الزيتون يُمحى..غزيو المدينة على أعتاب التهجير الجماعي
تاريخ النشر: 19th, August 2025 GMT
غزة - «عُمان»- بهاء طباسي -
كانت الحاجة أم سامي دلول تجلس على درج بيتها القديم في حي الزيتون، تحاول أن تلتقط أنفاسها وسط الغبار المتصاعد من الركام الذي كان يومًا جدران بيت جارتها. لم تكن تظن أن هذه اللحظة ستأتي بهذه السرعة أن ترى الحي الذي ولدت فيه، ودرج البيت الذي ربت أبناءها على صعوده، ينهار حجرًا حجرًا تحت وقع القذائف الإسرائيلية.
تقول الحاجة أم سامي وهي تمسح دمعة علقت على خدها: «كنا نظن أن الزيتون سيحمي زيتونه وأهله، لكنهم جاؤوا ليقتلعوا كل شيء، الحجر والشجر والبشر».
ترحيل قسري
إلى جوارها كان ابنها سامي، المراهق ذو الخامسة عشرة، يحاول أن يثنيها عن البكاء وهو يحمل في يديه حقيبة صغيرة وضعت فيها بعض الملابس وأوراق العائلة الرسمية. كل ما استطاعت الأم أن تحمله من حياة كاملة امتدت لعقود صار الآن في حقيبة لا تزن أكثر من كيلوين من الجرامات.
يقول سامي خلال حديثه لـ«عُمان»: «أمي تقول لي إننا سنرجع يومًا، لكني خائف.. خائف ألا نجد مكانًا نرجع له».
في الزاوية المقابلة، كان الجيران يحملون جثمان أحد الشهداء الذين سقطوا فجر الأحد 17 أغسطس في ساحة مستشفى المعمداني، حيث استهدفتهم طائرة مسيّرة إسرائيلية. لم يكن في مقدور أحد أن يرفع الصوت أكثر من صوت القصف، لكن المأساة وحدها كانت تفرض حضورها على الوجوه المتعبة.
وفي شارع الزيتون الممتد، باتت عشرات العائلات في حالة ترحال قسري جديد. أكياس بلاستيكية سوداء محشوة بالملابس، أطفال يجرون أقدامهم خلف أمهاتهم، كبار سن يتكئون على عكازات خشبية، وصوت الأذان من مسجد الحي يتردد ضعيفًا، مبحوحًا من بين الركام، كأنه يودع المكان.
تقول أم سامي وهي تلتفت إلى بيتها للمرة الأخيرة خلال حديثها لـ«عُمان»: «هذا بيت أبوي، وكل ذكرى لي هنا.. بس شو نعمل؟ الموت صاير أسرع من الحياة، والحي لم يعد حيًّا».
محو الزيتون
لا يحتاج المار في حي الزيتون إلى كثير جهد ليرى حجم المأساة، فقد كشف المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أن الاحتلال دمّر أكثر من 400 منزل خلال ستة أيام، مستخدمًا مزيجًا من الروبوتات المتفجرة، والغارات الجوية، والقذائف المدفعية. ووصف المرصد ما يجري بأنه «جريمة إبادة جماعية» تستهدف مسح الحي الأكبر في غزة وتسويته بالأرض.
تقرير المرصد لم يكن صادمًا فقط من ناحية الأرقام، بل من ناحية التوصيف الذي حمله: سياسة «مسح المدن» التي تنتهجها إسرائيل، حيث يجري القضاء على السكان وتهجير من ينجو منهم إلى المجهول. ما يجري في الزيتون ليس مجرد عملية عسكرية محدودة، بل استكمال لخطة أوسع لتدمير محافظة غزة على غرار ما حدث في رفح وخان يونس والشمال.
محمود بصل، الناطق باسم الدفاع المدني، أكد أن الاحتلال يستهدف المنازل «دون إنذار مسبق»، وهو ما جعل مجازر كاملة تقع بحق عائلات مثل الحصري ودلوم وأبو دف. الأشد إيلامًا أن طواقم الإنقاذ لا تستطيع الدخول إلى الحي بفعل القصف المتواصل، ما يجعل الجثث تحت الركام لساعات وربما أيام.
الاحتلال نفسه لم يُخفِ نواياه. فقد أعلن جيشه أن قوات الفرقة 99 ولواء ناحال ولواء 7، بدأت «العمل في منطقة الزيتون على أطراف غزة» بحجة كشف العبوات الناسفة وتحييد من وصفهم بـ«المخربين». ورافق ذلك تغطية جوية كثيفة، وهجمات على مبانٍ وصفها الاحتلال بأنها «مفخخة».
لكن خلف هذه البيانات العسكرية تقبع الحقيقة الأوضح: هناك حي يُمحى، وناس يُهجّرون، وحياة تُقتلع من جذورها.
شبح الاجتياح
كان المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي «الكابينيت»، قد صادق في 8 أغسطس 2025 على خطة لاحتلال مدينة غزة بالكامل، في خطوة اعتُبرت الأخطر منذ بداية الحرب. الخطة التي خوّل نتنياهو ووزير الحرب يسرائيل كاتس تنفيذها، تتحدث عن عمليات «تطهير واسعة» داخل المدينة، أي تفريغها من سكانها، تمهيدًا لفرض واقع عسكري جديد.
صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية تحدثت بصراحة عن نية الاحتلال نقل نحو مليون إنسان من مدينة غزة وضواحيها إلى الجنوب، بمحاذاة محور موراغ في رفح.
العملية – بحسب الصحيفة – ستجري تدريجيًا، وستشارك فيها أربع فرق عسكرية لمحاصرة المدينة من جهات متعددة.
ما يعنيه ذلك ببساطة أن أهل غزة مهددون بترحيل جماعي جديد، يضاف إلى سلسلة النكبات التي عاشها الفلسطينيون منذ 1948 وحتى اليوم .
بيتنا لم يعد موجودًا
أبو محمد كشكو، رجل ستيني من حي الزيتون، جلس في خيمة نصبتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا» قرب مدرسة مدمرة. كان يحكي للناس من حوله عن بيته الذي تحوّل إلى كومة ركام خلال دقائق.
يقول لـ«عُمان»: «كنت جالسًا مع أولادي، وفجأة سمعنا دوي انفجار قريب، بعدها بثواني بيتنا اهتز مثل الورقة. خرجت لأجد الدخان يملأ المكان. حاولت الرجوع لإحضار أوراقي، لكني لم أستطع.. القذائف بعدها سقطت فوق رؤوسنا».
في تلك الليلة، فقد أبو محمد اثنين من أحفاده. لم يجد لهم أثر إلا بعد يومين، حين تمكنت فرق الإنقاذ من الوصول إلى المكان. يقول: «الأرض لم يعد لها أمان. حتى بيت العمر الذي جمعت قرشًا وراء قرش كي أبنيه، صار ترابًا. لكن والله التراب أهون من فقدان الأولاد».
يؤكد أبو محمد أن الاحتلال يتعمد قصف البيوت دون سابق إنذار: «لم يمنحونا منشورًا ولا مكالمة، فجأة انهار البيت فوق أهله. نحن لسنا مقاتلين، نحن مدنيون نريد أن نعيش».
اليوم، يعيش الرجل بين مئات النازحين في ظروف لا تحتمل: خيمة بلا ماء كافٍ، طعام شحيح، ودواء مفقود. لكنه يكرر جملة واحدة: «الزيتون لن يُدفن، حتى لو دفنوا بيوتنا».
طفل تحت الركام
أميرة الحصري، شابة ثلاثينية، فقدت ابنها الصغير «آدم» ذي ثماني سنوات، حين سقط صاروخ على بيت العائلة. كانت تروي الحكاية وعيناها معلقتان بسماء الخيمة التي تؤويها الآن.
قالت لـ«عُمان»: «كنا نتناول عشاءً بسيطًا.. خبزًا وزيتًا وزعترًا. فجأة سمعنا صرخة، بعدها سواد ودخان. لما فتحت عيوني وجدت كل شيء مدمرًا. صرت أصرخ باسم آدم.. ولم أسمع غير الصمت».
احتاجت فرق الدفاع المدني يومًا كاملًا لانتشال جثة الطفل. حين رأته أخيرًا، كان جسده مغطى بالغبار والدم، لكنه ما زال يحتفظ بابتسامة صغيرة على وجهه. تقول أمه: «شعرت أنه نائم، لكنه نائم للأبد».
تصف أميرة كيف تحوّل الحي إلى مقبرة جماعية: «كل يوم نسمع أسماء جديدة. كل يوم جنازات. الزيتون صار مثل مدينة أشباح، ما فيه إلا الدخان والركام».
ورغم الفاجعة، تتمسك بعبارة واحدة: «لن نرحل. حتى لو رحلنا بأجسادنا، أرواحنا ستبقى هنا».
المستشفى تحت النار
الدكتور سامر العطار، طبيب في مستشفى المعمداني، تحدث عن مشاهد مأساوية لا تصدق. قال: «المستشفى أصبح هدفًا لجيش الاحتلال. الناس كانت تأتي بحثًا عن الأمان هنا، لكنها اصطدمت بالموت ينتظرها».
في فجر الأحد الأخير، حين قصفت المسيّرة الإسرائيلية ساحة المستشفى، استشهد سبعة فلسطينيين دفعة واحدة. يروي الطبيب الفلسطيني الأمريكي: «كنت أركض بين المصابين، أشوف أطفال مقطعين، شيوخ محمولين على الأكتاف. كيف نعالج الناس ونحن لا نجد الدواء».
يشير العطار إلى أن استهداف المستشفيات بات سياسة واضحة: «يريدون أن يفقد الناس آخر ملاذ آمن. المستشفى كان آخر بيت للغزيين، والآن صار في مرمى النار».
رغم ذلك، يواصل الرجل عمله مع طاقم قليل، يحاول إنقاذ من يمكن إنقاذه. يوضح: «حتى لو بقينا بلا أدوية، سنكمل مهمتنا؛ لأننا إذا توقفنا، سيعني ذلك أننا استسلمنا للحرب».
نذر الترحيل
بيان الجيش الإسرائيلي الصادر منتصف أغسطس كشف بوضوح نية الاحتلال نقل سكان مدينة غزة إلى جنوب القطاع. الحديث عن «تجديد توفير الخيم ومعدات المأوى عبر معبر كرم أبو سالم» تحت إشراف الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة، يبدو في ظاهره إنسانيًا، لكنه في جوهره خطة ترحيل مقنّعة، كما يصف الدكتور نعمان عبد، المحلل السياسي، لجريدة الأيام.
المشهد في مدينة غزة لا يختلف كثيرًا عن مشاهد النكبة عام 1948، حين دُفع الفلسطينيون إلى الخيام بذريعة «المؤقت». المؤقت الذي صار دائمًا، واللجوء الذي تحوّل إلى هوية أجيال، بحسب تعبير أستاذ في العلاقات الدولية الفلسطيني.
عبد يوضح أن الاحتلال يحاول اليوم أن أن يكرر المشهد ذاته: تفريغ مدينة كاملة من سكانها، وإحكام السيطرة عليها، تحت غطاء «المساعدات الإنسانية».
مصير المدينة
كما يوضح الدكتور أكرم عطاالله، المحلل السياسي الفلسطيني بارز: «مدينة غزة، التي خاضت صمودًا طويلًا رغم الحصار والحرب، باتت الآن على حافة تهجير جماعي منظم. من حي الزيتون إلى الصبرة والشيخ عجلين، هناك خطة محكمة تقضي بمحاصرة المدينة عبر أربع فرق عسكرية، يليها تدمير البنى التحتية عبر ضربات جوية وتحركات برية تؤدي إلى (تطهير مناطق السكن)، وإفراغها من أهلها».
والأسوأ أن هذا يحدث وسط ما وصفه بـ«الصمت الدولي المريب». فالدعوات التي تطلقها المنظمات الحقوقية لوقف «جريمة الإبادة الجماعية»، تُقابل بتصريحات شجب خجولة لا ترقى لحجم المأساة. وعلى الرغم من ذلك، تظل هناك أصواتٌ صغيرةً، في الأزقة وبين الركام، تردد بثبات: "لن نغادر مدينتنا".
ويوضح عطا الله أن «غزة ليست مجرد مدينة فلسطينية، بل هي قلب الصراع السياسي مع الاحتلال، وبالتالي فإن تفريغها من سكانها سيشكل ضربة قاصمة للمشروع الوطني برمته. لذلك، فإن صمود الناس فيها ليس مجرد فعل بقاء، بل رسالة سياسية للعالم أن الفلسطينيين متمسكون بأرضهم مهما كان الثمن».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أن الاحتلال حی الزیتون مدینة غزة لـ ع مان
إقرأ أيضاً:
عاجل | الهلال الأحمر الفلسطيني: إصابة فلسطيني برصاص قوات الاحتلال في مدينة طوباس شمالي الضفة الغربية
الهلال الأحمر الفلسطيني: إصابة فلسطيني برصاص قوات الاحتلال في مدينة طوباس شمالي الضفة الغربية
التفاصيل بعد قليل..