945، واحدة من أكثر الأحداث تأثيرًا في التاريخ الإنساني الحديث، وبعد انتهائها، وقفت المدن الأوروبية كأشباح مدمرة، تحمل على أكتافها آثار الدمار والخراب، ففقدت الكثير من العواصم الأوروبية كل ما هو نفيس وغال، ما بين أرواح البشر والكثير من الأماكن التاريخية والتراثية، وقفت الحرب تشاهد ترسم على وجهها ضحكة اللا منتصر.

برج كنيسة القيصر فليلهم الممزق شاهد على الخراب والصمود.. واختفاء أثمن القطع الأثرية من متحف بيرجامون

 

وارسو تخرج من رماد الحرب والأشباح إلى النور مع إعادة بنائها من جديد

فقدت مدينة برلين بريقها وآثارها وحياتها وحكايات قصص من عاشوا فيها، كما شهدت مدينة دريسدن، تلك المدينة التي كانت تُعرف بجمالها، ليلة من النار والدمار، وفي لحظات، اختفت المباني التاريخية تحت سحابة من الدخان والنيران.

وفي وسط هذا الدمار، كانت القصص عن الأمل تتجدد، فنجد "فليهلم" هذا الرجل البسيط، الذي كان يسير في شوارع المدينة محاولًا جمع ما تبقى من الذكريات، يلتقط الطوب المكسور، ويزرع الأزهار حيثما استطاع، كان يحمل معه نظرة تُشع بالأمل، وكأنه رافع شعار «سنعود أقوى».

وفي يوم 19 من إبريل عام  1945 أعلنت موسكو بداية الهجوم الواسع على برلين، حيث تقيم قوات جبهة بيلوروسيا الثانية على رؤوس جسور ما وراء الأوردر بقيادة "روكوسوفسكي" ورؤوس جسور أخرى جنوبي ستاتين ما وراء نييس، تنطلق قوات جوكوف من رأس الجسر غربي كويسترين وتتقدم باتجاه برلين، وبعدما تقطع نييس تتقدم قوات أخرى باتجاه "درسد" بعد أن تسيطر على غورليتنز وكوتبوس، وفي شمال – غربي جورليتز  يحتل الجيش البولوني الثاني روتانبرج بمعاونة كونييف، لتستمر المعارك حتى يوم 22 أبريل من نفس العام والتي تصل فيها قوات "جوكوف" إلى ضواحي برلين على خط فورستنوا- ستروسبرج برنو، وفي الجنوب تتوجه قوات جبهة أوكرانيا الأولى شمالا باتجاه برلين وغربا باتجاه درسد، ليعترف الألمان في ذلك الوقت بحدوث اختراقات في الدفاعات الخارجية للمدينة.

ليطبق السوفيت قبضتهم وحصارهم لمدينة برلين، حيث تتقدم قوات "جوكوف" من سبريمبرج، وتصل إلى الحدود الشرقية لبرلين، فيما يتدفق جيوش كونييف في ناحية الجنوب، وتستطيع جيوش "كونييف كوتبوس من احتلالها، كما تتمكن قوات "جوكوف" أيضًا من الاستيلاء على أورانيانبورج شمالي برلين، وتقع هناك معارك عنيفة جنوبي بوتسدام وجنوبي شرق برامدبورغ في الضاحية الشرقية والغربية لبرلين.  

كل تلك المعارك أدت إلى فقد المدينة التاريخية برلين العديد من الآثار والمباني الأثرية التي كانت تجسد جوهرها التاريخي والثقافي، ويُسلب منها جزءا من ذاكرتها التاريخية، ومن بين تلك الكنوز قصر برلين، في تلك العاصمة التي كانت تعج بالحركة والحياة، شهدت في قلبها صراعات مدمرة خلال الحرب العالمية الثانية، وفي خضم هذا الدمار، فقدت المدينة جمالها وآثارها.  

قصر برلين.. حكايات من زمن الملوك  

وفي قلب جزيرة المتاحف في برلين كان يقف هنا شامخًا رمزًا لزمن كانت تتحدث فيه أساطير وحكايات الملوك «قصر برلين» الذي محت ملامحه الحرب العالمية الثانية، لتتطاير معه ذكريات لعشرات بل ومئات السنوات، فهو أحد أهم الشواهد العريقة على عبقرية العمارة والتاريخ الغني الذي حمله القصر بين جدرانه، ليست فقط الزخارف المعمارية النادرة ولكنه حمل معه أيضًا حكايات الملوك والأمراء.  

فلم يكن قصر برلين مجرد قصر أو بناء حجري، بل كان يحمل بداخله الصراعات والأحلام الإنسانية وحكايات لكل من عاشوا به أو مروا بجانبه، فقد بُني القصر في القرن الثامن عشر، وكان شاهدًا على لحظات تاريخية لا تُنسى، إذ احتضن بين جدرانه أحلام الملوك ومكائد السياسة، ففي أروقته كانت الشخصيات المؤثرة تتبادل الأفكار والمشاعر، مما يعكس تأثيرها العميق على مسيرتها الشخصية، فحمل معه حكايات الشخصيات وقصص الحنين والندم والقوة والضعف وكل ما تحمله النفس الإنسانية من صراعات، لتنتهي تلك الصراعات بصراعات أكبر في حرب اتخذت من "الحرب" شعارًا لإنهاء الحرب لتدمر بعدها مدنا وآثارا وتذهب معها أرواح بشر.

وتم بناء القصر بين عامي 1695 و1699، وصممت حديقته على نمط حدائق قصر فرساي الفرنسي "النمط الباروكي"، وبعد تولي الملك فريدريك الحكم عام 1701، قام باستكمال بناء القصر لزوجته صوفي شارلوت، وأضاف القبة الكبيرة للقلعة، والتي تتميز بطرازها المعماري المتميز.

وبعد وفاة زوجة الملك حزن عليها بشدة وقرر تسمية القلعة باسمها، كما تم بناء الجناح الشرقي للقصر بين عامي 1740 و1746 ليكون مماثلًا لنظيره الجناح الغربي القديم، وكانت آخر الإضافات للقصر عام 1791 «مسرح» القصر.

وكان القصر في البداية عبارة عن مخطوطة معماري، حتى مطلع القرن الثامن عشر، وكلف فريدريك الثالث، المهندس المعماري والنحات أندرياس شلوتر، بتحويل ذلك القصر المجزأ الذي يعود إلى العصور الوسطى وعصر النهضة إلى مقر ملكي غاية في التناسق والعظمة وصُمم القصر الجديد لدعم سلطة «فريدريك» الملكية المكتسبة.

وبعد أن كان القصر رمزًا للمحبة تم استخدامه في الحرب العالمية الأولى كمشفى للجنود المصابين، وفي الحرب العالمية الثانية، تعرض القصر لضرر كبير وانهارت قبته نتيجة القصف، ولم يتبق منه سوى حطام ليعاد بناؤه مرة أخرى في فترة الخمسينيات من القرن العشرين، على يد النظام الاشتراكي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، ويحمل المبنى الذي يقام الآن في مكانه اسم "منتدى هومبولت"، تكريمًا للأخوين الموسوعيين ألكسندر فون هومبولت المستكشف وويلهلم الدبلوماسي.  

كنائس ومتاحف  

ولم يقتصر التدمير على قصر برلين وإنما طال الكثير من الأماكن والمباني التراثية، ومنها كنيسة القيصر "فليهلم" التذكارية، والتي تُعتبر منارة للروح الدينية والفنية في برلين، وعلى الرغم من أنها لم تُدمر بالكامل، إلا أن البرج الممزق بقي شاهدًا على الخراب، ورمزًا لصمود وتحمل المدينة أمام هول الحرب، وفي جانب آخر من المدينة كان هناك متحف بيرجامون الذي تعرض لأضرار كبيرة، حيث فقدت بعضا من أثمن القطع الأثرية التي كانت تجسد حكايات الإمبراطوريات القديمة.  

وارسو رمز الصمود والإرادة  

ومن بين المدن التي شهدت تدميرًا كبيرًا خلال الحرب العالمية الثانية هي مدينة وارسو عاصمة بولندا والتي خرجت من رماد الحرب إلى النور وتمت إعادة بنائها من جديد بعد أن كانت منارة ثقافية وفنية وحضارية.

تلك العاصمة التي باتت رمزًا للصمود والإرادة، فهي قصة من قصص الحياة الإنسانية، والتي رفضت أن تموت وتخرج مرة أخرى من تحت الرماد حاملة معها الصمود والكفاح لتخرج من جديد باحثة عن النور وتبعث للحياة مرة أخرى.

فحينما يتجول المرء فى شوارع وارسو، تتجسد الذكريات في كل زاوية وكل ركن من أركانها فقد كانت شاهدة على مر العصور على مزيج من الحضارات والثقافات، لتتحول بعد ذلك إلى صفحة من صفحات الألم والدمار خلال الحرب العالمية الثانية.  

فقد أصبحت مبانيها مجرد أطلال تروي قصصًا صامتة عن حكايات بشر عاشوا هنا، فلم يعد الدمار الذي شمل المدينة بعد الحرب العالمية الثانية مجرد حدث تاريخي؛  بل كان فصلًا مظلمًا في قصة الإنسانية، حيث تلاشت المدينة تحت وطأة القصف بعد أن كانت تضج بالحياة والثقافة، وأصداء الموسيقى في شوارعها وتتناغم الأضواء مع ابتسامات ساكنيها، لتتلاشى تلك الأصوات، وتختفي الابتسامات، وتحل محلها صرخات الألم والخراب، لولا وجود بعض الأصوات التي شهدت الحدث وعملت على بنائها مثل جان كوفسكي، الذي شهد بعينيه انهيار مدينته، ولكنه لم يفقد الأمل، وكان يرى في كل لبنة مدمرة فرصة لبناء مستقبل جديد.  

هذه المدينة البولندية التي أصبحت إحدى حكايات التاريخ من تحت الرماد وتعيد بناء نفسها مرة أخرى لتصبح قبلة للسائحين من كل أنحاء العالم، فهي تعتبر واحدة من أبرز المدن الأوروبية وتحمل في طياتها قصة صراع وإعادة بناء فريدة من نوعها.

وتعرضت هذه المدينة البولندية إلى دمار هائل، وحولتها الغارات الجوية والقصف إلى مدينة أشباح. إذ تم تدمير حوالي 85% من المدينة، بما في ذلك القصور والقلاع والكنائس والأحياء السكنية، وبالرغم من ذلك استطاعت وارسو أن تنهض من جديد، لتتحول إلى مدينة حديثة نابضة بالحياة، تجمع بين تراثها العريق وهندستها المعمارية المعاصرة.

وتتميز وارسو بتاريخ عريق حيث كانت مركزًا سياسيًا وثقافيًا مهمًا في بولندا، وبعد انتهاء الحرب، بدأت عملية شاقة وطويلة لإعادة بنائها، إذ واجهت المدينة العديد من التحديات، منها نقص المواد والبنية التحتية، فضلًا عن الخسائر البشرية الفادحة، وبفضل العزيمة والإصرار تمكن البولنديون من إعادة بناء مدينتهم والحفاظ على تراثهم الحضاري والثقافي.

كما تتميز المدينة بمزيج فريد بين التراث الثقافي والهندسة المعمارية الحديثة، فقد تم إعادة بناء العديد من المباني التاريخية، مثل الساحة القديمة والقصر الملكي، كما ظهرت العديد من المباني الحديثة التي تعكس روح العصر وتضفي على المدينة طابعًا معاصرًا.

قلب المدينة النابض  

كما تعتبر الساحة القديمة بمثابة قلب مدينة وارسو التاريخي، فهي مثال رائع على عملية إعادة البناء الدقيقة، حيث تم إعادة بناء كل مبنى تقريبًا وفقًا للتصميمات الأصلية، تتميز الساحة القديمة بأزقتها المرصوفة بالحصى، ومبانيها الملونة، وكنائسها التاريخية، مما يجعلها وجهة سياحية شهيرة.

ويعد قصر الثقافة والعلوم أحد أبرز المعالم المعمارية في وارسو. تم بناؤه في فترة الحكم الشيوعي، وهو يعتبر رمزا للسيطرة السوفيتية على بولندا، وعلى الرغم من الجدل الذي يحيط به، إلا أنه أصبح أيقونة للمدينة، كما تضم وارسو العديد من المتاحف التي تعرض تاريخ المدينة وثقافتها، مثل المتحف الوطني، ومتحف شوبان، ومتحف التاريخ البولندي، كما تضم المدينة العديد من المعارض الفنية التي تستضيف أعمالًا فنية من جميع أنحاء العالم، لتجسد مدينة وارسو درسا في الإصرار والمثابرة.  

وعلى الرغم من الدمار الذي خلفته الحروب إلا أن المدن تُعيد إحياء نفسها بالبشر الذين يعيشون فيها، ليسجل التاريخ حكايات جديدة في الصبر والإصرار والصمود، ويقف العالم أمام المعجزات للحفاظ على الهوية والثقافة والحضارة، وأن الحروب لا يمكن أن تمحو ذاكرة البشر مهما كان الغرض منها، ولا يمكن لشعار مثل الشعار الذي أطلقته الحرب العالمية الثانية وتحدث عنها الزعماء فلن يكون الحرب هو شعار لإنهاء الحرب ولكن السلم وإعادة البناء والتآخي هي السبيل الوحيد لكي نحيا سويًا، ونبني الحضارات والمدن ونحكي حكايات البشر الذين عاشوا بيننا. 

قصر برلين 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الثقافة والعلوم الحرب العالمية الثانية الهجوم الواسع التاريخية المعالم التاريخية المباني التاريخية القرن الثامن عشر حرب العالمية الثانية قصر الثقافة الحرب العالمیة الثانیة على الرغم من التی کانت ت إعادة بناء العدید من مرة أخرى من جدید شعار ا بعد أن

إقرأ أيضاً:

تعرف على مواعيد الرحلة الثانية لـ”قطار عودة السودانيين” من مصر

القاهرة- متابعات تاق برس- تنطلق، الإثنين المقبل، الرحلة الثانية لقطار “العودة الطوعية” للسودانيين المقيمين في مصر.

 

وتأتي هذه المبادرة المجانية بتنظيم من منظومة الصناعة الدفاعية بالتنسيق مع الهيئة القومية لسكك حديد مصر، بهدف تسهيل عودة السودانيين إلى وطنهم عبر وسيلة نقل أكثر راحة وتنظيمًا.

 

وسيتم تشغيل قطار مخصوص لنقل السودانيين من القاهرة إلى محافظة أسوان، ومن ثم إلى ميناء السد العالي النهري تمهيدًا لدخول السودان.

وينطلق القطار كل يوم إثنين من محطة القاهرة في تمام الساعة 11 صباحًا، ويصل إلى أسوان في تمام الساعة 11 مساءً، وفق جدول أسبوعي منتظم.

 

وقد كلّف الفريق مهندس كامل الوزير، نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية وزير الصناعة والنقل، قيادات السكة الحديد بتقديم أفضل الخدمات الممكنة لراحة الركاب السودانيين خلال الرحلة وحتى وصولهم بسلام إلى وجهتهم النهائية.

 

يذكر أن أولى رحلات العودة قد انطلقت بالفعل يوم الإثنين الماضي، حيث أقلّ القطار الأول نحو 1000 مواطن سوداني، في إطار خطة شاملة لتيسير العودة تنص على تنظيم رحلة أسبوعية عبر قطار مخصص لهذه الغاية.

العودة الطوعية للسودانيينقطار عودة السودانيين من مصر

مقالات مشابهة

  • الرئاسي يبحث التحديات التي تواجه شركة الخطوط الجوية اليمنية
  • يديعوت أحرونوت: ارتفاع كبير للجنود المصابين بأزمات نفسية بسبب حرب غزة
  • الحرب على غزة ترفع عدد المصابين في جيش الاحتلال لـ100 ألف
  • الحرب على غزة ترفع عدد المصابين في جيش الاحتلال الى 100 ألف
  • كانت ستجنب العراق ويلات الحرب.. الكشف عن مبادرة عربية رفضها صدام حسين
  • تعرف على مواعيد الرحلة الثانية لـ”قطار عودة السودانيين” من مصر
  • ذوو الأسرى الإسرائيليين يدعون لتظاهرات كبرى ويطالبون ترامب بـ إنهاء الحرب
  • عاش نجما ومات محاربا للسرطان.. محطات في حياة فاروق الفيشاوي الذي خلد اسمه بإرث لا ينسى
  • مشاهد للحظة إنهاء حياة الشاب يوسف في المطرية على يد أصدقائه.. صور
  • من النزوح إلى الزراعة.. حكايات نساء في لبنان حوّلن الحرب إلى فسحة للحياة