لجريدة عمان:
2025-12-08@03:59:01 GMT

فيروز التي أَسْعَدت في يوم حزنها

تاريخ النشر: 5th, August 2025 GMT

في يوم السبت قبل الماضي ودع عالمنا العربي الفنان والملحن الكبير زياد الرحباني (26 يوليو 2025م)، ابن الفنانة الكبيرة فيروز، أو نُهاد وديع حداد، فيروز التي أدخلت جمال صوت المعنى والمغنى إلى كل بيت عربي، وإلى كل مقهى يتنفس بصوتها العذب في الصباح الباكر، ومن عشرات الإذاعات العربية التي لا يغادر يومها صوت فيروز، «ففي مقابلة لها سنة 1999م سئلت: شو بتسمعي الصبح؟ قالت: بسمع صوتي من الشبابيك»، فهي التي غنت للإنسان والحب والجمال، غنت للطفل والمرأة والشاب، وغنت لمكة والقدس والكنيسة، غنت لجمال الله المتجلي في خلقه والوجود، لم تغنِ للملوك، ولم تتزلف لهم، وما رأت قوتها إلا في جمال الطبيعة والإنسان والحياة والسلام، فاجتمعت عظمة «ملائكية» الصوت مع بساطة المعنى وعمق دلالته، فلم تتكلف في أغانيها بالقصائد الطوال، فغنت لكل ما هو جميل، وبلحن غير متكلف، وكأنها تريد أن تصل إلى جميع الناس من خلال الجمع بين الجمال والبساطة، ولما فقد العالم العربي الموسيقار سيد درويش وهو في سنه المبكر 1923م، المعروف بتجديده ونهضته الموسيقية، إلا وتمثلت روحه الجمالية والإحيائية في فيروز، وقد غنت من أغانيه «طلعت يا محلا نورها»، «أنا هويت وانتهيت»، كما تمثلت جمالية شعر جبران خليل جبران (ت: 1931م) مع صوتها العذب، لينتج إبداعا فنيا كما في «سكن الليل»، «أعطني الناي»، كما أبدعت مع شعراء عصرها، ومع موروثات أدبيات تراث لبنان والشام الشعبي.

نشأ زياد رحباني في بيئة وأسرة فنية شهيرة، بجانب أمه فيروز كان أبوه الموسيقار والملحن الشهير عاصي الرحباني (ت: 1986م)، وهو من المنتصرين لروح وجمال الأدب الفني والموسيقي، كذلك عمه منصور الرحباني (ت: 2009م)، كان ملحنا وشاعرا وكاتبا مسرحيا وغنائيا، هؤلاء جميعا انتصروا للإنسان والجمال، وعلى نهجهم كان زياد، فلم يغب عنه ما يعانيه الإنسان في بلاد الشام عموما، وفي فلسطين وبلده لبنان خصوصا، من صراع واحتراب وتهجير وقتل، فوقف مع الإنسان، لا مع السياسات والأحزاب المفرقة، كان حضوره الفني مبكرا وهو في بدايات العقد الثاني من عمره، ابتدأ مع تلحينه لقصيدة عمه منصور «سألوني الناس» والتي غنتها أمه فيروز ضمن مسرحية المحطة 1973م، لتكون أيقونة يتنفس لسماعها مئات البشر كل صباح، ويستأنس بها المحبون كل مساء، وقد جمع بين اللحن والكتابة والمسرح، ومن المسرح انتقد الطائفية المفرقة في «نزل السرور» 1974م، وانتصر للإنسان والكرامة في «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» 1993م.

زياد رحباني والذي كان فقده أليما على الوسط الفني واللبناني ثم العربي عموما، إلا أن ظهور فيروز في كنيسة «رقاد السيدة» بكفيا في بيروت خطف الأضواء ليس على مستوى لبنان، بل على مستوى العالم العربي، وربما أوسع من ذلك بكثير، وانتشرت أغنية «سألوني الناس» بشكل لا يوصف، وبتصاميم مختلفة، وكأن الأغنية لم تكن في 1973م بل كانت الآن، لينقلب الحزن إلى فرح لرؤية فيروز، وقد كان آخر ظهور لها مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2020م، وظهورها معه كان مقتصرا على الصور، أما هذا الظهور فقد أظهر فيروز بشكل مرئي ومباشر كما لو أنها في بداية عمرها ينظر لها الجميع بشيء من البهاء والجمال، لما أبهجت الجميع بمغناها منذ 1952م.

لم يتفاعل مع هذا الحدث الأجيال السابقة، والذين عايشوا ذهبية رحلتها الفنية، بل تفاعل معها الجيل الجديد، يظهر هذا بشكل واضح على «انستجرام وتك توك» وغيرها من وسائل التواصل الرقمية، هناك مشاعر سعيدة لظهورها وكأنها خرجت إلى الحياة من جديد، ليتفاعل مع هذه المشاعر الجميع، وإن كان ظهورها في يوم حزنها، بيد أن هذا التفاعل يكشف لنا سر ذلك، وهو أن الذي يغني للجمال والإنسان يغني للمطلق، والذي يمتد أثره إلى الجميع، ويعيش لفترة طويلة، فالروح لها جماليتها، وهي لا تسمو إلا بالجمال، ولا تنحصر في زمن أو عمر معين، وهنا كثيرا ما سمت أرواح الناس مع جمال ألحان ومغنى فيروز.

هناك من الفنانين من حصر نفسه في المناصب والشخوص، وهناك من كان بيد الساسة في إثارة الحروب، وهناك من تكسب بفنه ليجعله رخيصا مبتذلا لا قيمة له، وهناك من أدرك أن الفن رسالة، ورسالة الفن تعيش مع الجمال المطلق، وتتجاوز الطائفة والأنا المغلقة، وجمال الموسيقى والغناء جماله لا ينحصر في ذات الأداء واللحن، وهذا طبيعي جدا يستلذ به الإنسان والحيوان كما يرى يوسف القرضاوي (ت: 2022م) «لـــو تأملنـــا لوجـــدنا حـــب الغنـــاء والطـــرب للصـــوت الحســـن يكـــاد يكـــون غريـــزة إنسـانية، وفطـرة بشـرية، حتـى إننـا لنشـاهد الصـبي الرضـيع فـي مهـده يسـكته الصـوت الطيــب عــن بكائــه، وتنصــرف نفســه عما يبكيــه إلــى الإصــغاء إليــه، ولــذا تعــودت الأمهات والمرضعات والمربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم، بل نقول: إن الطيور والبهـائم تتـأثر بحسـن الصـوت والنغمـات الموزونـة حتـى قـال الغزالـي (ت: 505هـ) فـي الإحيـاء: من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانيـة، زائـد في غلظة الطبع، فـيغلـظ الطبـع وكثافتـه علـى الجمـال والطيـور وجميـع البهـائم، إذ الجمـل - مـع بـلادة طبعـه - يتـأثر بالحـداء تـأثر يسـتخف معـه الأحمـال الثقيلـة، ويستقصـر - لقـوة نشـاطه فـي سـماعه - المسـافات الطويلـة، و ينبعـث فيـه مـن النشـاط مـا يسـكره ويولهـه، فتـرى الإبــل إذا ســمعت الحــادي تمــد أعناقهــا، و تصــغي إليــه ناصــبة آذانهــا، وتســرع فــي سيرها، حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها».

جمال ذات الأداء واللحن لابد أن يصاحبه جمال وروحانية المعنى، نجد الجمع بين الجمالين مع الملحنين الكبار منذ سيد درويش حيث واصل مسيرة أستاذه سلامة حجازي (ت: 1917م)، ثم الأربعة محمد القصبجي (ت: 1966م)، ومحمد عبد الوهاب (ت: 1991م)، وزكريا أحمد (ت: 1961م)، ورياض السنباطي (ت: 1981م)، ثم تأتي مرحلة السيد مكاوي (ت: 1977م)، ومحمد الموجي (ت: 1995م)، وبليغ حمدي (ت: 1993م)، وكمال الطويل (ت: 2003م)، وغيرهم، وإن كان قبلة هؤلاء مصر، ليخرجوا لنا رموزا فنية شهيرة، كأم كلثوم (ت: 1975م)، وعبد الحليم حافظ (ت: 1977م)، ونجاه الصغيرة وغيرهم، لينتقل إلى لبنان، ومع أسرة الرحبانيين، ووديع الصافي (ت: 2013م)، وغيرهم، حيث يتمثل ما بقي من هذا الجمال في فيروز، وهي شاهدة على مرحلة حافظت على جمال هذا الفن، وهو الذي يبقى، ويتجاوز الانتماءات المتعددة إلى الجمال المطلق، ليتلذذ الناس جميعا بهذا الجمال، وهو الذي يكتب له البقاء، وهو الذي يسعد الناس، كما أسعدهم ظهور فيروز في يوم حزنها، لما قدمته لعالمها العربي من جمال فني بديع خالد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی یوم

إقرأ أيضاً:

في مرايا الشعر.. جديد هيئة الكتاب للشاعر جمال القصاص

أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب إصدارًا جديدًا يحمل عنوان «في مرايا الشعر» للشاعر والناقد جمال القصاص، وهو عمل يقدّم رؤية متفردة لعلاقة الشاعر بالكتابة، وللجدل الداخلي الذي يصاحب فعل الإبداع منذ لحظة تشكّل الفكرة حتى اكتمال النص، يأتي الكتاب بمثابة شهادة شخصية وفكرية تعكس تجربة القصاص الممتدة مع الشعر، وقراءاته النقدية التي راكمها عبر سنوات طويلة من التأمل والمتابعة.

في مقدمة الكتاب، يكشف القصاص عن حالة الانفعال التي تلازمه أثناء الكتابة، تلك التي تجمع بين الفرح والغضب والحيرة، وتضعه أحيانًا في «ورطة» شعرية تكاد تبتلعه، يصف اللحظة الإبداعية وكأنها فخ يتربص بالشاعر، يجعله بين دورين متناقضين: الذئب الذي يقتنص فريسته، والفريسة التي تهرب من مصيرها، هذا التوتر الخلّاق بين اللذة والمأزق يشكّل أساس رؤية القصاص للكتابة، فهو يرى أن النجاة من مأزق نص لا تكون إلا بمأزق جديد يخلقه الشاعر بإرادته ودهشته، تمامًا كطفل يراقب ولادة لحظته الشعرية على الصفحة.

ويؤكد القصاص رفضه للوصفات الجاهزة ونماذج الكتابة المكررة، مفضّلًا أن يترك نافذة النص مفتوحة دائمًا، لاستقبال ومضة أو خاطر أو إشارة لم يبح بها بعد، فالكتابة، في نظره، فعلُ اكتشاف دائم لا يتوقف عند حدّ، وبحث مستمر عن ما لم يُقل، وعن الدهشة التي تختبئ في مفارقة ساخرة أو طرقة درامية أو سؤال مشحون بالوجود وأزماته.

ويذهب القصاص في صفحات كتابه إلى جوهر العلاقة بين الوعي والفكرة الشعرية، معتبرًا أن الوعي وحده لا يصنع شعرًا، وأن الإلهام الحقيقي يحتاج إلى قدرة على نسيان الفكرة بقدر القدرة على التقاطها، فهو يعيش الشعر كطقس داخلي، وكتمرين يومي على الحرية، يكتب من أجل أن يحب نفسه أكثر، ويلتصق بجوهره الإنساني عبر لحظات تضج بالنشوة، حتى لو كانت من مشهد رتيب أو حكاية معادة.

يمتد الكتاب ليضم مجموعة من قراءات القصاص النقدية لتجارب شعرية عربية، وهي نصوص كتبها عبر سنوات بدافع الفرح بالشعر ذاته، وبما يقدمه الشعراء والشاعرات من مغامرات جمالية، يقول إن خبرته كشاعر كانت البوصلة الأولى التي توجه نظرته النقدية، إذ تجمع بين عين القارئ الشغوف وحساسية المبدع الممسوس بالتجربة.

ويرصد الكتاب تحولات الشعر العربي منذ الستينيات، وهي المرحلة التي شهدت ـ بحسب القصاص ـ بدايات التمرد على الأشكال القديمة، ومحاولات التجديد في الإيقاع والرؤية واللغة، وعلى الرغم من هذا الحراك، يرى أن الشعر العربي ظل مرتبطًا لفترة طويلة بإطار البلاغة التقليدية، وبموضوعات سياسية واجتماعية تشكّل مركز النص وتطغى على الشكل الجمالي.

كما يتوقف القصاص عند المأزق النقدي الذي يواجه الشعر العربي المعاصر، والمتمثل في اعتماد كثير من تجارب الحداثة على المنجز الغربي في النظر والتطبيق. وبرغم أهمية هذا المنجز في التاريخ الإنساني، يرى القصاص أنه لم يستطع تجاوز رؤيته العقلانية للشعر، في حين أن الشعر ـ في جوهره ـ ليس نتاجًا عقليًا صرفًا، بل هو ابنة الروح وومضتها المفاجِئة، تلك التي تفلت من قبضة المنطق والأطر الجاهزة.

ويخلص القصاص إلى أن الحداثة الشعرية ليست قالبًا خارجيًا، بل هي قيمة داخلية في الإنسان، تحتاج فقط إلى من يوقظها من أسر العادة وما تراكم حولها من قيود، فالشعر، كما يراه، يمنحنا إحساسًا بالحرية، ويعيد تشكيل علاقتنا بالعالم من جديد، عبر حساسية لا تستسلم للسائد ولا للمألوف.

وفي ختام الكتاب، يقدم القصاص اعترافًا إنسانيًا مؤثرًا، إذ يقول إنه لا يدّعي الصواب في ما يكتب، بل ما زال يبحث عنه في رحلته الطويلة مع الشعر، مؤمنًا بأن الخطأ ليس سوى صواب مؤجل لم يحن أوانه، ويوجه تحية لكل الشعراء الذين أسهموا ـ عبر تجاربهم وأعمالهم ـ في توسيع مساحة الضوء والمحبة في حياته الشعرية.

بهذا الإصدار، تضيف الهيئة العامة للكتاب عملًا مهمًا إلى المكتبة النقدية العربية، يجمع بين حرارة التجربة وعمق التأمل، ويقدّم رؤية شاعر خبر دروب القصيدة ووقف طويلًا أمام مراياها المتعددة.

طباعة شارك الهيئة المصرية العامة للكتاب في مرايا الشعر الناقد جمال القصاص علاقة الشاعر بالكتابة اللذة والمأزق

مقالات مشابهة

  • تعلن المحكمة التجارية الابتدائية بأن على/ ورثة جمال اليافعي الحضور إلى المحكمة
  • مركز شرطة جبل علي ينظم «صوت المتعامل»
  • راعي جديد على قميص الزمالك
  • بلدية أم الجمال تعلن وظائف جديدة بالتعاون الغذائي
  • «في مرايا الشعر» جديد هيئة الكتاب للشاعر جمال القصاص
  • في مرايا الشعر.. جديد هيئة الكتاب للشاعر جمال القصاص
  • بعضٌ من حكاية الكَدِيسَة
  • دورة متخصصة للتوعية الأمنية في البيئة المعادية
  • أول تعليق لـ رامي جمال بعد طرح ألبوم «مطر ودموع»
  • "عافية الجمال" رسالة توعية ورقى لدعم المرأة في الشرقية