متى يخرج العراق من أزماته
تاريخ النشر: 5th, March 2025 GMT
آخر تحديث: 5 مارس 2025 - 10:50 صبقلم:زكي رضا
أزمة الحكم والأزمات الأجتماعية والأقتصادية في البلاد ليست وليدة اليوم، بل رافقت الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها بدايات العقد الثاني من القرن الماضي لوقتنا هذا، الا أنّ شدّة الأزمات كانت تختلف وتتباين تبعا لشكل نظام الحكم وطريقة إدارة البلاد إقتصاديا وإرتباطا بما كان يدخل خزانة البلاد من ريع النفط الذي بقي ولليوم المورد المالي شبه الوحيد للبلاد .
لكنّ الأزمة الحقيقية التي أثّرت ولازالت على البلاد كمنت وتكمن في تخلّف بناء الدولة والمجتمع العراقي بأطيافه المختلفة، نتيجة فشل الأنظمة التي حكمت البلاد ومنها نظام المحاصصة اليوم في التوزيع العادل للثروة، وعدم تلبية حاجات الناس المعيشية وأنعزالها عن الجماهير ووقوفها خلف عشائرها وقبائلها وطوائفها. نتيجة هذا الفشل والمستوى المعاشي المنخفض لغالبية الجماهير بسبب الحروب والحصار وسوء الإدارة والفساد، ظهرت من رحم السلطات فئات سياسيّة لها صلاحيات هائلة بحكم موقعها وسطوتها من تلك التي تتحكّم بحياة الناس وتعمّق مشاكل البلاد. ولحاجة البلاد اليوم ونتيجة للمداخيل المالية الضخمة التي تتمتع بها وجشع كبير وفساد أكبر في إدارة الدولة، فأنّ الطغم السياسية التي تهيمن على السلطة طوّرت من مفهومها للفساد والنهب المنظّم لثروات البلاد ومساحتهما، في إشراكها مكاتب أحزاب السلطة وميليشياتها ومافياتها بل وحتى المؤسسات الدينية في هذا النهب المنظّم لثروات البلاد. هذا يعني أنّ هذه الفئات تمتلك إمتيازات خاصّة بل وخاصّة جدا على حساب بقية المجتمع، ما أدّى أو سيؤدي الى تحقيقها السيطرة النهائية على المجتمع مستقبلا نتيجة تحكمّها بآليات السوق وسيطرتها على مشاريع الدولة وضعف الأصوات السياسية المناهضة لها إذا ما أرتفعت أسعار النفط ، ما يقلّص الرقابة الشعبية على برامجها السياسية والأقتصادية. فهذه الفئات وكما ذكرنا قبل قليل تتحكم بقوت الناس متسلّحة بفتاوى رجال الدين وإرهاب الدولة الرسمي وشبه الرسمي، كما وأنّها تطور أمتيازاتها بشكل مستمر بإلتفافها على القوانين، أو إصدار قوانين جديدة ، أو الحصول على أستثناءت في القوانين المعمول بها خصوصا من تلك التي تتعلق بالتهرب الضريبي والتحكم بسوق العملة وتهريبها . وهذا يعني تعزيز مواقع القطط السمان هذه على حساب توسيع قاعدة الفقر وزيادة البطالة وسوء الخدمات والبنى التحتية للبلاد، ما سيؤدي الى زيادة التخلّف على جميع الصعد وأهمّها تخلف النظام التعليمي. عادة ما تؤدي مثل هذه السياسات من قبل السلطة الى تقليص القاعدة الأجتماعية لها، الا أنّ تخلّف المجتمع العراقي وضعف الأحزاب السياسية التي لها برامج سياسية تتقاطع وبرامج السلطة، وإستمرار نهج المحاصصة كوسيلة للحكم وغياب الديموقراطية وفساد القضاء، تقف ودون هذا التقلّص في قاعدتها الجماهيرية. فحتّى مقاطعة الجماهير للأنتخابات على سبيل المثال، لا يعني مطلقا أنّ السلطة فقدت قاعدتها الأجتماعية على الأطلاق. فهذه السلطة قادرة بخطاب أو فتوى أو تغريدة لأي رجل دين أو سياسي (شيعي- سنّي)، على تجييش الشارع طائفيا، وبالتالي تصبح القاعدة الأجتماعية اكثر وضوحا وسعة بعد أن يتمترس المجتمع خلف هوياته الفرعية وهذا ما تريده السلطة وتعمل على تغذيته. أنّ ما يغيب عن بال الجماهير ومن عليهم قيادتها من أحزاب ومنظمّات سياسية اليوم وهي تتعامل بشكل سلبي مع ما يجري في البلاد، هو أنّ فقرهم وفقر بلادهم ونهب المال العام من قبل السلطة وأذرعها سيساهمان في تفكك البلاد وربمّا أنهيارها مستقبلا. فعملية تآكل ما لم يتم تآكله من مشاريع بنيت منذ عشرات العقود ستتم بطريقة دراماتيكية، في أوّل إنخفاض حقيقي لأسعار النفط وتأثيره الكبير على إلتزامات السلطة في توفير رواتب جيوش الموظفين الحقيقيين والذين لا تحتاج السلطة الا الى نصفهم في أحسن الحالات لتسيير أمور دوائر الدولة الغارقة بالبيروقراطية، ورواتب الميليشيات المسلّحة وتلك المخصصة لجيوش وهميين آخرين ، وسيرافقها حتما أنهيار منظومة الفساد التي تحكم البلاد اليوم تاركة إيّاها أي البلاد بخزائن فارغة وديون كبيرة وفقر وبطالة وبنى تحتية متهالكة. إننا اليوم بحاجة ولخروج العراق من أزمته أو أزماته العميقة بالأحرى، الى عدم البحث عن حلول تأتي من السلطة وأحزابها، بل علينا أن نطرح أسئلة جديدة حول مستقبل شعبنا ووطننا، بعيدا عن خطاباتنا وتحليلاتنا السياسية القديمة تلك التي تجاوزها الزمن حول إمكانية ديموقراطية المنطقة الخضراء من حلّ مشاكل بلدنا وشعبنا. علينا أن نعلن وبوضوح من أنّ إستقرار بلدنا وبدء مشروع بناء الأنسان العراقي لا يتحققان وهذه الأحزاب على رأس السلطة. علينا إستفزاز العقل السياسي العراقي للعمل من أجل التغيير وخصوصا عقول الجماهير التي سعت وتسعى السلطة لتخلّفها، فمشاركة الجماهير في رسم سياسات البلاد هي الأساس لصياغة مشروع مجتمعي يضمن الديموقراطية الحقيقية في البلاد.
المصدر: شبكة اخبار العراق
إقرأ أيضاً:
العراق: الميليشيات وحرب الموارد!
تسبب قرار إداري بتغيير مدير زراعة بغداد، وهي وظيفة مدنية تتبع لمجلس محافظة بغداد، في مواجهة مسلحة بين الميليشيات التي يتبع اليها مدير الزراعة المقال (وهي ميليشيا كتائب حزب الله) والميليشيات التي يتبع اليها المدير الجديد (وهي ميليشيا كتائب الإمام علي)، وأدى إلى تدخل القوات الأمنية وقد نتج عن هذه المواجهة سقوط قتيل و14 عشر جريحا منهم.
في العراق، لا يمكن فهم المواجهة المسلحة بين الميليشيات، والتي يفترض أنها تتبع القائد العام للقوات المسلحة، وأنها تنتمي إلى هيئة الحشد الشعبي، إلا في سياق حقيقة أن هذه الميليشيات لا تتبع سوى أوامر «عرابيها»، وأنها تستخدم كأدوات للسيطرة على الموارد، عبر ما يسمى بالمكاتب الاقتصادية التابعة لها، والمستنسخة من المكاتب الاقتصادية للأحزاب. وأن دورها الرئيسي هو ضمان الحاكمية الشيعية في العراق وضمان فرض هوية أحادية على الدولة والمجال العام، وضمان سيطرة القوى الحليفة لإيران على السلطة في العراق في مواجهة القوى الشيعية الأخرى (بشكل خاص التيار الصدري)، ثم استخدامها بطبيعة الحال لتحقيق مصالح شخصية لعرابيها، وللمجموعات الزبائنية المحيطة بهم!
منذ 2014 وأنا شخصيا أقول إن الحشد الشعبي، الذي أعلن عن تشكيله في حزيران 2014 دون إطار قانوني (بعد تحريف فتوى المرجع الديني السيد علي السيستاني التي دعت إلى الجهاد الكفائي عبر التطوع في القوات الأمنية حصرا)، كان خيارا إيرانيا، وإن القوى السياسية الشيعية وأجنحتها المسلحة والميليشيات الشيعية (التي أعاد رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي تفعيل نشاطها في منتصف عام 2012، كرد فعل على محاولة سحب الثقة عنه، ولاستخدامها لدعم نظام بشار الأسد من جهة ثانية) ظلت عصية على الضبط طوال السنوات اللاحقة.
فبعد ما يقارب ثلاثين شهرا من التشكيل الفعلي للحشد الشعبي، صدر قانون هيئة الحشد في تشرين الثاني 2016، وكان قانونا مهلهلا غايته توفير الغطاء القانوني والمالي للميليشيات العاملة فعليا على الأرض، ومع ذلك تضمن مادة نصت على أن «يتم فك ارتباط منتسبي هيئة الحشد الشعبي الذين ينضمون الى هذا التشكيل عن كافة الاطر السياسية والحزبية والاجتماعية ولا يسمح بالعمل السياسي في صفوفه». لكن هذا لم يحدث مطلقا، وأقصى ما حصل هو استبدال أسماء تلك الميليشيات بألوية ذات أرقام محددة، مع معرفة الجميع بأن كل لواء من هذه الألوية هو ميليشيا تابعة لهذه الجهة أو تلك، وبقاء ارتباطها الكامل بعرابيها (على سبيل المثال اللواء 45 و46 اللذان شاركا في المواجهة التي تحدثنا عنها بداية المقالة، يتبعان لكتائب حزب الله)!
ولمواجهة هذا الانفلات، أصدر رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي عام 2018 أمرا ديوانيا في محاولة منه لضبطها، وتضمن فقرة تنص على أنه «يشترط لمن يشغل منصب آمر تشكيل فما فوق [أي قادة المناطق ونائبا رئيس هيئة الحشد الشعبي] أن يكون خريج دورات كلية القيادة او كلية الأركان التابعة لوزارة الدفاع، ولا يكون إشغال المناصب المذكورة إلا بموافقة القائد العام للقوات المسلحة، وله حق استثناء من لا تتوفر فيه الشروط المذكورة لمن لديه خبرة عملية وأثبتت كفاءة في الميدان وباقتراح من رئيس الهيئة». لكنه عجز عن تنفيذ ذلك، وأصرت الميليشيات، ومن خلفها إيران والقوى السياسية الشيعية، على إبقاء الوضع على ما هو عليه!
عام 2019 أصدر رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي أمرا ديوانيا آخر، أكثر شدة، لضبط الميليشيات التي أصبحت فاعلا سياسيا رئيسيا، فلم تعد الأحزاب الشيعية الرئيسية لديها أجنحة مسلحة، بل أصبح لكل ميليشيا جناح سياسي يمثلها في مجلس النواب.
تضمن هذا الأمر الديواني التخلي نهائيا عن جميع المسميات التي عملت بها فصائل الحشد الشعبي في سياق الحرب على داعش، واستبدال ذلك بتسميات عسكرية (فرقة، لواء، فوج، الخ)، كما يحمل أفرادها الرتب العسكرية المعمول بها في القوات المسلحة، وأن تقطع هذه الميليشيات افرادا وتشكيلات أي ارتباط سياسي أو عقائدي، وتضمن الأمر الديواني «غلق جميع المكاتب الاقتصادية أو السيطرات أو التواجدات أو المصالح المؤسسة خارج الإطار الجديد لعمل وتشكيلات الحشد الشعبي كمؤسسة تعتبر جزءا من القوات المسلحة» لكنه فشل أيضا في تنفيذ هذا الأمر الديواني للأسباب نفسها!
بعد احتجاجات تشرين، لم تعد هذه الميليشيات مجرد دولة موازية، بل فرضت سطوتها على الدولة نفسها، وبدا هذا واضحا عندما اضطُر رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، حينها، إلى الإذعان الكامل لها. وبعد انتخابات 2021 أصبحت هذه الميليشيات الفاعل الرئيسي في الدولة بعد سيطرتها على مجلس النواب بعد استقالة التيار الصدري، وسيطرتها على الدولة بضوء أخضر إيراني!
بعيدا عن السلطة والدولة، كانت المكاتب الاقتصادية لهذه الميليشيات، قد بدأت بأخذ حصتها من الاستثمار في المال العام، لكن سلاحها مكنها هذه المرة من تجاوز المكاتب الاقتصادية للقوى السياسية، خصوصا في المناطق التي تنتشر فيها؛ بمحافظات بغداد ونينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك.
حيث استحوذت على الحصة الأكبر في المشاريع والمقاولات فيها، وفرضت إتاوات على الجميع، وسيطرت على مساحات واسعة من الأراضي المملوكة للدولة. ولم تكتف بذلك، بل أصبحت تبتز المواطنين عبر التهديد بالتهم الكيدية، وعلى رأسها الإرهاب، أو الانتماء إلى حزب البعث، أو عبر التهديد بالتهجير القسري لدفع مالكي البساتين والأراضي الزراعية بالتخلي عنها لمصلحتهم.
لا يمكن أيضا التعويل على موقف للفاعلين السياسيين السنة في هذه المسألة، بسبب خضوعهم الكامل لإرادة الفاعل السياسي الشيعي
ويحرص الفاعلون السياسون الشيعة، ومن خلفهم إيران، على الإبقاء على الميليشيات، خاصة بعد التغيير الذي حدث في سوريا، لاعتقادهم أنها الضامن الوحيد ليس لضمان الحاكمية الشيعية وحسب، بل لاستمرار وجودهم نفسه، لهذا يرفضون الحلين الوحيدين المنطقين وهما حلها أو دمجها في القوات المسلحة العراقية، فالجميع يدرك أنه لا إمكانية لإعادة هيكلة هذه الميليشيات وإنهاء طبيعتها المزدوجة (قوات رسمية وغير رسمية)، وولائها المزدوج (العراقي -الإيراني)، ونطاق عملها المزدوج أيضا (في الداخل وخارج الحدود)، ولا إمكانية لضمان التزامها بالقانون أو بسياقات الدولة، والتخلي عن تكوينها العقائدي الطائفي.
ولا يمكن أيضا التعويل على موقف للفاعلين السياسيين السنة في هذه المسألة، بسبب خضوعهم الكامل لإرادة الفاعل السياسي الشيعي، كما أن الانقسام الكردي بين السليمانية الحليفة للميليشيات، وأربيل التي تواجه صواريخهم ومسيّراتهم، يمنعهم من اتخاذ موقف حاسم، ومن ثم لم يبق سوى الموقف الأمريكي الذي يصر على دمجها في القوات المسلحة، وهو الموقف الوحيد الذي سيحدد مستقبلها، بل ومستقبل الدولة العراقية ككل لاسيما أن المجتمع الدولي لديه تجربة مرة مع العراق، بسبب الممارسات السياسية الطائفية التي أدت إلى ظهور داعش، والتداعيات الخطيرة التي نتجت عن ذلك.
وعلى العقلاء في الطبقة السياسية العراقية، إن وجدوا، أن يتعلموا من دروس الماضي، وأن يصححوا الخطايا التي ارتكبوها؛ بينها خطيئة صناعة الدولة الموازية التي شكلتها هذه الميليشيات، وأن الإصرار على استمرار هذه الخطايا لغرض فرض الحاكمية الشيعية، وتقويض الدولة، لا يمكن إلا أن يكون إصرارا على الخراب.
القدس العربي