بوابة الوفد:
2025-05-13@06:10:45 GMT

فى محبة أوبنهايمر

تاريخ النشر: 18th, August 2023 GMT

 تقاس جودة العمل الفنى فى العادة، ليس فقط بصلابة وحدته البنائية واتساق أحداثه وترابطها، وقيمة الأثر الذى يحدثه، وبراعته فى إيصال رسائله ، ولكن أيضا بالدلالات المتعددة التى يضعها أمام المتلقى، فتفسح بذلك المجال  واسعًا لتعدد وجهات النظر، وتنوع الآراء فى تقيمه وتفسيره، وهو ما يعد شهادة بالثراء الإبداعى لهذا العمل الفنى أيا كان نوعه أوشكله أو وسيلته.

وهذا هو بالضبط موطن الجمال فى فيلم «أوبنهايمر» للمخرج الأمريكى من أصل بريطانى «كريستوفر نولان» الذى يروى سيرة عالم الفيزياء لأمريكى «روبرت أبنهايمر».

الفيلم الذى أنتجه وكتب له السيناريو المخرج «نولان» استنادا إلى كتاب «بروميثيوس الأمريكى: انتصار ومأساة روبرت أوبنهايمر الصادرعام 2005 للكاتبين «كاى بيرد» و«مارتن شيروين» يروى بايقاع سريع لاهث وبتوظيف موسيقى بالغ التأثير والتعبير، وبالمؤثرات الصوتية الصاخبة التى تلهث بدويها  وراء الجمل الحوارية المتلاحقة، فضلا عن المزج بين المشاهد الملونة ومشاهد الأبيض والأسود، يروى سيرة أوبنهايمر على لسانه. ولعل الاختيار يشى بالطابع الفلسفى والملحمى للفيلم ،الذى يقود مشاهده من لقطة إلى أخرى ،لتلك المقابلة بين «بروميثوس» الذى تحدى فى الأساطير اليونانية الألهة لخدمة البشر والانتصار لحاجاتهم، حين دلهم بالعلم والمعرفة على طرق الخلاص وجلب لهم النور والنار، فعاقبته الألهة، وبين أوبنهايمر صانع القنبلة الذرية التى أنهت بخسائر فادحة أرواح البشر، واتهم فى بلده بالخيانة الوطنية.

قلل «أوبنهايمر» من مخاطر تصنيع  السلاح النووى، لكنه رفع من شأنه فى قدرته على هزيمة هتلر. وحين اتخذ الرئيس الأمريكى ترومان قرارا بإلقاء القنبلتين على هيروشيما ونجازاكى، كانت ألمانيا قد هزمت وأعلنت استسلامها، وكان هتلر قد انتحر قبل ذلك بنحو أربعة أشهر.  وفى المقابلة التى جمعت بين أوبنهايمر وبين ترومان ، سخر الأخير من طلبه بالعمل على وقف سباق التسلح النووى، وتهكم على تألمه من النتائج الكارثية التى أحدثتها القنبلة على المدن اليابانية، وأدت إلى انهاء الحرب العالمية الثانية، وقال له فى مفارقة تعكس همه الشخصى الذى يباهى به: لا أحد سوف يذكر من صنع القنبلة، بل سيذكرون من هو الذى أصدر القرار بإلقائها. ولم يكن تعليق «أوبنهايمر» فور انتهاء تلك المقابلة سوى تعزيز لمشاعر الوحدة الذى اعتراه وهويقول واصفا اليابان: لقد هزمنا دولة مهزومة !

يعرض الفيلم لحالة الانقسام الذى عاشه «أوبنهايمر» الذى أدى دوره ببراعة واتقان الممثل الأيرلندى «كليان مورفى». الانقسام بين نزوعه الذاتى  لتحقيق اختراع  صناعى وعلمى جديد يواجه به عدو شعبه فى ألمانيا، وبين عذابه الروحى  من النتائج التى أسفر عنها. الصراع  بين رغبته، وهو اليهودى من أصل ألمانى، فى التصدى لنازية هتلر المعادى للسامية، وشغفه العلمى المحموم بالسير قدما لتصنيع وتجريب السلاح النووى وانجاز نصر علمى غير المحور مسبوق، خوفًا من تمكن ألمانيا النازية وحلفائها فى اليابان وإيطاليا. إضطراب  حياته الأسرية، وحبه لأمرأتين، زوجته الثرية التى تخلت عن زوجها من أجله وانجبت له ابنين وتحولت إلى مدمنة لاكتشافها مغامراته النسائية، وعشيقته التى انتحرت بسبب خذلانه لها. ما  بدا من ضعفه فى مواجهة للجنة التحقيق الماكرثية التى تسعى  لتلويث سمعته، واتهامه بعدم الولاء لوطنه بتسريب أسرار صنع القنبلة للاتحاد السوفيتى، ويأسه من اقناع خصومه بأن المتهم بخيانة الوطن والعمل  لصالحه كان حليفا للولايات المتحدة فى القضاء على النازية الفاشية وتحقيق النصر فى الحرب العالمية الثانية.

هذا الصراع القاسى الذى تعرضت له حياة أوبنهايمرالعلمية والخاصة بسبب لجنة تحقيق مكارثية «H1»  غاشمة، حرمته من الحصول على جائزة نوبل فى العلوم الفزيائية لاتهامه بالشيوعية، بما يجعله نسخة عصرية للبطل التراجيدى, يكشف الفيلم عن الجوانب المظلمة فى النفس البشرية، وهو يستعرض العلاقة المعقدة بين أوبنهايمر وخصمه لويس سترواس رئيس لجنة الطاقة الذرية، الذى حاك له المؤامرة لهدم حضوره العلمى والسياسى  وإحالته للتحقيق بتهمة الخيانة ،لازاحته من الموقع الذى وصل إليه بموهبته وجهده، ووضع العراقيل أمام صعوده لمواقع أخرى يستحقها طمع بها. أما السبب فهو سخرية أوبنهايمر من الأصل العائلى المتواضع لسترواس، وارتياب الأخير أن أوبنهايمر يحرض عليه العلماء وأنه وشى لإنشتاين وقلبه عليه مما أدى لتجاهله وعدم الرد على تحيته، مع أن الحوار بين الاثنين  لم يتطرق بكلمة عن سترواس، حيث يقول أينشتاين لأوبنهايمر فى المشهد الذى جمعهما: اذهب وواجه العالم بعواقب ما صنعت يداك.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: على فكرة العمل الفني عالم الفيزياء أوبنهايمر

إقرأ أيضاً:

كان.. يا ما كان

فى واحدة من أهم الظواهر التى تستحق الدراسة مؤخرًا في مجتمعنا المصرى يبدو أن ظاهرة الحنين إلى الماضى المعروفة علميًا (بالنوستالجيا) قد بلغت مداها بين قطاعات عريضة من أبناء هذا الوطن بكل أطيافه بل وأجياله حتى يكاد الأمر أن يصل إلى درجة رفض الواقع بل وإنكاره من فرط الحنين إلى ما كان. لماذا نحن فى هذه الحالة؟ وإن كان ذلك مقبولًا لدى أجيال الوسط والشيوخ التى عاصرت هذا الماضى فكيف نفسر حنين أبناء جيل الشباب أيضًا لما كان قائمًا قبل أن يولدوا؟

فى حكاوى ومناقشات أهل مصر على المقاهى وفي مواقع التواصل ستجد تلك الحالة منتشرة، بل ربما لن يخلو حديث فى مجلس للأهل أو للأصدقاء دون أن يترحموا على أيام قد مضت وكيف كان حال الفن والفكر والثقافة بل والرياضة وحتى السياسة، وعن تلك الأوزان النسبية التى تغيرت لتهبط عدة درجات فى سلم الإبداع، حين تجلس مع أبناء جيل الشيوخ والوسط سيحدثونك عن شبابهم وكيف تربى وجدانهم على فكر وثقافه وذوق مختلف ومتنوع، سيحكون لك أنهم قد كان لديهم كل المدارس الفكرية والفنية وكان متاحًا لهم أن ينهلوا من هؤلاء العمالقة الذين عاشوا وأبدعوا معًا فى توقيت واحد فأحدثوا زخمًا فى شتى مجالات الفكر والفن والسياسة وحتى فى لغة الحديث بل وفى شكل وأناقة ملابس الرجال والنساء وزى أطفال المدارس وطلاب الجامعة.

هل هى الحداثة قد أفقدتنا كثيرًا مما اعتدنا عليه سابقًا قبل أن تُغرقنا موجات التكنولوجيا العاتية وهذه الأنماط السلوكية والفكرية الهشة التى تنتشر بسرعة البرق بين رواد السوشيال ميديا؟ هل هجر الناس الأصالة عن قناعة أم مجبرين حين خلت الساحة من إبداع رصين يحفظ لهذا الشعب هويته السمعية والفكرية؟

ليس الأمر بسيطًا حتى وإن بدا كذلك. فهذا ذوق يتغير وفكر يندثر وعمق يختفى تحت ضربات ولعنات التريند والتيك توك والمهرجانات ودراما العنف والقيم الأسرية المنحلة ومسارح اللهو دون قيمة أو رسالة، ورياضة كلها تعصب وشحن وسباب وفُرقة بين الجميع.. ليس الأمر هينًا فهذا وطن يسرق من ماضيه وقيمته وريادته بين الأمم.. هل نجد إجابة لكل تلك التساؤلات أم يظل الحال كما هو لنهوى أكثر وأكثر فى دوامة الحنين إلي الماضي ونظل نردد بكل حسرة: كان ياما كان.. ؟؟

مقالات مشابهة

  • نعيم قاسم: سنبقى واقفين على أرجلنا ولا مشكلة بيننا وبين رئيس الجمهورية
  • الهند وباكستان.. ودرس أن تكون قويا
  • كان.. يا ما كان
  • أسامة نبيه قبل مواجهة غانا: الروح والإصرار سلاحنا للوصول إلى المونديال
  • كريمة أبو العينين تكتب: سرقة السعادة
  • انهيار بئر بأحد مزارع المنيا على شخص جارى استخراجه
  • سودانيون: شكراً الإمارات.. قرار إعفاء غرامات الإقامة رسالة محبة وتسامح
  • بمشاركة 24 عارضا.. افتتاح معرض أوكازيون دمياط للأثاث ببولاق الدكرور
  • ولاد رزق 3 تصدر القائمة .. تركي آل الشيخ يعلن عن الأفلام الأعلى إيرادًا فى مصر
  • «العقاقير الطبية».. تتحول لمحل بقالة ومشروع للتربح على حساب المواطن