لماذا لم تُعلن الأمم المتحدة حالة المجاعة في غزة حتى الآن؟
تاريخ النشر: 23rd, July 2025 GMT
في عالمٍ تغمره الصور والبيانات والبلاغات اليومية، نادرةٌ هي اللحظات التي تُصبح فيها الكارثة أوضح من أن تُخفى، وأقسى من أن تُتحمّل.
غزة، اليوم، لا تُحتَضر فقط تحت القصف، بل تختنق جوعًا. أطفالٌ يموتون في أحضان أمهاتهم، شيوخٌ يقتاتون على العشب، وعائلاتٌ تنتظر قوافل الإغاثة التي لا تصل. بل إن مئات الفلسطينيين قُتلوا وهم يقفون في طوابير انتظار المساعدات، برصاص من يُفترض به أنه وجد لمساعدتهم لا أن يُجهز على ما تبقى من أمل.
أمام هذا المشهد الفاجع، يبرز سؤال مُلّح: لماذا لم تُعلن الأمم المتحدة حتى الآن أن ما يجري هو "مجاعة"؟
ليس السؤال لغويًا، ولا عاطفيًا، بل هو قانوني وإنساني في جوهره. إعلان المجاعة ليس مجرد وصفٍ مأساوي، بل أداة إنذار قصوى تُلزم المجتمع الدولي بالتحرّك. لكن حتى هذه اللحظة، ورغم تراكم الشهادات والتقارير والصور، لا تزال الأمم المتحدة تلتزم الصمت الرسمي حيال التوصيف الأخطر.
هذا المقال يتناول حيثيات هذا التردد. نفكّك فيه المعايير الفنية التي تعتمدها المنظمة لإعلان المجاعة، ونستعرض الشهادات الميدانية الصادمة، ونحلل الأبعاد السياسية والقانونية التي قد تُفسر هذا الصمت. وأهم من ذلك، نحاول الإجابة: هل الأمم المتحدة عاجزة عن الإعلان؟ أم إنها، في لحظة الحقيقة، اختارت الحياد و"المهنية" على حساب الحياة؟
المعايير الفنية والإجرائية لإعلان المجاعةلفهم عدم إعلان الأمم المتحدة حتى الآن عن حالة المجاعة في غزة، يجب إدراك المعايير الفنية والإجراءات التي تعتمدها لتصنيف الأزمات الغذائية.
طورت منظمة الأغذية والزراعة الأممية (FAO) 2004، ما يُعرف بنظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، "Integrated Food Security Phase Classification (IPC)" وهو إطار تحليلي معتمد دوليًا يُستخدم لتحديد درجة انعدام الأمن الغذائي بناءً على مؤشرات كمية ونوعية موحدة. يتكون النظام من خمس مراحل، تبدأ من المرحلة الأولى (وضع طبيعي) وتنتهي بالمرحلة الخامسة التي تُصنَّف كمجاعة وفق المعايير الثلاثة:
إعلان انعدام غذائي حاد لدى ما لا يقل عن 20% من الأسر: بمعنى أن خُمس الأسر أو أكثر تعاني عجزًا بالغًا في الغذاء، ولا تجد ما يكفي لسد رمقها، مع عجز تام عن التأقلم. سوء تغذية حاد يصيب أكثر من 30% من الأطفال دون سن الخامسة: أي أن أكثر من ثلث الأطفال الصغار يعانون من الهزال أو سوء التغذية الحاد نتيجة نقص الغذاء. معدل وفيات مرتفع بسبب الجوع: أي تسجيل ما يزيد عن حالتي وفاة يوميًا لكل 10 آلاف شخص نتيجة المجاعة، أو بسبب التداخل بين سوء التغذية والأمراض.عندما تُستوفى جميع هذه المعايير الثلاثة معًا في منطقة معينة، يصنّف الوضع على أنه مجاعة (IPC) من المستوى الخامس. هذا التصنيف يعتمد على جمع بيانات دقيقة تشمل مسوحًا ميدانية لنمط استهلاك الأسر، ونسب سوء التغذية عبر الفحوص الطبية للأطفال، ومعدلات الوفيات في المستشفيات والمراكز الصحية.
تشارك وكالات أممية كبرنامج الغذاء العالمي (WFP)، ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، إلى جانب منظمات الإغاثة في جمع هذه البيانات، وتحليلها ضمن فرق عمل متعددة التخصصات.
وفي العادة، تُتخذ قرارات التصنيف بشكل توافقي بين الخبراء والجهات المعنية عبر ما يُعرف بـ"الإجماع التقني متعدد الأطراف"؛ حيث تُناقش النتائج ضمن مجموعات عمل تضم وكالات الأمم المتحدة والسلطات المحلية (عند وجود حكومة معنية)، ثم تُرفع التوصية النهائية لإقرار التصنيف رسميًا.
في بعض الحالات، تتشكل لجنة مراجعة مستقلة لضمان دقة التصنيف، كما حدث في حالة غزة؛ حيث أُنشئت لجنة مراجعة المجاعة لتقييم الوضع في ظل شُح البيانات.
لكن إعلان المجاعة ليس قرارًا تقنيًا بسيطًا، بل تصطدم به عقبات منهجية، خصوصًا في مناطق النزاع. ففي غزة، يعزى تأخر الإعلان إلى نقص البيانات الميدانية الموثوقة، نتيجة الحصار والظروف الأمنية التي منعت الصحفيين وعمال الإغاثة من الوصول إلى المناطق المنكوبة.
كما أدى انهيار النظام الصحي، وانقطاع الاتصالات إلى غياب التوثيق لحالات الوفاة المرتبطة بالجوع، إذ إن كثيرًا من الضحايا فارقوا الحياة خارج المستشفيات، بعيدًا عن أعين الإحصاءات.
هذه الفجوات تجعل استيفاء معايير المجاعة أمرًا معقدًا من الناحية الشكلية، رغم أن الصور والروايات من الميدان تروي مأساة لا لبس فيها. وكما قال أحد عمال الإغاثة: "في شمال غزة، الناس لا يموتون في المستشفيات، بل خارجها… دون أن يراهم أحد".
يُذكر أيضًا أن إعلان المجاعة على المستوى الدولي خطوة نادرة وشديدة التحفظ، إذ لا يُلجأ إليها إلا في حالات استثنائية للغاية، وبعد تحقق معايير صارمة يصعب استيفاؤها بالكامل، خاصة في ظروف النزاع، ما يجعل الجهات الأممية تتوخى حذرًا شديدًا قبل إطلاق الوصف رسميًا.
فلم تُعلن المجاعة إلا مرتين في السنوات الأربع عشرة الأخيرة (في الصومال2011، وجنوب السودان 2017)، مما يعكس مدى صرامة الشروط، وضرورة تحقق الأدلة الدامغة. ورغم أن إعلان "حالة المجاعة" لا يرتب تلقائيًا التزامات قانونية جديدة أو معاهدات ملزمة، فإنه يحمل وزنًا سياسيًا وأخلاقيًا كبيرًا باعتباره نداءً عاجلًا لتحريك المجتمع الدولي.
إعلانهذا النداء قد ينعكس في زيادة المساعدات، وحشد الجهود الدبلوماسية للضغط على إسرائيل. ومع ذلك، فإن الحرص على المصداقية العلمية جعل الأمم المتحدة تتجنب استخدام مصطلح "مجاعة" في غزة، ما لم تصلها بيانات تفي بالمعايير المتعارف عليها.
يتضح، إذن، ظاهريًا، أن السبب الفني الرئيسي للتردد الأممي هو غياب البيانات الموثقة الكافية- نتيجة الحصار والقتال- لإثبات المجاعة وفق معايير IPC الصارمة. وفي المقابل، يرى منتقدون أن الاعتبارات الإنسانية يجب أن تطغى على الاعتبارات التقنية الجامدة عندما تكون الأدلة الواقعية واضحة للعيان.
هذا التناقض غير المبرر بين النهج الفني البحت والواقع الميداني المؤلم يكمن في صميم التساؤل حول تأخر إعلان المجاعة.
كما لا يمكن إغفال احتمال وجود اعتبارات سياسية ضمنية تكبح صدور إعلان من هذا النوع. فالأمم المتحدة، رغم طبيعتها القانونية والإنسانية، ليست بمنأى عن التوازنات السياسية والضغوط الدولية. وقد أظهرت التجارب السابقة أن قرارات مجلس الأمن، أو إحالات المحكمة الجنائية الدولية، أو حتى بعض تقارير الأمم المتحدة ذاتها، كانت عرضة للمساومة أو التعطيل تحت وطأة صفقات سياسية أو ضغوط من الدول النافذة.
وهو ما يثير مخاوف جدية من أن يكون تردّد المنظمة في إعلان المجاعة في غزة، ليس فقط نتيجة غياب البيانات الفنية، بل أيضًا نتيجة رغبة في تجنب الاصطدام بمنظومة المصالح الدولية، وفي مقدمتها إسرائيل وحلفاؤها.
شهادات وتقارير المنظمات الإنسانية حول أزمة الجوع في غزةمع تفاقم الوضع الإنساني في غزة، توالت تقارير من وكالات الأمم المتحدة ومنظمات دولية، تؤكد وصول الجوع وسوء التغذية إلى مستويات حرجة، وتزيد الضغط على الأمم المتحدة؛ لإعلان المجاعة هذه بعضها:
وكالة الأونروا (UNRWA) حذّرت مرارًا من انهيار الأوضاع الغذائية، وأكدت، 20 يوليو/ تموز 2025، أن أكثر من مليون طفل مهددون بالمجاعة. ووصفت ما يجري بأنه "مجزرة صامتة"، بعد تسجيل 86 وفاة بسبب الجوع منذ بداية الحرب، 76 منهم أطفال.كما أشارت إلى منع إدخال المساعدات واستهداف مراكز التوزيع، معتبرةً هذه الممارسات شكلًا من العقاب الجماعي الذي قد يرقى إلى جريمة حرب.
منظمة يونيسيف: (UNICEF) وصفت الوضع بـ"كارثة من صنع الإنسان"، وحذّرت في 22 يوليو/ تموز أن "الجوع منتشر والناس يموتون". سجلت مستويات كارثية من سوء التغذية بين الأطفال، مع انعدام الأمن الغذائي وشحّ المياه النظيفة. وجّهت نداءً مباشرًا: "كفى كفى. يجب إيصال المساعدات لكل العائلات فورًا". برنامج الأغذية العالمي (WFP): أعلن في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 وجود "خطر وشيك" للمجاعة، وفي مارس/ آذار 2024، أشار تقييم التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC) إلى أن شمال غزة ربما تجاوز بالفعل عتبة المجاعة.وأكد البرنامج أن 48% من الأسر هناك تقضي أيامًا بلا طعام. وحذر كبير اقتصادييه قائلًا: "عندما نُعلن المجاعة، يكون الأوان قد فات".
أطباء بلا حدود: (MSF) وثّقت تصاعدًا مقلقًا في حالات الهزال الحاد بين الأطفال، إذ ارتفعت من 293 حالة في مايو/ أيار إلى 983 حالة في يوليو/ تموز، معظمهم دون السنتين. وقالت إن التجويع متعمد، مشيرة إلى مشاهد لأمهات بأوزان دون 40 كيلوغرامًا ورضّع خدّج. وطالبت بفتح ممرات إنسانية فورًا. تقييم نقدي لدور الأمم المتحدة بين التقاعس والعوائقفي الختام لا بد من تقديم تقييم صريح لأداء الأمم المتحدة حيال المجاعة في غزة، وطرح السؤال الجوهري: هل كان تأخر المنظمة في إعلان المجاعة مجرد التزام بالمعايير الفنية؟ أم أنه ترددٌ يعكس فشلًا أخلاقيًا في مواجهة كارثة موثّقة بالصوت والصورة؟
إن الصورة قاتمة، لا بفعل الشعارات، بل بفعل المعطيات الميدانية الحية: أطفال يموتون جوعًا، عائلات تبحث عن الطحين في القمامة، ومراكز إغاثة تُقصف عمدًا.
إعلانوكل ذلك موثق على شاشات العالم. ومع ذلك، تتردد المنظمة الأممية في إطلاق وصف "المجاعة"، وكأن الصور والشهادات ليست كافية ما لم تمر عبر فلاتر منهجية وبيروقراطية معقّدة.
ومن الناحية الفنية، تُفهم رغبة الأمم المتحدة في احترام أدوات التصنيف العلمي، وضمان مصداقية بياناتها. لكن هذا الحذر، في ظل واقع إنساني بالغ القسوة، يتحول إلى عبء. إذ إن انتظار دلائل كمية "مثالية" في مناطق يُمنع فيها الوصول وتُقطع فيها الاتصالات، هو ضرب من الإنكار غير المبرّر.
لقد تحوّلت المعايير الفنية إلى عذر يُعلّق عليه التأخير، رغم أن كل مؤشرات المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) قد تجسدت فعليًا على الأرض. الصور لا تكذب، ولا تنتظر استبانات.
أما من الناحية السياسية، فالأمر أشد تعقيدًا. إعلان المجاعة في غزة يُعد بمنزلة إدانة صريحة لسياسات إسرائيل الإجرامية، بل قد يزيد من القناعة بضرورة مساءلة إسرائيل دوليًا بموجب القانون الدولي الإنساني.
وهذه خطوة تدرك الأمم المتحدة أنها ستواجه بسببها ضغوطًا شديدة، خصوصًا من دول كبرى تدعم إسرائيل. لذلك، آثرت المنظمة حتى الآن استخدام لغة حذرة، فضفاضة، لا تضع الأمور في نصابها الكامل.
لكن ماذا تبقى من دور أممي إذا كان الخوف من الصدام السياسي يجمّد الشهادة على الجرائم؟ الأمم المتّحدة ليست مجرد هيئة فنية؛ إنها حكومة عالمية تمثل ضميرًا دوليًا. وإذا اختارت الصمت أو التردد في لحظة كارثية كهذه، فإنها تهدر ما تبقى من مكانتها الأخلاقية.
لكن في غزة، الزمن ليس سلعة. كل ساعة تأخير تعني موت طفل أو أم أو مسنّ. وكل عبارة حذرة تُصدرها الأمم المتحدة تُفسَّر في الميدان كرضا ضمني، أو على الأقل كعجز عن قول الحقيقة.
الحقيقة أن الأمم المتحدة- رغم تحذيرات منظماتها كاليونيسيف والأونروا وبرنامج الغذاء العالمي- لم تجرؤ بعد على النطق بكلمة "مجاعة". وهي بذلك تُفرّغ تحذيراتها من مضمونها، وتفقد القدرة على تعبئة العالم لإنقاذ ما تبقى من الحياة في غزة.
لا يكفي أن تقول المنظمة إنها "تشعر بالقلق"، بل عليها أن تُسمّي الأمور بمسمياتها، وأن تتحمّل تبعات إعلان الحقيقة، لا أن تساير مصالح الأقوياء.
وإذا استمرت الأمم المتحدة في هذا المسار، فإنها لا تُفرّط فقط بواجبها في غزة، بل تُفرّط بمبرر وجودها ذاته. حياة مئات الآلاف من البشر، ومصداقية النظام الدولي، ومستقبل آليات الحماية الجماعية، كلها معلقة اليوم على شجاعة تسمية الواقع باسمه: إنها مجاعة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات المعاییر الفنیة المجاعة فی غزة الأمم المتحدة إعلان المجاعة مجاعة فی غزة سوء التغذیة حتى الآن تبقى من التی ت
إقرأ أيضاً:
الاستدراج للمستنقع: لماذا يتجنب حلفاء واشنطن دعم عمليتها العسكرية في الكاريبي؟
– د. أيمن سمير خبير في العلاقات الدولية
يشهد تاريخ الولايات المتحدة أن غالبية الحروب الكبيرة والشاملة التي خاضتها في القرنين العشرين والحادي والعشرين كانت بمشاركة حلفاء آخرين، أو على الأقل بدعم من حلفاء وأصدقاء كانوا يتبنون رواية واشنطن. لكن منذ أن أعلنت وزارة الحرب الأمريكية عن إطلاق عملية “الرمح الجنوبي” في 14 نوفمبر 2025 ضد من تقول إنهم مهربو المخدرات من فنزويلا، لم تحظ واشنطن بأي دعم من حلفائها وأصدقائها، سواء في أوروبا أم في أمريكا اللاتينية والكاريبي، لهذه العملية، كما غابت كلمات التعاطف وخطابات الدعم من دول وقيادات ظلت على الدوام تدعم التحركات الأمريكية.
وتتباين الأسباب وراء هذا الفتور في دعم الأهداف الأمريكية ضد نظام الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، ما بين الخوف من دخول المنطقة في سلسلة من الحروب التي لا تنتهي على غرار الحروب في غزة وأفغانستان والعراق وفيتنام، وبين اعتقاد أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وأمريكا اللاتينية والكاريبي بغياب الشرعية والأهداف الواضحة للعملية العسكرية التي ينفذها الجيش الأمريكي بالقرب من السواحل الفنزويلية، وبين من يرى أن واشنطن تبالغ في ردها العسكري على تهريب المخدرات من فنزويلا إلى الأراضي الأمريكية، والتي كان يتصدى لها عادةً عناصر حرس الحدود الأمريكي، وليس حاملات الطائرات والطائرات الشبحية.
وفي هذا السياق، تُطرح التساؤلات حول قدرة واشنطن على تنفيذ كل أهدافها العسكرية ضد فنزويلا دون دعم أو مساندة سياسية ولوجستية من حلفائها وأصدقائها.
دبلوماسية القوة:
تحولت فنزويلا إلى عقدة استراتيجية ذات ثلاثة أبعاد بالنسبة للولايات المتحدة بسبب قضية المخدرات، والنفوذ الروسي والصيني، ودعم كاراكاس للحكومات الاشتراكية المناوئة لواشنطن. ويتبنى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، “دبلوماسية القوة” في التعاطي مع فنزويلا، فهذه الاستراتيجية تتراوح بين التلويح بالقوة والتهديد بالنهاية القريبة للرئيس مادورو، وبين “مواقف حذرة” تستبعد الحرب الشاملة. ففي الوقت الذي سمح فيه البيت الأبيض للمخابرات المركزية بالعمل على الأرض ضد نظام مادورو، لا يتردد الرئيس ترامب في تأكيد استعداده للحوار والاتصال بنظيره الفنزويلي.
وتتضح معالم استراتيجية “دبلوماسية القوة” في حشد البنتاغون لعملية “الرمح الجنوبي”، وهو أكبر حشد في منطقة الكاريبي منذ الغزو الأمريكي لهايتي في عام 1994؛ حيث تتألف العملية من حشد عسكري واسع يضم نحو 15 ألف جندي وما يقرب من 12 سفينة تابعة للبحرية الأمريكية، من بينها نشر حاملة الطائرات “يو إس إس جيرالد فورد” في المنطقة، وهي أكبر حاملة طائرات في العالم. كما أرسل البنتاغون طائرات “إف–35″، بجانب سفن عسكرية أخرى مدعومة بطرادات ومدمرات وسفن قيادة للدفاع الجوي والصاروخي، وسفن هجومية برمائية وغواصة هجومية في جزيرة بورتوريكو، التي تحولت إلى مركز لعمليات الجيش الأمريكي في الكاريبي. إضافة إلى أن واشنطن تجهز مطارات جديدة بالقرب من ساحل فنزويلا استعداداً لأي ضربات محتملة، ومنها “مطار رافاييل” في جزيرة سانت كروز.
وعلى الرغم من أن الهدف المُعلن للحملة العسكرية هو القضاء على مهربي المخدرات، لا يخفي البيت الأبيض سعيه لإسقاط نظام الرئيس مادورو، في ظل سيناريوهات وخيارات عدة قدمها قادة البنتاغون للرئيس ترامب، تدور حول إمكانية شن ضربات جوية على منشآت عسكرية أو حكومية وطرق تهريب المخدرات، مع استهداف وحدات الحرس الفنزويلي وحقول النفط. وقد زاد البيت الأبيض خلال الأسابيع الأخيرة من ضغوطه السياسية والعسكرية على نظام مادورو بعد أن شنت الطائرات الأمريكية أكثر من 20 غارة أدت إلى مقتل نحو 83 شخصاً كانوا على متن مراكب تُتهم بتهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة.
مخاوف الحلفاء:
تتعدد الأسباب التي تجعل حلفاء الولايات المتحدة يتجنبون دعم عمليتها العسكرية ضد فنزويلا؛ حيث لم يُسجل دعم واضح من دول مثل الأرجنتين وتشيلي والبرازيل للخطوات التي يتخذها الجيش الأمريكي ضد من يصفهم بأنهم مهربو المخدرات. ومن شأن غياب الدعم السياسي، وعدم التنسيق الاستخباراتي واللوجستي بين واشنطن ودول جوار فنزويلا؛ أن يحد من فرص نجاح العملية العسكرية. كما تشير تقارير إلى أن فرنسا وهولندا وبريطانيا بدأت تقلص مستوى تبادل المعلومات الاستخباراتية مع واشنطن فيما يتعلق بمنطقة الكاريبي.
ويعود النأي بالنفس من جانب حلفاء الولايات المتحدة عن ضرباتها في منطقة الكاريبي، إلى مجموعة من الأسباب، أبرزها الآتي:
1- الخوف من المستنقع: تخشى الدول في أمريكا اللاتينية والكاريبي، وحتى خارج هذه المنطقة، من تحول أي عمل عسكري أمريكي ضد فنزويلا إلى “مستنقع” وحرب طويلة تؤدي إلى تدفق ملايين اللاجئين، على غرار الحروب في غزة وفيتنام، والحرب على الإرهاب التي استمرت نحو 20 عاماً وطالت أفغانستان والعراق. وتعود هذه المخاوف إلى عدم وضوح الأهداف الأمريكية حال تدخلها عسكرياً في فنزويلا، إضافة إلى الانقسام الداخلي في البلاد؛ بما يعني أن إسقاط حكم مادورو قد يحول فنزويلا إلى ساحة جديدة من الفوضى وانعدام الأمن في منطقة لا تحتاج إلى مزيد من المشكلات في ظل تصاعد نشاط عصابات الجريمة والمخدرات.
ومن ينظر إلى التفاعلات الداخلية في فنزويلا يتضح له أنها تعاني من انقسامات، وأي محاولة لتغيير النظام بالقوة قد تؤدي إلى صراع عسكري طويل الأمد، في ظل حشد حكومة كاراكاس نحو 5 ملايين ممن يُطلق عليهم “قوات الدفاع الشعبي البوليفارية” للتصدي لأي هجوم أمريكي؛ وهو ما حذر منه الرئيس الفنزويلي عندما قال: “لا تنقلوا الحرب إلى الكاريبي، لا نريد غزة جديدة ولا أفغانستان جديدة”.
2- غياب الشرعية: لا يرى غالبية حلفاء الولايات المتحدة أن الهدف المُعلن؛ وهو مكافحة تهريب المخدرات، يستحق كل هذا الحشد العسكري غير المسبوق. وعلى الرغم من تصريحات مديرة المخابرات الوطنية الأمريكية، تولسي غابارد، بأن واشنطن لن تسعى مجدداً إلى إسقاط الأنظمة من الخارج أو التدخل في شؤون الدول؛ يرى الحلفاء أن خطط البيت الأبيض تشير إلى نية واضحة لإسقاط حكم مادورو. وفي غياب الدعم الدولي، يحاول الرئيس ترامب ووزير خارجيته، مارك روبيو، إيجاد مبرر قانوني لهذه الحرب بالقول إن المخدرات قتلت نحو 300 ألف أمريكي، وإن واشنطن تتعرض لغزو من مهربي المخدرات، وإن الرئيس مادورو نفسه يترأس عصابات التهريب؛ لكن هذه التبريرات تبدو غير مقنعة لحلفاء واشنطن.
وللتغلب على هذا التحدي، صنفت واشنطن بعض منظمات تهريب المخدرات كمنظمات إرهابية؛ بهدف إيجاد مبرر قانوني لشن عمليات عسكرية ضد فنزويلا، وهو ما عبّر عنه الرئيس ترامب بالقول: “هذا التصنيف يسمح للجيش الأمريكي باستهداف أصول مادورو وبنيته التحتية داخل فنزويلا”.
3- الاستعداد للحوار: عبّر كثير من حلفاء الولايات المتحدة، خاصةً في أمريكا اللاتينية والكاريبي، عن عدم دعمهم أي عملية عسكرية ضد فنزويلا بعد إبداء الرئيس مادورو أكثر من مرة استعداده للحوار “وجهاً لوجه” مع الرئيس ترامب، ومناشدة كاراكاس للبيت الأبيض الابتعاد عن الخيار العسكري واللجوء إلى الخيار السياسي والدبلوماسي. وسبق لمادورو القول: “نعم للسلام لا للحرب، من يرغب في الحوار سيجدنا دائماً”، بل حاول أكثر من مرة استرضاء ترامب قائلاً: “أصحاب نفوذ يضغطون على الرئيس ترامب حتى يرتكب أكبر خطأ في حياته ويتدخل عسكرياً في فنزويلا، وسوف تكون هذه النهاية السياسية لقيادته”.
وفي المقابل، نقل موقع “أكسيوس” الأمريكي عن مسؤولين أمريكيين يوم 24 نوفمبر الجاري أن الرئيس ترامب يخطط للتحدث بشكل مباشر مع مادورو؛ وهو ما قد يكون مؤشراً على تراجع احتمالية شن عمل عسكري أمريكي ضد فنزويلا قريباً؛ ومن ثم دفعت كل هذه المواقف كثيرين إلى التساؤل: إذا كانت هناك فرصة للحل السياسي، فلماذا الإصرار على العملية العسكرية؟
4- تفادي سيناريو “خليج الخنازير” و”عملية النمس”: ترتبط دول أمريكا اللاتينية والكاريبي بعلاقات قوية اقتصادياً وعسكرياً مع الصين وروسيا. وكشفت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، في نهاية أكتوبر الماضي، أن الرئيس مادورو أرسل ثلاث رسائل إلى روسيا والصين وإيران لطلب دعم عسكري عاجل للوقوف في وجه أي تدخل عسكري أمريكي محتمل، تضمنت مطالبة موسكو بتزويد كاراكاس بالصواريخ والرادارات وإصلاح الطائرات الحربية القديمة، خصوصاً طائرات “سوخوي سو–30 إم كا 2″، وشراء مجموعات صواريخ روسية.
وسبق لروسيا أن زودت فنزويلا بمعدات دفاع جوي من طراز “بانتسير–إس 1″ و”بوك إم 2 إي”. كما طلب مادورو من القيادة الصينية شراء شحنة من الطائرات المُسيَّرة يصل مداها إلى 1000 كيلومتر. وكتب في رسالته إلى موسكو أن أي هجوم عسكري أمريكي على فنزويلا “هو اعتداء على روسيا والصين”. وتأخذ دول المنطقة هذا الأمر في الحسبان؛ إذ إن أي حرب بين فنزويلا والولايات المتحدة يمكن أن تجر روسيا والصين أيضاً، ولهذا حذر كثيرون في أمريكا اللاتينية والكاريبي من تكرار أزمة “خليج الخنازير” و”عملية النمس”، التي حاولت فيها واشنطن إسقاط حكم الرئيس الكوبي الأسبق، فيدل كاسترو، في عام 1961.
5- كيان غير موجود: هناك تشكيك في الكيانات التي تتهمها واشنطن بأنها وراء تهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة مثل “كارتيل دي لوس سوليس” التي تعني “عصابة الشمس”. وبعد أن قال وزير الخارجية الأمريكي، روبيو، إن بلاده ستصنف هذه العصابة كمنظمة إرهابية، ثم تصنيفها رسمياً “تنظيماً إرهابياً أجنبياً” في 24 نوفمبر الجاري؛ ذكرت شبكة “سي. إن. إن” الإخبارية أنها ليست عصابة منظمة على غرار الكيانات الإجرامية في أمريكا اللاتينية، وإنما شبكة لا مركزية من الجماعات الفنزويلية المرتبطة بتجارة المخدرات، لكنها تفتقر إلى التسلسل الهرمي ولا يمكن مقارنتها بالعصابات التقليدية التي سبق لواشنطن ودول في أمريكا اللاتينية تصنيفها كمنظمات إرهابية. حتى إن البعض في الولايات المتحدة قال إن “كارتيل دي لوس سوليس” اسم مختلق يُستخدم لوصف مجموعة مرتجلة من الفنزويليين المتورطين في تهريب المخدرات، وفق ما قاله المدير المشارك لمركز “إنسايت كرايم” (InSight Crime)، جيريمي ماكديرموت. كما نفت حكومة مادورو، في بيان لها، يوم 24 نوفمبر الجاري، بصورة قاطعة وجود “كارتيل دي لوس سوليس”، واصفة اتهام إدارة ترامب بأنه “افتراء سخيف” يهدف إلى “تبرير تدخل غير مشروع وغير قانوني ضد فنزويلا”.
6- معارضة اليسار: تقف الدول التي تحكمها أنظمة يسارية مثل كوبا ونيكاراغوا وبوليفيا، وكذلك الدول التي يحكمها يسار الوسط مثل البرازيل، ضد أي حرب بين الولايات المتحدة وفنزويلا. وترى هذه الأنظمة أن العملية العسكرية الأمريكية في الكاريبي تستهدف كل الأنظمة اليسارية، وتحاول منع شعوب أمريكا اللاتينية والكاريبي من انتخاب اليساريين في عدد من الدول التي ستشهد انتخابات خلال العام المقبل. وتعمل هذه الحكومات على بناء رأي عام ضد استراتيجية الرئيس ترامب تجاه فنزويلا؛ وهو ما يجعل النصف الجنوبي من نصف الكرة الأرضية الغربي يقف بكامله ضد نشوب حرب واسعة بين واشنطن وكاراكاس.
7- أسعار النفط: هناك تخوف من ارتفاع أسعار النفط عالمياً حال نشوب حرب بين فنزويلا والولايات المتحدة. فبالرغم من أن فنزويلا تنتج حالياً مليون برميل نفط يومياً فقط؛ فإن نشوب حرب في دولة لديها أكثر من 300 مليار برميل من احتياطي النفط سيشعل الأسعار العالمية؛ وهو ما يرفضه حلفاء واشنطن.
ختاماً، يمكن القول إن التاريخ الطويل للعمليات العسكرية الأمريكية في أمريكا اللاتينية والكاريبي، التي لم تحقق أي نوع من الاستقرار منذ الغزو الأمريكي لهايتي مرتين في عامي 1925 و1994، وغزو بنما في عام 1989؛ هو ما يقلق حلفاء واشنطن ويجعلهم ينأون بأنفسهم عن عملية “الرمح الجنوبي” ضد فنزويلا.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”