«التغير المناخي والبيئة» تطلق «النظام الوطني للقياس والإبلاغ والتحقق»
تاريخ النشر: 15th, October 2025 GMT
دبي(الاتحاد)
في إطار مساعيها الاستراتيجية لتعزيز ريادة دولة الإمارات في مجال العمل المناخي العالمي، ودعماً لمسارها نحو تحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2050، أعلنت وزارة التغير المناخي والبيئة عن إطلاق«النظام الوطني للقياس والإبلاغ والتحقق (MRV)»، وذلك خلال فعالية خاصة أقيمت على هامش معرض «جيتكس جلوبال» في دبي، بحضور عدد من كبار المسؤولين من الجهات المعنية والقطاع الخاص والخبراء.
ويُعد النظام الجديد ركيزة أساسية في منظومة الحوكمة البيئية والمناخية للدولة، حيث يمثل أول منصة وطنية متكاملة من نوعها في المنطقة تجمع بين رصد انبعاثات غازات الدفيئة وملوثات الهواء. ويهدف النظام إلى توفير قاعدة بيانات دقيقة وموثوقة تدعم صناع القرار في وضع سياسات قائمة على الأدلة، وتمكين كافة القطاعات من تتبع التقدم المحرز في تحقيق الأهداف المناخية والبيئية للدولة، وعلى رأسها استراتيجية الحياد المناخي 2050 والأجندة الوطنية لجودة الهواء 2031.
أخبار ذات صلةكما يلعب النظام دوراً حيوياً في تحقيق هدف تصفير البيروقراطية الحكومي من خلال تقليل الإجراءات واختصار دورة العمل الطويلة والمعقدة إلى مسار مبسط وفعّال.
وفي كلمتها خلال الفعالية، أكدت معالي الدكتورة آمنة بنت عبدالله الضحاك، وزيرة التغير المناخي والبيئة، أن إطلاق النظام يجسد رؤية القيادة الرشيدة في تسخير الابتكار والتحول الرقمي لبناء مستقبل مستدام ومزدهر.
وقالت معاليها: «في دولة الإمارات، لا ننظر إلى الاستدامة كخيار، بل كمسار استراتيجي لضمان ازدهار الوطن، وإن طموحنا للوصول إلى الحياد المناخي بحلول عام 2050 يقع في قلب رؤية الإمارات التنموية، وجزء لا يتجزأ من مسار بناء اقتصاد وطني متنوع وتنافسي، ونرى في هذا التحول فرصة استراتيجية لتعزيز الابتكار في قطاعاتنا الرئيسية، وفتح آفاق جديدة للنمو، وضمان مستقبل مستدام ومزدهر لأجيالنا القادمة».وأضافت معاليها: «إن تحقيق هذه الرؤية الطموحة يتطلب أساساً متيناً من المعرفة والبيانات الدقيقة، فلا يمكننا إدارة ما لا يمكننا قياسه، ومن هنا، يأتي إطلاق «النظام الوطني للقياس والإبلاغ والتحقق» ليمثل نقلة نوعية في حوكمتنا البيئية، فهو أداة استراتيجية تُمكّننا من قياس انبعاثاتنا بدقة، وفهم تأثيرنا البيئي، والوفاء بالتزاماتنا المناخية بكل ثقة ومسؤولية، وترسيخ مكانة الدولة كنموذج رائد عالمياً في مجال الريادة المناخية والبيئية».
وفي ختام كلمتها، توجهت معالي الضحاك بالشكر والتقدير إلى جميع شركاء النجاح الذين أسهموا في إنجاز هذا المشروع الوطني على مدار 4 سنوات، وقالت: «أتوجه بخالص الشكر والتقدير إلى جميع شركائنا، من الوزارات والجهات الاتحادية، والحكومات المحلية في كافة إمارات الدولة، وشركائنا في القطاع الخاص والصناعي وشركائنا الدوليين الذين أسهموا ببياناتهم وخبراتهم في هذا الإنجاز المهم».
وقالت الدكتورة شيخة سالم الظاهري، الأمين العام لهيئة البيئة – أبوظبي: «يُعد النظام الوطني للرصد والإبلاغ والتحقق إحدى آليات الحوكمة الرئيسة في مسار التحول الرقمي بالدولة، ويسهم هذا النظام في تسريع تدفق البيانات البيئية الدقيقة، ما يعزز مكانة الدولة عالمياً من خلال الوفاء بالتزاماتها الدولية في مواعيدها وبأعلى مستويات الدقة، إلى جانب تمكين متخذي القرار من بناء سياسات مستندة إلى بيانات علمية موثوقة، وفي هيئة البيئة – أبوظبي، نعمل كحلقة وصل بين الجهات الحكومية المحلية والنظام الاتحادي عبر مشروع وطني متكامل يُعنى برفع كفاءة ودقة البيانات البيئية، بما يخدم الأجندة البيئية لإمارة أبوظبي، ويدعم في الوقت ذاته المتطلبات الاتحادية والالتزامات الدولية للدولة».
ومن جانبه، أشاد أحمد محمد بن ثاني، مدير عام هيئة دبي للبيئة والتغير المناخي؛ بدور وزارة التغير المناخي والبيئة في توظيف الحلول التقنية وابتكار الحلول البيئية التي تضمن الحفاظ على الموارد البيئية على المستوى الوطني.
وأكد على أهمية النظام الوطني للرصد والإبلاغ والتحقق باعتباره منصة رقمية تعكس التزام الدولة بتحقيق الأهداف المناخية الوطنية والدولية، بما يتماشى مع اتفاق باريس للمناخ وأهداف التنمية المستدامة، منوهاً بدور النظام في توفير آلية متكاملة لجمع وتحليل بيانات انبعاثات الكربون ما يضمن الشفافية والدقة في وضع التقارير البيئية والتي تدعم صنّاع القرار بمعلومات موثوقة لتطوير سياسات مناخية فعّالة.وأضاف : «العمل البيئي يقوم على التعاون الشامل بين مختلف الجهات، ويسلّط النظام الضوء على أهمية هذه الشراكات لتحقيق الأولويات البيئية لكل إمارة، بالتوازي مع بناء القدرات الفنية والمؤسسية، وبدورنا، سنعزز في هيئة دبي للبيئة والتغيّر المناخي تعاوننا مع مختلف الجهات المعنية لتوظيف القدرات التي يتيحها النظام بشكلٍ يرسّخ مكانة إمارة دبي في العمل المناخي المستدام».
وقال الشيخ محمد بن حميد القاسمي رئيس دائرة الإحصاء والتنمية المجتمعية بالشارقة: «تنميتنا الخضراء تبدأ من رصد البيانات عبر نظام الرصد والإبلاغ والتحقق (MRV)، الذي يزوّدنا برؤية دقيقة وواضحة لانبعاثات الغازات الدفيئة، ويُمكّننا من اتخاذ قرارات مستدامة تعزز ريادة إمارة الشارقة في العمل المناخي والبيئي».
وقال عبد الرحمن محمد النعيمي، مدير عام دائرة البلدية والتخطيط – عجمان: «يمثل إطلاق نظام الإبلاغ والتحقق (MRV) خطوة استراتيجية تعزز مكانة الدولة في منظومة العمل المناخي إذ يسهم في رفع كفاءة إدارة الانبعاثات وتوحيد منهجية قياسها وتحليلها، بما يدعم مستهدفات الحياد الكربوني ويعزز من شفافية وجودة البيانات البيئية».
وقال المهندس أحمد إبراهيم عبيد آل علي مدير عام دائرة بلدية أم القيوين: «تعكس مشاركتنا في النظام الوطني للرصد والإبلاغ والتحقق التزام بلدية أم القيوين بدعم الجهود الوطنية في العمل المناخي ونفخر بأن نكون جزءاً من إنجاز هذا النظام المحوري لتعزيز جودة الهواء والارتقاء بجودة الحياة».
وقال الدكتور عبد الرحمن الشايب النقبي المدير التنفيذي بالإنابة لهيئة حماية البيئة والتنمية في رأس الخيمة: «تواصل إمارة رأس الخيمة تعزيز جهودها في مكافحة التغير المناخي من خلال تطبيق نظام «القياس والتقرير والتحقق» (MRV). يسهم النظام في مراقبة انبعاثات الغازات الدفيئة، وتقديم تقارير دقيقة حول التقدم في خفضها، مما يعزز الشفافية ويدعم اتخاذ قرارات بيئية مستدامة، ويتماشى هذا النظام مع رؤية الإمارات 2050 التي تركز على تحقيق التنمية المستدامة، وزيادة كفاءة الطاقة، وتقليص الانبعاثات الكربونية. كما يشجع النظام الشركات المحلية على تبني تقنيات صديقة للبيئة، مما يسهم في استدامة الموارد في الإمارة ويدعم الأهداف البيئية الوطنية».
وأفادت أصيلة عبدالله المعلا. مديرة هيئة الفجيرة للبيئة، نحرص في هيئة الفجيرة للبيئة على مواءمة استراتيجيتنا مع هذا المشروع الوطني الرائد «النظام الوطني للرصد والإبلاغ والتحقق»، والذي يمثل خطوة محورية تجسد رؤية قيادتنا الرشيدة في تعزيز الحوكمة عن طريق الشفافية والمصداقية في رصد ومشاركة البيانات بالتعاون مع الجهات الاتحادية والقطاع الخاص لضمان تجربة ناجحة لهذا المشروع الوطني، وذلك وفق أعلى مستويات الدقة في جمع وتحليل البيانات لتطوير منظومة وطنية رقمية متكاملة تسهم في تحسين جودة الهواء وتعزيز كفاءة إدارة الانبعاثات.
وخلال الفعالية، قدمت الدكتورة العنود عبدالله الحاج، وكيل الوزارة المساعد لقطاع التنمية الخضراء والتغير المناخي بالوكالة بوزارة التغير المناخي والبيئة، عرضاً تقديمياً شاملاً استعرضت فيه الأبعاد الاستراتيجية والتقنية للنظام الجديد.
وأوضحت أن النظام يهدف إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الرئيسة أهمها ترسيخ ريادة الدولة عبر تعزيز امتثالها وتوافقها مع متطلبات الشفافية ومعايير العمل المناخي الدولية بموجب المادة (13) من اتفاق باريس للمناخ، وبناء منظومة متكاملة تمكّن مختلف الجهات الوطنية والمحلية من التعاون في عمليات رصد الانبعاثات والإبلاغ عنها من خلال منصة موحدة وسهلة الاستخدام، بالإضافة إلى دعم اتخاذ القرار من خلال توفير بيانات دقيقة ومحدثة حول انبعاثات غازات الدفيئة وملوثات الهواء لدعم صناع القرار في تطوير سياسات وتشريعات قائمة على الأدلة، فضلاً عن تسريع تحقيق الأهداف الوطنية وعلى رأسها استراتيجية الإمارات للحياد المناخي 2050 والأجندة الوطنية لجودة الهواء 2031.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: التغیر المناخی والبیئة العمل المناخی من خلال
إقرأ أيضاً:
النقود كإشارات.. لا كمعيار للقياس
بيتر سي. إيرل / ترجمة - بدر بن خميس الظّفري
رغم أن النقاشات بين الاقتصاديين ضرورية لصقل التفكير ومراجعة الافتراضات وتطوير المفاهيم، إلا أنّ الاقتصاد كثيرًا ما يبدو عصيًا على الفهم وغير بديهي لغير المتخصصين؛ فالمفاهيم التي يتداولها الخبراء يوميًا كأمر بديهي قد تبدو غامضة أو حتى متناقضة بالنسبة للعامة. ولهذا يصبح من المفيد أن نشارك في حوارات مع أشخاص قد لا يملكون تكوينًا أكاديميًا اقتصاديًا، لكنهم يطرحون أسئلة فضولية ورؤى عملية.
في العام الماضي، أثارت إحدى الملاحظات بعد محاضرة لي نقاشًا عميقًا. كما سبق أن علّقت على «ميمات اقتصادية» انتشرت بين الناس. (الميمات الاقتصادية هي صور أو عبارات شائعة على وسائل التواصل الاجتماعي تحمل أفكارًا اقتصادية). وفي مؤتمر حديث، ألقيت محاضرة عن إزالة الدولرة (أي تقليل الاعتماد على الدولار عالميًا)، وعما يُسمى اتفاق مار-آ-لاغو (وهي تسمية غير رسمية لتفاهمات سياسية واقتصادية تتعلق بالعملة). وخلال فقرة الأسئلة، وقف أحد الحضور ليسألني: «متى سنحظى أخيرًا بدولار ثابت؟» ثم شبّه الأمر بالوحدات القياسية مثل البوصة أو الساعة، متسائلًا: «أليس تقبل تذبذب قيمة الدولار أشبه بقبول تغيّر طول البوصة أو مدة الساعة بشكل عشوائي؟».
نحن نعيش في عالم تحكمه البيانات والقياسات أكثر فأكثر، وهذا يغري الناس بأن يتعاملوا مع المال، الذي نتداول به يوميًا، كما لو كان وحدة قياس أخرى، كالبوصة للطول أو الثانية للزمن أو الكيلوجرام للوزن. لكن الحقيقة أن المال لم يكن يومًا وحدة قياس ثابتة للقيمة الاقتصادية. فالدولار ليس بوصة. قيمته ليست معيارًا ثابتًا يُقاس به الزمن أو المسافة، بل هي انعكاس لاتفاق اجتماعي هشّ يتأثر بالاقتصاد والسياسة والثقافة.
يزيد الالتباس من وظيفة المال بوصفه وحدة حساب، (أي الأداة التي نحدد بها الأسعار والقيم ونقارن بين السلع والخدمات)، فالمال يُستخدم لتسعير السلع وتوضيح شروط التبادل وتأجيل المدفوعات، رغم أن قوته الشرائية تتغير مع مرور الوقت. أما وحدة القياس، فهي معيار ثابت وموضوعي لا يتبدل.
وللوهلة الأولى قد يبدو أن وحدة الحساب تشبه أداة القياس. فالأسعار تُعبَّر بالدولار، ونقارن الأجور والثروات والناتج المحلي الإجمالي (القيمة الإجمالية لإنتاج الدولة) بعملة محددة. لكن هذا التشابه خادع، فالوحدات الفيزيائية (كالطول أو الزمن) تقوم على ثوابت لا تتغير، بينما الدولار أو اليورو أو اليـَنْ ليست سوى وحدات «هشّة» تستمد قيمتها من توازنات معقدة بين الحكومات والبنوك المركزية والأسواق والأفراد.
الوحدة الحقيقية للقياس يجب أن تستوفي شروطًا دقيقة، منها أن تكون ثابتة عالميًا، وقابلة للتكرار، ومحصّنة ضد تقلّبات الزمن والسياسة. فالبوصة في فلوريدا هي نفسها البوصة في ألاسكا، والدقيقة على ساعة شمسية هي نفسها على هاتف ذكي. والـ«كيلوجرام» في عام 1965 يساوي الكيلوجرام في عام 2025 عمليًا، حتى وإن تغيّر تعريفه في 2019 من قطعة معدنية محفوظة إلى ثوابت فيزيائية أساسية لضمان دقة وعمومية أكبر. فالوحدات ترتبط بالثوابت الطبيعية أو بالمعايير المجرّدة المستمرة. أمّا النقود، فقيمتها تتغير باستمرار حتى وإن ظل اسمها ثابتًا.
خذ مثال التضخم، وهو ارتفاع عام ومستمر في الأسعار يؤدي إلى تراجع القوة الشرائية للنقود، فقيمة الدولار الشرائية في عام 1925 تختلف جذريًا عنها في 2025 (هبطت بنحو 95%). حتى في العقود التي شهدت معدلات تضخم منخفضة نسبيًا، ظلّت القوة الشرائية للدولار تتآكل تدريجيًا وببطء، لكنه تآكل حتمي لا مفر منه بمرور الوقت. ولو كانت النقود وحدة قياس حقيقية، لكانت هذه التقلبات جعلتها غير صالحة. تخيّل أن يصل خشب اشتريته من المصنع بطول مختلف عمّا هو متفق عليه بحسب الطلب أو المرحلة الاقتصادية. ستنهار التجارة، وتفشل العقود، وتتوقف المشاريع.
الأهم من ذلك أنّنا لا نريد للنقود أن تكون ثابتة كالـمتر أو الكيلوجرام. نريدها أن تتمدد وتنكمش؛ لأن هذه الحركة هي ما يجعلها تؤدي وظيفتها الأهم، وهي إيصال إشارات عن الحالة الاقتصادية. فالنقود تنقل التغيّرات في الأسعار استجابة لظروف العرض والطلب، وتعكس ندرة الموارد أو وفرتها، وحاجات الناس الملحّة، وتغيّر أذواق المستهلكين، والمخاطر كما يقدّرها المستثمرون والمقرضون. الدولار الثابت تمامًا، المعروف أحيانًا باسم «الدولار المربوط» أو «الدولار الثابت»، سيكون «دولارًا ميتًا»، عاجزًا عن إرسال أي إشارة جديدة.
بهذا المعنى، النقود ليست أداة للقياس، بل رسول ينقل رسائل. فائدتها ليست في الثبات، وإنما في القدرة على الاستجابة للعرض والطلب. حين يرتفع سعر القمح مقارنة بالذرة، أو يصبح العمل أكثر كلفة في قطاع دون آخر، فإن تغيّر الأسعار ينقل معلومة تدفع المستثمرين لإعادة توجيه رأس المال، وتحث المنتجين على تعديل الإنتاج، وتشجع المستهلكين على إعادة النظر في طريقة إنفاقهم. لو كان الدولار وحدة جامدة كالميل أو الكيلومتر، لما استطاع أن يسجّل هذه التغيرات أو يعكسها. وهذا كان ليُعطّل آلية التسعير ويشوّه نظام التنسيق داخل الاقتصاد السوقي.
حالة اللااستقرار هذه تعكس الطابع السياسي والمؤسسي للنقود؛ فالوحدات المعيارية عادة ما تديرها مؤسسات علمية مثل (المعهد الوطني للمعايير والتقنية) عبر مكتب الأوزان والمقاييس، وليست البنوك المركزية أو البرلمانات. لكن عرض النقود، وأسعار الفائدة التي تحدد مدى توافرها، والجهات المسؤولة عن إصدارها، كلها تخضع للدوافع السياسية والأطر الأيديولوجية والضغوط الاقتصادية. السلطات النقدية تغيّر سياساتها وفقًا لتوقعات التضخم، أو متطلبات التوظيف، أو الأزمات الجيوسياسية، أو حتى الحسابات الانتخابية. لذلك فإن تقلبات قيمة النقود ليست عيوبًا في النظام، بل هي جزء من بنيته.
علاوة على ذلك، لا يمكن النظر إلى النقود بمعزل عن غيرها؛ فهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالائتمان (وهو منح الثقة المالية بين المُقرِض والمُقترِض)، والدَّين، والثقة بالمؤسسات؛ فالدولار ليس «شيئًا» ماديًا بقدر ما هو اتفاق ضمني لا يكتسب أي معنى إلا إذا قبله الآخرون وتعاملوا معه كقيمة. وهذا يختلف جذريًا عن الوحدات المعيارية مثل الثانية أو الكيلوجرام، التي لا تحتاج إلى ثقة لتؤدي وظيفتها. فأنت لا تحتاج إلى الاطمئنان إلى الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) كي تعرف كم تدوم الدقيقة، بينما تعتمد فائدة الدولار بالكامل على توقعات المستقبل والثقة بالجهة المصدّرة وآليات التداول والتسوية.
وبما أن النقود تستمد قيمتها من ثقة الناس وقبولهم العام لها، فإن قيمتها ليست ثابتة، بل نسبية تخضع للظروف والتوقعات. ويصف الاقتصاديون هذه الإشكالية بأنها الفرق بين «القيمة الاسمية» (الرقم المكتوب على السلعة أو العملة) و«القيمة الحقيقية» (القوة الشرائية الفعلية). فحين تشير بطاقة سعر إلى 100 دولار، فهذا لا يوضح الكثير عن القيمة ما لم نعرف السياق، فماذا تعني 100 دولار حين يكون ثمن رغيف الخبز دولارًا واحدًا؟ وماذا تعني حين يصبح ثمنه 10 أو 50 دولارًا؟ هنا يختلف المعنى كليًا. أما البوصة، فهي دائمًا بوصة واحدة لا تتغير بتغير الظروف.
فهل يصبح الدولار تحت معيار الذهب (نظام ربط قيمة العملة بكمية محددة من الذهب) وحدة قياس حقيقية؟ الجواب: لا. حتى في ظل ربط العملة بالذهب أو الفضة، فإن قيمة الدولار لا تُعرَّف بثابت طبيعي كما يُعرَّف المتر بسرعة الضوء. بل تظل معتمدة على إمكانية تحويله إلى ذهب، والثقة بآليات هذا التحويل، وقدرة السلطة النقدية واستعدادها للحفاظ على إمكانية تحويل العملة إلى الذهب/الفضة (أو أي أصل آخر) هي الأساس في ثبات قيمتها. ويُظهر التاريخ أن نظام ربط العملة بالذهب كثيرًا ما تم إيقافه أو التلاعب به أو التخلي عنه تمامًا عندما تتعرض الدول لأزمات مالية أو ضغوط سياسية. عمليًا، لا يحوّل ربط العملة بالذهب النقود إلى وحدة قياس، بل يربط رمزيتها بأصل آخر متقلب ويستجيب بدوره لاكتشاف مصادر الذهب الجديدة، وحجم الإنتاج، ومستويات الطلب، والتوقعات المستقبلية. النقود، من حيث الأصل، سلعة شأنها شأن غيرها، لكنها سلعة خاصة، فقيمتها الأساسية لا تكمن في استهلاكها أو إنتاجها، بل في قبولها العام كوسيلة للحصول على سلع وخدمات أخرى. وهنا تبرز أهميتها كوسيط للتبادل يمكّن من التنسيق الاقتصادي عبر الزمن والمكان والأسواق. وعلى خلاف الوحدات العلمية الثابتة مثل الديسيبل أو «طول بلانك» (وحدة قياس فيزيائية صغيرة جدًا مرتبطة بثوابت الطبيعة)، فإن الدولار في محفظتك ليس معيارًا ساكنًا، بل فاعل اقتصادي يؤثر على السيولة والطلب وحركة أسواق النقد بمجرد احتمالية استخدامه.
إن التفاعل بين النقود والأسعار يُفهم أفضل باعتباره سلسلة من «نسب التبادل»، (كمية من سلعة أو خدمة مقابل كمية من أخرى) التي تعكس بصورة ديناميكية مقدار ما يُضحى به من سلعة للحصول على أخرى باستخدام النقود كوسيط. النقود ليست مقياسًا ثابتًا للقيمة، بل هي قناة حيّة تنقل إشارات السوق، فتجسّد من خلالها معاني الندرة (أي محدودية الموارد المتاحة مقارنة بالطلب عليها)، وتعبّر عن تفضيلات المستهلكين، وتعكس توقعات الأسواق، لتظهر جميعها في صورة أسعار متحركة ومتغيرة على الدوام. تكمن أهمية هذا التمييز في أن التوهم بأن النقود أداة قياس يضلل التفكير الاقتصادي. فهو يغري بالاعتقاد أننا نستطيع المقارنة بدقة عبر الزمن والمكان، بينما في الواقع تشوب هذه المقارنات تقلبات أسعار الصرف، وتغير مستويات الأسعار، وتحولات الأعراف الاجتماعية. كما يعزز الاعتماد المضلل على المؤشرات النقدية وكأنها تعكس بدقة الناتج الاقتصادي الحقيقي أو رفاهية الإنسان.
إن النظر إلى النقود باعتبارها «مقياسًا ثابتًا للقيمة» يعني تجاهل جوهرها الحقيقي، فهي في الأساس اتفاق بشري مشروط بالمؤسسات، ومتأثر بالثقة، ومعرّض للتلاعب. النقود ليست مسطرة لقياس القيمة، بل أداة للتنسيق الاقتصادي والاجتماعي. فالتعامل مع الدولار كما لو كان مترًا لقياس «الجدوى» أو «القيمة» يحجب الطبيعة المعقّدة والديناميكية للنظام النقدي، ويدفع الأفراد وصانعي السياسات إلى اتخاذ قرارات خاطئة قائمة على تشبيه مضلّل.
فالنقود تيسّر التبادل وتدعم أشكال الثروة المتنوعة من خلال تمكين التجارة غير المباشرة وتخصّص الإنتاج، كما تقوم بدور «المقام المشترك» الذي يجعل الحسابات الاقتصادية والتقييمات ممكنة في اقتصاد معقد وسريع التغير. إنها أشبه بلغة مشتركة أو إشارة بالعلم أو رافعة أو حتى قيدًا في دفتر حسابات؛ أي أنها نتاج اجتماعي هش يتشكل من التفاعلات البشرية. إن إدراك طبيعتها الحقيقية يبدأ بالتخلّي عن الأسطورة التي تقول إنها وحدة قياس للقيمة. لم تكن كذلك يومًا، ولن تكون. وهذه الحقيقة ضرورية كي نفهم، ومن ثم نتجاوز، الأوهام العديدة المحيطة بمفاهيم السعر والقيمة والثروة في عالمنا المعاصر.
بيتر سي. إيرل: حاصل على دكتوراه في الاقتصاد من جامعة أنجيه في فرنسا. يشغل منصب زميل أبحاث أول في المعهد الأمريكي للأبحاث الاقتصادية (AIER) منذ عام 2018. تتركز أبحاثه على أسواق المال والسياسة النقدية والتنبؤات الكلية وإشكاليات القياس الاقتصادي.
بيتر سي. إيرل
عن موقع: ذَ دايلي إكونومي