رقصة التنين والنسر في الصحراء الليبية
تاريخ النشر: 3rd, June 2025 GMT
في ركن دبلوماسي هادئ وسط زحام القاهرة، وبين جدران قاعات الاجتماع المكيّفة، جلست الوفود الثلاثة (مصر، الجزائر، وتونس) لتناقش “مصير ليبيا”، البلد الذي ما فتئ يتأرجح بين شظايا الفوضى وفتات الدولة.
لكن خلف الكلمات المنمّقة والبيانات الدبلوماسية، كان المشهد أبعد ما يكون عن البراءة، فالمائدة التي جمعت وزراء الخارجية لم تكن إلا ساحة أخرى من ساحات شطرنج النفوذ والمصالح، حيث تتداخل أوراق اللاعبين الإقليميين والدوليين، ويغدو الشعب الليبي مجرد تفصيل صغير في لوحة نفوذ كبرى.
مصر وفرنسا.. العناق مع برقة
تظهر مصر كأحد أبرز اللاعبين؛ لم تدع القاهرة إلى الاجتماع حبًا في بيانات السلام، بل بدافع المصالح الباردة التي لطالما ميّزت سياستها الإقليمية، فمنذ اللحظة الأولى، تحالفت القاهرة مع رئيس مجلس النواب الليبي ومع خليفة حفتر، ليس فقط لضمان حدودها الغربية، بل لبسط نفوذها على مساحات شاسعة من الشرق الليبي الغني بالنفط.
ولم تكن باريس بعيدة عن المشهد، زيارة ماكرون الأخيرة إلى القاهرة أبريل الماضي، ولقاء وزير الخارجية المصري مع نظيره الفرنسي-عقب الاجتماع التشاوري مباشرة- كلها تكشف مسرحية متقنة الإخراج، حيث تتلاقى المصالح المصرية-الفرنسية، وهو تلاقي جعل فرنسا كأنها حاضرة للاجتماع التشاوري- أو سمه التفاوضي- حتى وإن غاب مندوبها.
فرنسا تريد ليبيا مستقرة على مقاس مصالحها في شرق البلاد، ومصر تريد “تأمين حدودها” وصياغة معادلة السلطة الجديدة بما يتوافق مع أجندتها، وحتى المكالمة الهاتفية بين بدر عبد العاطي ومسعد بولس -مستشار الرئيس الأمريكي ترامب للشرق الأوسط- جاءت بغية حصول مباركة أمريكية لتعطيل مسار البعثة؛ لحساب خطوات إقليمية أخرى تقودها مصر وفرنسا، ويترجمها عقيلة صالح لمحاولة تشكيل حكومة جديدة بشكل آحادي، أو عبر مشاركة صورية مع خالد المشري؛ المطعون في جلوسه على مقعد رئاسة المجلس الأعلى للدولة.
الجزائر.. بين الحلم الأممي وواقعية المصالح
لكن الجزائر لم تأتِ لتصفق؛ بل حملت في جعبتها مشروعًا يتجاوز مقترحات باريس والقاهرة.
الجزائر، بحنكتها الدبلوماسية المعهودة، رفضت مشروع باريس الداعي لتشكيل حكومة جديدة، وقادت مع المجموعة الأفريقية (3+1) معارضة صلبة لهذا الطرح، والتوتر الدبلوماسي الأخير بينها وبين فرنسا زادها حماساً على حماسها.
هنا تتلاقى الجزائر مع الولايات المتحدة وبريطانيا في دعمها للمسار الأممي ومشروع بعثة الأمم المتحدة (UNSMIL)، مؤمنة بأن الحل في ليبيا يجب أن يكون ليبيًا-ليبيًا تحت رعاية أممية، وبعيدًا عن تدخلات القوة.
لكن هل هو موقف مثالي أم مصلحة مغلفة بالشرعية الدولية؟ الجزائر، القريبة من حكومة الدبيبة والمجلس الرئاسي، تعرف أن بقاء الوضع الحالي، مع تعديلات محسوبة، يخدم مصالحها الاقتصادية والأمنية في جنوب ليبيا وحدودها الطويلة.
تونس.. رقصة على حبل مشدود
أما تونس، فتبدو كمن يسير على حبل مشدود فوق نار المصالح المتقاطعة؛ مشاركتها كانت ضرورية لحفظ التوازن الجغرافي والسياسي، لكنها لم تحمل رؤية حادة كجاريها الكبيرين؛ ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن تونس تجد نفسها أقرب إلى الموقف الجزائري، بحكم التنسيق الإقليمي والرغبة في الحفاظ على أمن حدودها.
ما وراء الكلمات.. معركة بين العواصم
اللقاء التشاوري في القاهرة لم يكن اجتماعًا عابرًا لإحياء “آلية دول الجوار” التي ولدت في 2017 وماتت في 2019 -بعد انقسام مواقف أعضائها تجاه هجوم حفتر المسلح على العاصمة الليبية طرابلس- بل كان حلقة متقدمة في معركة نفوذ تدور بين محورين:
الأول، مصر-فرنسا، يسعى لتشكيل حكومة جديدة موالية لمصالحهما، يعيد ترتيب أوراق ليبيا قبل استئناف العملية الانتخابية.
الثاني، الجزائر -ومن ورائها أمريكا وبريطانيا- يتمسك بالمسار الأممي ويرفض الحلول المفروضة من الخارج.
وفي ظل هذه التوازنات المعقدة، لا يبدو أن ليبيا قريبة من السلام؛ بل هي أقرب إلى رقصة مستمرة بين النسر الأمريكي، التنين الفرنسي، وأسد الجزائر، في صراع على الرمال الحارقة.
الشعب الليبي، كعادته، ينتظر على الهامش؛ في رقعة الشطرنج الليبية، لا أحد يلعب لمصلحة الليبيين وحدهم، كل طرف، سواء أكان عاصمة إقليمية أم قوة دولية، يدفع بأحجاره وفق مصالحه العميقة.
اللقاء التشاوري في القاهرة لم يكن سوى محاولة لإعادة ترتيب الأوراق قبل توزيع الأدوار النهائية، ومثلما تعلمنا من تاريخ السياسة الواقعية، فإن ما يبدو مبادرة دبلوماسية هادئة، يخفي وراءه أجندات قاسية، مفصلة بعناية لتعظيم النفوذ وتقليص الخسائر.
ليبيا، برغم صرخات المجتمع الدولي وبيانات مجلس الأمن، ليست اليوم على أعتاب حل، بل على أعتاب إعادة تدوير الأزمة.
فرنسا ومصر-عبر حليفيهما في برقة – تريدان وضع بصمة واضحة على خريطة ليبيا المستقبلية، حتى وإن جاء ذلك عبر حكومة جديدة تصنعها غرف باريس والقاهرة، بعد أن أيقنا بأن دورهما في المسار الأممي الذي تديره البعثة لن يعدو أن يكون دورا ثانوياً للغاية.
الجزائر، بحنكتها، تراهن على المسار الأممي، وتتماهى مع موقف واشنطن ولندن للحفاظ على حكومة الدبيبة كورقة قوة.
أما الشعب الليبي، فهو العالق بين هذه القوى المتصارعة، ينتظر بصبر مَنْ سيُعيد إليه صوته؟ بعد أن خطف صوته، ومن يزاحم نيابة عنه هؤلاء المتفاوضون على مستقبله، بعد ما غاب من يفاوض على مصالحه على رقعة أرضه، وتاهت مشاريع حكامه اللاهتين وراء البقاء، ومع كل تأجيل، تتعمق الفجوة بين طموحاته والواقع، لتبقى ليبيا رهينة توازنات إقليمية ودولية متغيرة.
في النهاية، وكما كان يقول كيسنجر: “في السياسة، لا توجد صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، بل توجد مصالح دائمة،” وليبيا اليوم ليست سوى مسرحٌ لهذه المصالح، حتى إشعار آخر، فهل فعلا خرست الوطنية في أبناء ليبيا وذهبت ريحهم، فلا من يغير هذا الواقع الأليم الطويل؟!.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: حکومة جدیدة
إقرأ أيضاً:
الجزائر وإيطاليا.. تعاون يتجاوز الطاقة إلى الزراعة والنقل والبحث العلمي
في محطة دبلوماسية بارزة، وصف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون زيارته إلى إيطاليا بأنها “لبنة جديدة في صرح العلاقات النموذجية” بين الجزائر وروما، مشدداً على عمق الشراكة الاستراتيجية التي تربط البلدين وضرورة تطويرها في مختلف المجالات الحيوية.
جاء ذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني في ختام أعمال الدورة الخامسة للقمة الحكومية الجزائرية– الإيطالية، التي عقدت في أجواء اتسمت بالتفاهم السياسي والاقتصادي العميق.
الرئيس تبون أكد أن هذه القمة تمثل “خطوة عملية” تُجسّد الإرادة السياسية لدى الجانبين لتوسيع التعاون ليشمل مجالات جديدة، منها الموارد المائية، الزراعة المستدامة، الصناعة، النقل، والبحث العلمي والثقافي، إلى جانب العلاقات القوية بالفعل في قطاع الطاقة والطاقات المتجددة، حيث تعد الجزائر شريكاً أساسياً لإيطاليا في أمن الطاقة الأوروبي.
وأضاف تبون أن الجزائر تسعى لأن تكون جسراً اقتصادياً موثوقاً بين أوروبا وإفريقيا، لافتاً إلى أن ما تم التوصل إليه خلال القمة سيترجم إلى مشاريع ملموسة تخدم التنمية المستدامة للبلدين.
كما تناولت المحادثات، بحسب تبون، القضايا الإقليمية وعلى رأسها الوضع في منطقة الساحل، حيث شدد الجانبان على أهمية تعزيز التنسيق الأمني ومحاربة الإرهاب وتحقيق التنمية في هذه المنطقة الحساسة التي تشكل عمقًا استراتيجيًا للجزائر ومجالاً مهماً للسياسة الخارجية الإيطالية.
هذا وشهدت القمة توقيع اتفاقيات ثنائية في عدة قطاعات، إلى جانب ملتقى اقتصادي جمع رجال أعمال من البلدين، ما يؤكد– وفق تعبير تبون– “الطابع النموذجي” للعلاقات الجزائرية الإيطالية، والتي تقوم على أسس من الصداقة التاريخية والمصالح المتبادلة.
وتُعد إيطاليا واحدة من أبرز شركاء الجزائر الاقتصاديين في أوروبا، حيث تطورت العلاقات بين البلدين بشكل كبير في السنوات الأخيرة، مدفوعة بتقارب في الرؤى بشأن قضايا الهجرة، الطاقة، والأمن الإقليمي.
وفي ختام تصريحه، عبّر الرئيس تبون عن ثقته بأن ما تحقق خلال هذه الزيارة سيساهم في فتح آفاق جديدة لتعاون استراتيجي أوسع، يعكس المكانة المتقدمة التي باتت تحتلها الجزائر في محيطها الإقليمي والدولي، وتُعزز حضورها كشريك موثوق في ملفات الطاقة والاستقرار الإقليمي.
الجزائر تستنكر إجراءات فرنسا وتتوعد بالمعاملة بالمثل بشأن استلام الحقائب الدبلوماسية
أعربت الجزائر عن استغرابها الشديد من الإجراء الذي اتخذته السلطات الفرنسية والذي يقضي بمنع الأعوان المعتمدين بسفارة الجزائر في فرنسا من الوصول إلى المناطق المقيدة في المطارات الباريسية لتسلم الحقائب الدبلوماسية، معتبرةً ذلك انتهاكًا صارخًا للأعراف والقواعد الدبلوماسية الدولية.
وأوضحت وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية في بيان رسمي أن القائم بأعمال سفارة فرنسا بالجزائر تم استقباله اليوم في مقر الوزارة لتقديم طلب توضيحات حول هذا الإجراء، كما تواصل القائم بأعمال سفارة الجزائر في فرنسا مع الجهات المختصة بوزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية لمناقشة الأمر.
وأفاد البيان بأن التحقيقات أظهرت أن هذا القرار اتخذته وزارة الداخلية الفرنسية دون علم وزارة الخارجية الفرنسية، ومن دون إشعار رسمي، مما يعد “انعدامًا تامًا للشفافية” ويخالف القواعد الأساسية للممارسة الدبلوماسية.
وشددت الوزارة على أن هذا الإجراء يمثل “مساسًا خطيرًا بسير عمل البعثة الدبلوماسية الجزائرية في فرنسا، وانتهاكًا واضحًا لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، ولا سيما المادة 27 الفقرة 7 التي تكفل حق البعثة في تسلم الحقيبة الدبلوماسية مباشرة من ربان الطائرة”.
في ضوء ذلك، أعلنت الجزائر قرارها بتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل فورًا وبشكل صارم تجاه الجانب الفرنسي، مؤكدةً حقها في اللجوء إلى جميع الوسائل القانونية، بما في ذلك إخطار الأمم المتحدة، للدفاع عن حقوقها وضمان حماية بعثتها الدبلوماسية في فرنسا.