نحو قوى سياسية جديدة تتجاوز الانقسامات…!
تاريخ النشر: 11th, February 2025 GMT
نحو قوى سياسية جديدة تتجاوز الانقسامات…!
محمد تورشين*
لطالما عانت الساحة السياسية السودانية من انقسامات حادة داخل الأحزاب والقوى السياسية، مما أضعف قدرتها على تحقيق الاستقرار والانتقال الديمقراطي الحقيقي.
منذ تأسيس الأحزاب السودانية في العقود الأولى من القرن العشرين، ظل الصراع داخلها قائمًا بين التيارات المختلفة، مما أدى إلى انشقاقات متكررة أسهمت في تشظي المشهد السياسي.
واليوم، مع وجود أكثر من 300 حزب سياسي وحركة مسلحة، أصبح من الواضح أن هذه الأزمة البنيوية تحتاج إلى حلول جذرية، وإلا فإن أي عملية سياسية مستقبلية ستواجه المصير نفسه من التعثر والتراجع.
الإشكالية التاريخية للأحزاب السودانيةمنذ تأسيس أول الأحزاب السودانية مثل “حزب الأشقاء” و”الحزب الجمهوري الاشتراكي” في أربعينيات القرن الماضي، تميز المشهد السياسي السوداني بسيطرة الزعامات التقليدية، سواء كانت دينية أو قبلية أو أيديولوجية.
ومع مرور الزمن، شهدت الأحزاب الكبرى مثل “حزب الأمة” و”الاتحادي الديمقراطي” و”الحزب الشيوعي” انقسامات متكررة بسبب الخلافات الداخلية حول القيادة والتوجهات السياسية.
هذه الانشقاقات لم تكن فقط نتيجة خلافات فكرية، بل كثيرًا ما لعبت المصالح الشخصية والبحث عن النفوذ دورًا محوريًا في تعميق الانقسامات، مما أدى إلى إضعاف دور الأحزاب في بناء دولة ديمقراطية قوية.
في ظل هذا الواقع، أصبح المواطن السوداني ينظر إلى الأحزاب السياسية بعين الريبة، حيث لم تقدم له هذه الأحزاب حلولًا عملية لمشاكله الاقتصادية والاجتماعية.
كيف أثرت هذه الانقسامات على مستقبل التحول الديمقراطي؟لا يمكن لأي نظام ديمقراطي أن يترسخ دون وجود قوى سياسية قادرة على تقديم برامج واضحة والعمل على تحقيق الحد الأدنى من التوافق الوطني. إلا أن حالة التشرذم الحزبي في السودان أدت إلى:
ضعف الثقة الشعبية في الأحزاب السياسية: حيث يرى المواطنون أن الأحزاب مشغولة بصراعاتها الداخلية أكثر من انشغالها بمشاكلهم الحقيقية. تعثر بناء مؤسسات الدولة: بسبب عدم وجود توافق سياسي يسمح بتأسيس مؤسسات حكم مستقرة ودائمة. استمرار التدخلات العسكرية: إذ إن الانقسامات الحزبية المتكررة تخلق فراغًا سياسيًا تستغله المؤسسة العسكرية للبقاء في السلطة. نحو نهج سياسي جديد: دور الشباب في التغييرفي ظل هذا الواقع المعقد، بات من الضروري أن يقود الشباب السوداني مشروعًا سياسيًا جديدًا يتجاوز هذه العيوب التاريخية. فبدلًا من إعادة إنتاج أحزاب تقليدية تقوم على الولاءات الشخصية والطائفية، يجب أن يسعى الشباب إلى تأسيس قوى سياسية حديثة تعتمد على المبادئ التالية:
الحد الأدنى من التفاهمات الوطنية: أي تجاوز الخلافات الثانوية والتركيز على القواسم المشتركة التي يمكن أن تجمع مختلف الأطراف. تبني نهج ديمقراطي داخلي: بحيث لا يكون الحزب قائمًا على زعيم واحد، بل على مؤسسات داخلية شفافة تسمح بالتداول السلمي للقيادة. الاعتماد على برامج واقعية بدلًا من الشعارات: تقديم خطط حقيقية لحل الأزمات الاقتصادية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبناء دولة المؤسسات. التخلص من الولاءات الضيقة: التركيز على مشروع وطني شامل يتجاوز الانتماءات القبلية والطائفية والأيديولوجية الضيقة. دمج التكنولوجيا في العمل السياسي: استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات المشاركة السياسية لإشراك أكبر عدد ممكن من المواطنين في عملية صنع القرار. هل يمكن تحقيق هذا التغيير؟رغم التحديات الكبيرة، إلا أن الظروف الحالية توفر فرصة حقيقية للشباب السوداني لإعادة تشكيل المشهد السياسي. فالوعي السياسي لدى الشباب اليوم أصبح أكثر نضجًا، وهناك إدراك متزايد لأهمية تجاوز أخطاء الماضي. كما أن التكنولوجيا الحديثة فتحت آفاقًا جديدة لتنظيم العمل السياسي بعيدًا عن الأساليب التقليدية.
لكن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى إرادة قوية، وتنظيم محكم، وإصرار على إحداث تغيير حقيقي. فالسودان لن ينهض إلا إذا وُجدت قوى سياسية جديدة قادرة على بناء مستقبل أكثر استقرارًا وعدالة.
ختاما، إن استمرار الأزمة السياسية في السودان هو نتيجة طبيعية لانقسامات القوى التقليدية التي لم تتمكن من تقديم نموذج سياسي مستدام. واليوم، لم يعد هناك خيار سوى التفكير في نهج جديد يعتمد على توافقات وطنية وبرامج سياسية حديثة تضع مصلحة السودان فوق المصالح الضيقة. إذا تمكن الشباب من بناء قوى سياسية جديدة برؤية مختلفة، فإن الأمل في تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي سيصبح أكثر واقعية.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل سيأخذ الشباب زمام المبادرة أم سيتركون الساحة لنفس القوى التقليدية التي أعاقت التقدم لعقود؟
* باحث وكاتب سوداني متخصص في الشؤون المحلية والقضايا الأفريقية.
الوسومالأحزاب السودانية التحول الديمقراطي التفاهمات الوطنية السودان القوى التقليدية القوى السياسية محمد تورشينالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الأحزاب السودانية التحول الديمقراطي السودان القوى التقليدية القوى السياسية
إقرأ أيضاً:
الفلسفة السياسية والنظرية السياسية (1): لغة الخطاب
- الفلسفة السياسية تركز على الأسئلة النظرية حول ما يجب أن يكون، مثل الأفكار الأمثل والأكثر نجاعة للدولة والمجتمع.
- النظرية السياسية تهتم بشرح وفهم المفاهيم والمؤسسات السياسية بطريقة أكثر تحليلا وعلمية بوجود نوع من التفسير للفلسفة السياسية
- الممارسة السياسية هي إيجاد آليات وتفاعل مع الجمهور لتوضيح الأدوار والدور المجتمعي في إنجاح الخطة
- الخطاب الشعبوي هو خطاب ذو توجه واحد يحتاج إلى تعريف إملائي للمتلقي بلا تفكير، وهذا النوع من الخطاب سيكون خطرا إن أصبح ضمن خطاب النخبة القيادية أو المتصدية للعمل السياسي، أو استحوذ على هذا الخطاب؛ لأن هذا يعني أحادية النظرة ورفض أو تكفير المخالف ولو بنسبة ضئيلة فهو سيطلب التطابق كالمرآة الساحرة للقائد الذي لا يخطئ، وهنا سيكون نوع من التقديس للأشخاص والثيوقراطية بغض النظر عن كونها دينية أو علمانية، وإنما هي تقديس رأي بشري لا يفترض أن يكون مقدسا.
اعتماد التحليل أو التجربة على أحدها بشكل منفصل قد يؤدي إلى مشكلة لا تلاقي حلا إلا بتغيير الأنظمة، وعندما تسيطر الأيديولوجيا الحادة تلغي المسار العلمي أو التقديم والتفاضل في المصالح وإدارتها. فالأيديولوجيا هي نظام من الأفكار والمعتقدات يوجه سلوك وتفكير الأفراد أو المجموعات
هناك تداخل بين الفلسفة السياسية والنظرية السياسية
- الفلسفة السياسية هي فرع من الفلسفة يدرس الأسس النظرية للسياسة، مثل العلاقة بين الفرد والمجتمع، وتنظيم الحياة الاجتماعية، والعدالة، والحرية. تركز على ما يجب أن يكون، وغالبا ما تكون أكثر تجريدا، فالفلسفة بالنسبة للأفكار السياسية كحاضنة توليد، أي تدوم لزمن أطول ويمكن أن تمر كمقتطفات لتكوين الفكرة عبر العصور، مثل الديمقراطية في عصرنا. ظهرت لأول مرة في أثينا القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث كانت أثينا أول مدينة-دولة تطبق نظاما ديمقراطيا، حيث ساهم سولون (في عام 594 قبل الميلاد)، وكليسثينيس (في 508-507 قبل الميلاد)، وإفيالتيس (في عام 462 قبل الميلاد) في تطوير الديمقراطية الأثينية، رغم أن فلسفة أخرى كرأي أفلاطون ترى أن الديمقراطية هي نظام سياسي فاسد يؤدي إلى سعي الأفراد لتحقيق رغباتهم الشخصية، مما يسبب الصراع بدلا من تحقيق الصالح العام. وأفلاطون اقترح أن يكون الحكماء في رأس السلطة، والجيش يحمي، والبقية يعملون. وهذا يشبه نظام الولي الفقيه.
- النظرية السياسية تهتم بتحليل وشرح المفاهيم السياسية مثل الحرية والعدالة، وغالبا ما تستخدم منهجيات علمية لفهم كيفية عمل المؤسسات السياسية. على سبيل المثال، قد تبحث في أسباب طاعة المواطنين للدولة بناء على دراسات واقعية.
بعض العلماء يرون أن الفلسفة السياسية والنظرية السياسية متكاملتان، بينما آخرون يفرقون بينهما بناء على المنهجية: الفلسفة أكثر نظرية ومثالية، والنظرية أكثر وصفا وتحليلا. على سبيل المثال، يقول ليو شتراوس أن النظرية السياسية لا يمكن أن تكون منفصلة عن الفلسفة.
والحقيقة أن الاثنتين -كما أرى- تعبير عن مراحل تحكم بالزمان والمكان ونوعية البيئة التي تعمل بها المنظمة السياسية، فالفلسفة ضرورة لضبط إيقاع القيم وهي تتعرض للتجربة والاصطدام بواقع كي ينضبط بها، وهذا دور القادة. وهي مسألة تصل بين الفكر والسياسة المدنية التي ترى الواقع فتجد الأسلوب الملائم كما السلوك البشري، حيث تنبثق النظرية والتي تحتاج إلى الزعامات الحقلية واختيار التكنوقراط لقيادة الخدمات والتخطيط والتنفيذ في الدولة. اعتماد التحليل أو التجربة على أحدها بشكل منفصل قد يؤدي إلى مشكلة لا تلاقي حلا إلا بتغيير الأنظمة، وعندما تسيطر الأيديولوجيا الحادة تلغي المسار العلمي أو التقديم والتفاضل في المصالح وإدارتها. فالأيديولوجيا هي نظام من الأفكار والمعتقدات يوجه سلوك وتفكير الأفراد أو المجموعات، وغالبا ما تكون مرتبطة بسياق سياسي أو اجتماعي.
الممارسة السياسية
الممارسة السياسية هي الأنشطة والسلوكيات التي يقوم بها الأفراد أو الجماعات للتأثير في القرارات السياسية أو إدارة الشؤون العامة. لفهمها ومعرفتها، يمكن اتباع النقاط التالية:
- البلد ليس حقل تجارب لتطبق عليه قالب أيديولوجية أو نظريات سياسية، وإنما يجب ترك الناس يفهمون ويختارون وينتخبون ويجربون بلا فساد، وهذا يعتبر حالة مثالية لمن يذوق السلطة ويملك المال السياسي.
- البلد ليس حقل تجارب لتطبق عليه قالب أيديولوجية أو نظريات سياسية، وإنما يجب ترك الناس يفهمون ويختارون وينتخبون ويجربون بلا فساد، وهذا يعتبر حالة مثالية لمن يذوق السلطة ويملك المال السياسي
- لذا لا بد من مجلس للحكماء يصوّب الرأي، ومن ذوي الفهم للفلسفة السياسية والنظريات السياسية والقدرة على التحليل واستشراف السلوك.
متابعة الأحداث السياسية
- قراءة الأخبار ومتابعة وسائل الإعلام الموثوقة لفهم القضايا الراهنة والصراعات السياسية، وتحليل خطابات السياسيين والأحزاب لفهم مواقفهم، والانخراط في أنشطة الندوات الشعبية وفق برنامج تثقيفي لتمييز ثقافة سياسية في البلد، وتعليم جيل معاني السياس، ورعاية النابهين وتمييزهم ومعرفة أين وكيف تكون أدوارهم كقيادات وزعامات، وإدخالهم الحياة الوظيفية ليتعرفوا على أسرار الهياكل الإدارية، والسلطة والحوكمة، وعملية اتخاذ القرار في الإدارة العامة بمتعدد مراحلها.
- دراسة العمل السياسي وتدريب الكوادر على تجاوز الاستقطاب أو أحادية النظرة، وتأسيس اللوبيات ومجاميع الضغط لتكون هنالك فاعلية في المعارضة، وكيفية صياغة القوانين وتصورات عن اللوائح.
- الممارسة السياسية تحتاج تصويبا ومتابعة دائمة، وليس ترفا أو ما ظهر عندما تنشئ مركزا للدراسات؛ حرا يعطي ما يريد ويدرس ما تريد كحزب أيضا، ويراقب الأداء ويدرب الكوادر الفاعلة من الحزب أو ممن هم في البرلمان أو في الحكومة بشكل دورات للتعليم المستمر وتدريبهم على التعاون في حل المشاكل.
- الخطاب الشعبوي: هو مهارة في العمل السياسي ويُختار لتنفيذه أناس لهم المهارة طبيعيا، لكنه سيف ذو حدين، فتقديم الوعود دون القدرة على تنفيذها ينعكس سلبا فيتحول الحزب من واجهة للقوم ومنافح عنهم إلى مدافع عن نفسه وإلى مكافح من أجل بقائه هو.. الخطاب الشعبوي عمل اجتماعي ذو ارتداد مدمر لأنه يعظّم التحديات ويجعل الحق والإمكانية لمناقشة فلسفته وتفنيدها من عامة الناس، وهذا الخطاب إن نجح جاذب للجمهور بالعقل الجمعي. والمواضيع هذه لا يمكن أن تشمل بمقال.