السينما والأخلاق في كتاب جديد للغيطاني
تاريخ النشر: 18th, October 2025 GMT
"سينما السؤال الأخلاقي: أندري زفياجينتسيف" كتاب جديد صدر مُؤخرا للناقد السينمائي محمود الغيطاني، عن "بوملحة للنشر والتوزيع" بالإمارات العربية المُتحدة ضمن فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب الذي تنطلق دورته الجديدة في 5 نوفمبر 2025م من الشهر القادم.
صدر الكتاب في 340 صفحة من القطع الكبير، استمرارا لمشروع الغيطاني النقدي الذي يتناول مجموعة من المُخرجين المُتميزين من حول العالم بالنقد والتحليل، حيث ترك هؤلاء المُخرجين ببصماتهم الملموسة على صناعة السينما العالمية.
يتناول الكتاب السيرة السينمائية للمُخرج الروسي أندري زفياجينتسيف الذي يُعد من أهم المُخرجين الروس في تاريخ السينما الروسية المُعاصرة، والذي يعنيه في صناعة سينماه السؤال الجوهري الأساس الذي يُشكل السينما التي يقدمها، وهو سؤال المسؤولية الأخلاقية، وأهمية الأسرة في بناء المُجتمع باعتبارها النواة الأساس لأي مُجتمع.
كتب الغيطاني على ظهر الغلاف تعريفا بالمُخرج: "ربما لو كان قد قُدر لنا معرفة المُخرج الروسي Andrey Zvyagintsev أندري زفياجينتسيف باعتباره مُصلحا اجتماعيا، أو رجلا من رجالات الاجتماع النظري الذين لا يعنيهم سوى الكتابة فيما يدور داخل المُجتمع من أجل محاولة تقويمه، والدفع به باتجاه أفضل، أكثر عدالة ومثالية، ونموذجية؛ لما اختلف الأمر كثيرا عن كونه مُخرجا سينمائيا؛ فزفياجينتسيف في جوهره مُصلح اجتماعي ضل طريقه باتجاه السينما!".
كما لا يفوته إجراء المُقارنة ما بين زفياجينتسيف، والمُخرج الروسي الراحل أندريه تاركوفسكي، ونظيره المجري بيلا تار في قوله: "زفياجينتسيف- الذي يبدو لنا كمُصلح اجتماعي- يمارس السينما بفرادة وأسلوبية وجمالية تختلف عن غيره من المُخرجين الآخرين، هو في ذلك مثله كمثل المُخرج الروسي الراحل Andrei Tarkovsky أندريه تاركوفسكي، الذي كان بمثابة النبي، صاحب الرسالة الإنسانية الخالدة التي تحاول تحذير البشرية من الدمار المادي الهائل المحيق بهم، والذي لن يؤدي بهم في النهاية إلا إلى الدمار الكامل بموت أرواحهم فيهم وتشويههم، ومن ثم انصبت سينماه بالكامل على الدعوة إلى الروح، والابتعاد عن الانسياق خلف كل ما هو مادي- فهو نبي يحاول إيصال رسالته من خلال الأفلام- كذلك المُخرج المجري Béla Tarr بيلا تار الذي لم يكن- في جوهره- سوى فيلسوف حقيقي، أداته الأولى في هذه الفلسفة- التي يتوغل مُتأملا فيها- هي السينما من خلال أسلوبيته المُتميزة والفريدة التي جعلت أفلامه- رغم ميلها الكبير إلى التفلسف التشاؤمي- من أهم السينمات في العالم، سواء من حيث الموضوع/ الفلسفة، أو الشكل/ السينما البطيئة، ومُميزاتها الفريدة التي لا تخفى على أحد، وهو ما يعني أن كل مُخرج منهم مُنشغل طوال حياته بأمر ما، لكنه ضل سبيله إلى السينما؛ فاتخذها وسيلته الأساس من أجل التعبير عن رسالته، وثقافته، وهمه المُنشغل به".
يشير الغيطاني إلى أن السبب في عقد المُقارنة ما بين المُخرجين أندريه تاركوفسكي، وزفياجينتسيف يعود إلى: "ثمة علائق قوية تربط زفياجينتسيف بالمُخرج الروسي الراحل Andrei Tarkivsky أندريه تاركوفسكي؛ فكل منهما أعاد للسينما الروسية مجدها، وتميزها، وفرادتها، وانتشارها من حول العالم بما قدمه من أفلام، ومن ثم بات كل منهما رمزا مُهما من رموزها، وكل منهما فاز فيلمه الروائي الأول بجائزة Golden Lion الأسد الذهبي- أكبر جائزة يمنحها مهرجان Venice البندقية السينمائي- وهي الجائزة التي لم يحصل عليها مُخرج روسي سوى تاركوفسكي عن فيلمه الأول أيضا Ivan’s Childhood طفولة إيفان 1962م، والمُخرج الروسي Nikita Mikhalkov نيكيتا ميخالكوف عن فيلمه Urga أورجا 1991م، ثم زفياجينتسيف عام 2003م عن فيلمه الروائي الأول The Return العودة. وكل منهما جعله فيلمه الروائي الأول في مُقدمة أهم المُخرجين من حول العالم، ومُرحبا به في كافة الفعاليات السينمائية باحترام واقتدار خاص نتيجة لفرادة سينماه، وكل منهما اختار التعبير- في فيلمه الأول- عن عالم الطفولة، وما يحيط به من أسباب قادرة على هدم هذا العالم، وتفتيته تماما لينتهي الأمر بهذه الطفولة إلى مأساة مروعة، وكل منهما رأى- في نفسه- أنه يحمل رسالة لا بد من تأديتها من خلال السينما التي يقدمها- العودة إلى الحياة الروحية في مُقابل الحياة المادية الغالبة لدى تاركوفسكي، والتوعية بضرورة استقرار الأسر، والتعامل الصحي داخل إطارها، منعا لانهيارها مما سيؤدي إلى نشأة مُجتمع مشوه، شديد التفسخ واللاأخلاقية في حالة انهيار الأسرة لدى زفياجينتسيف".
أما عن السبب في عقد مُقارنة ما بين زفياجينتسيف والمُخرج المجري بيلا تار؛ يقول الغيطاني: "المُخرج الإيطالي Michelangelo Antonioni مايكل أنجلو أنطونيوني كان هو السبب الرئيس في شغف زفياجينتسيف بعالم السينما- التي لم يدرسها، ودرس بدلا منها المسرح والتمثيل- لا سيما فيلمه المُهم L’Avventura المُغامرة 1960م الذي يراه زفياجينتسيف أهم فيلم في تاريخ السينما، وهو الفيلم الذي غيّر وجهة نظره، وميله للتمثيل والمسرح باتجاه الإخراج السينمائي، وبما أن مايكل أنجلو أنطونيوني من أهم رواد Slow Cinema السينما البطيئة التي تمتاز على غيرها من السينمات الأخرى بالعديد من الجماليات المُختلفة، لا سيما حركة الكاميرا البطيئة المُتمهلة، المُتأملة، المُتفحصة، وهو ما يُعطي الفرصة للمُشاهد بدوره من أجل المزيد من التأمل والتفكير، وطرح الأسئلة؛ فلقد اختار زفياجينتسيف أسلوبيته السينمائية في كل ما قام بصناعته من أفلام سينمائية، ولم يخرج عن أسلوبية السينما البطيئة، عاملا على تطوير هذه الإمكانيات الأسلوبية بالشكل الذي يُكسبه فرادة، واختلافا عن غيره من المُخرجين المُنخرطين في هذا المجال من أمثال تاركوفسكي، وأنطونيوني، وبيرجمان، وتار، وبريسون، ونوري جيلان، ولاف دياز، وبيدرو كوستا وغيرهم من مُخرجي هذا التيار المُهم في تاريخ السينما العالمية". وبما أن بيلا تار من أهم رواد "السينما البطيئة" فلقد كان لا بد من عقد المُقارنة بينهما.
تأتي أهمية هذا الكتاب من استمرار الغيطاني في مُباشرة مشروعه السينمائي المُنكب عليه مُنذ سنوات، والمُنصب في الأساس على مُخرجي تيار "السينما البطيئة" من حول العالم، وهو التيار الذي يحظى بمكانة فريدة في عالم صناعة السينما؛ لأهميته، وجمالياته الأسلوبية، وتحليه بالثقافة الوافرة، وحرص مُخرجيه على ابتكار أسلوبيات سينمائية فريدة تتيح للمُشاهد الفرصة للتأمل الطويل فيما يدور أمامه على شاشة السينما، لا سيما أن هذا الاتجاه من السينما يميل إلى الكثير من التفلسف، وتأمل الحياة من حولنا، وإضفاء العديد من المعارف على المشاهد السينمائية.
يقول محمود الغيطاني عن المُخرج: "رغم أنه قد هاجر من روسيا إلى منفاه النهائي في فرنسا؛ نتيجة لغضب النظام السياسي منه، ورفضه لما يقدمه من أفلام تنتقد النظامين السياسي والاقتصادي القائمين، وهو ما أدى إلى اضطهاد النظام "البوتيني" له- نسبة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- إلا أن فوز فيلمه الأول بجائزة Golden Lion الأسد الذهبي في مهرجان Venice البندقية السينمائي؛ قد دفع الرئيس الروسي Vladimir Putin فلاديمير بوتين إلى أن يهنئ المُخرج بنفسه على هذا الفوز الفني المُهم في رسالته التي جاء فيها: "إن الجوائز الرفيعة التي حصدتموها في مهرجان Venice البندقية السينمائي ليست مُجرد انتصار مهني لكم، بل هي شهادة على الإمكانات الإبداعية الهائلة للسينما الروسية وتطورها الديناميكي اليوم".
يتناول الغيطاني في كتابه "سينما السؤال الأخلاقي" سينما المُخرج التي حاول الإحاطة الكاملة بها، والأسباب الاجتماعية، والأسرية، والثقافية، بل والشخصية التي عملت على تكوينه للوصول إلى هذا الشكل الذي نعرفه عليه الآن، والسبب الرئيس في اهتمامه بصناعة السينما، والانصراف عن عالمي التمثيل والمسرح اللذين كان مفتونا بهما، لتصبح السينما فيما بعد أهم لديه من الحياة- كما سبق أن "أخبره بذلك المُمثل الروسي Aleksei Serebryakov أليكسي سيريبرياكوف، بطل فيلمه المُهم Leviathan ليفياثان حينما قال له ذات مرة: أندري، أنت تُحب السينما أكثر من الحياة".
كما توقف في بعض الأحيان أمام العديد من المعوقات السياسية، وسوء الفهم اللذين ووجهت بهما أفلام المُخرج، والتي كادت- لو كان قد استسلم لها- أن توقفه تماما عن صناعة السينما، أو على الأقل الاضطرار إلى صناعة أفلام ترفيهية- لا معنى لها، ولا فنية فيها- لمُجرد أن يرضى عنه الجميع، لا سيما رجال الدولة. كما توقفنا أمام العديد من الصدف القدرية البحتة التي شكلت مساره السينمائي، وهو ما سنراه بشكل أكثر تفصيلا في الباب الأول الذي تناول حياته، وسينماه، وأفلامه، وظروف تصويرها وإنتاجها، وكيفية تلقيها- سواء من قبل الجمهور، أو من قبل الدولة، أو من قبل المُجتمع السينمائي العالمي- كما لم يفته التوقف الطويل أمام فلسفته الاجتماعية، ونظرته إلى الحياة من خلال الأسرة الروسية التي تُشكل النواة الأولى، والجوهرية، والرئيسية في تشكيل المُجتمع بوجه عام، وهو ما يجعله يطرح الكثير، والمزيد من الأسئلة الأخلاقية والوجودية التي لا غنى عنها- الهدف الرئيس من صناعته للأفلام- راغبا في جعل المُشاهد يتأمل مثل هذه الأسئلة، ليطرح بدوره المزيد منها، مُؤمنا بضرورتها، وعدم المقدرة على الاستغناء عنها.
كما حرص في الباب الثاني على تناول أفلام المُخرج الروائية الطويلة، والتي بلغت خمسة أفلام، بالبحث والتحليل، ومُقارنة هذه الأفلام التي صنعها المُخرج مع أسئلته الأخلاقية الكبرى التي يحلو له زجها داخل أفلامه، بل وقيام الفيلم في الأساس بالاعتماد الجوهري عليها، وطرح السؤال بدوره: هل تناسبت هذه النظرة الأخلاقية الاجتماعية التي يؤمن بها المُخرج مع ما قدمه من أفلام أم لا؟ وهل استطاع زفياجينتسيف التعبير عن رؤيته الاجتماعية والأخلاقية بأفلام فنية مُمتعة، تحمل داخل بنيتها أسلوبيته المُتفردة التي جعلته مُختلفا عن غيره من المُخرجين- سواء داخل روسيا أو خارجها؟
في الباب الثالث تناول بالنقد والتحليل أيضا فيلميه الروائيين القصيرين الوحيدين اللذين قام بصناعتهما في تجارب جماعية، ورغم قصر مُدة عرض الفيلمين، إلا أن زفياجينتسيف لم يستطع فيهما التخلي عن أسئلته الضرورية التي تظل تُلح على ذهنه بشكل مرضي؛ مما يجعل الفيلم في نهاية الأمر خير تعبير عما يعتمل داخل ذهنه.
كتب الغيطاني في العديد من المجالات المُختلفة، حيث صدر له في مجال الرواية "كائن العزلة" 2006م، و"كادرات بصرية" 2011م، وهي الرواية التي فاز بجائزة ساويرس عنها في عام 2012م، كما كتب في مجال القصة القصيرة مجموعة "لحظات صالحة للقتل" 2008م، و"اللامُنتمي" 2018م.
في مجال النقد الأدبي كتب "زيف النقد ونقد الزيف: احتضار النقد العربي" 2017م، و"الفساد السياسي في الرواية المغاربية" 2018م، كما صدر له كتاب حوارات ثقافية بعنوان "جنة الممسوسين" 2018م.
أما في مجال النقد السينمائي فلقد كتب الغيطاني العديد من الكتب منها: "سينما الطريق: نماذج من السينما العربية" بالتعاون مع مجموعة من النقاد السينمائيين بإدراة الناقد صلاح سرميني 2007م، و"السينما النظيفة" 2010م، وغسان عبد الخالق: سيرة سينمائية" 2014م، و"صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م"، وهو المشروع الذي صدر منه جزآن حتى الآن في 2021م، ويُنتظر صدور ثلاثة أجزاء أخرى، و"سينما المشاعر المُنتهية الصلاحية: وونج كار واي" 2022م، و"Cinephilia الهوس بالسينما: لارس فون ترير" 2023م، و"فلسفة السينما: بيلا تار" 2024م، و"رسول السينما: سينما الأحلام والرؤى.. أندريه تاركوفسكي" 2025م.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: معرض الشارقة صناعة السينما تاریخ السینما صناعة السینما من حول العالم العدید من الم جتمع کل منهما من أفلام فی مجال من خلال لا سیما وهو ما الذی ی الم هم من أهم م جتمع
إقرأ أيضاً:
فلسفة التاريخ من جديد.. الطيب بوعزة يقترح تأسيسًا جديدًا يجاوز الحتمية.. كتاب جديد
الكتاب: المؤرخ والفيلسوف: أسئلة الإسطوغرافيا وفلسفة التاريختأليف: د الطيب بوعزة
الناشر: مركز نهوض للدراسات والبحوث
الطبعة الأولى
سنة النشر: 2025
ثمة سؤال بحثي ومعرفي يثير قلق كل من المؤرخ والفيلسوف على حد سواء، ويخلق نوعا من الخصومة بينهما، خصومة الاختصاص، وخصومة احترام الصلاحيات، ونزاع التطاول على العلم والخوض في عبابه دون مجادف معرفية وأدوت منهجية.
هل يمكن للتاريخ بأحداثه ووقائعه واتساع مدياته، من التاريخ القديم إلى التاريخ المعاصر أن ينتظمه تفسير كلي، يجمع كل وقائعه الصغيرة والكبيرة في خط واحد، أفقيا كان أم دائريا أو متموجا؟ وإذا كان بالوسع معرفيا الإقرار بهذه الإمكان، فهل السعي لتحصيل هذا المعنى الكلي من التاريخ هو وظيفة المؤرخ أم وظيفة الفيلسوف؟
تأخذ الخصومة بين المؤرخ والفيلسوف بعدين اثنين إذن، البعد المتعلق بسؤال الإمكان، إذ يصر الفيلسوف على خوض هذا التمرين دون المؤرخ فتتجلى صور التنازع في التوصيفات القدحية التي يتهم فيها كل طرف الآخر، بسبب هذا السؤال، والبعد المتعلق بمن يملك الأدوات المعرفية والمنهجية للخوض في هذا المسعى، وبأي رؤية ومقاربة، فتنتقل الخصومة المعرفية، أو للدقة النقد المعرفي بما في ذلك الهدمي، إلى مدارس الفلاسفة في التأطير النظري لفلسفة التاريخ.
ويتولد عن هذين الإشكالين إشكال ثالث نقدي وتركيبي في الآن ذاته، فإذا سلمنا بإمكان تحصيل معنى كلي للتاريخ، واستقرأنا مدارس الفلاسفة في تفسيرهم لفلسفة التاريخ، فهل المقاربات التي تم إنتاجها بخصوص هذا السؤال منذ القرن الثامن عشر كافية في الوفاء بالغرض والقول بإمكان الفيلسوف أن يسهم في تقديم نظرته الكلية للتاريخ وتحصيل المعنى منه، أم أن مخرجات هذه المدارس تكشف تيها واضطرابا في التفسير، تجعل المؤرخ في نهاية المطاف، يسعد برؤيته وخصومته للفيلسوف حين كان يتهمه بالتطفل على ميدان لا يحسنه، ويأسف الفيلسوف بسبب اتهامه المؤرخ بأنه يخوص في أجزاء ووقائع ويغرق في تفاصليها دون أن يخرج منها بطائل سوى التوثيق الذي لا ينقع في تقديم شيء في قراءة المسار العام للتاريخ والقانون الذي يحكمه.
بالنسبة للفيلسوف، فَهَمه دائما، ليس قراءة التاريخ فقط، بل في سعيه لتأطير كل الموضوعات، أدبا كانت أم سياسة أم فنا أم أخلاقا أم تربية، بالبحث عن المعنى الكلي، فليس همه النظر في الجزئيات العارضة والظواهر المحكومة بسياقها الزمني، بل نظره معلق بإيجاد خط ناظم، يجمع الحوادث كلها، في إطار رؤية كلية مفسرة.هذه الإشكالية المعقدة، والتي أثارت خصومات معرفية بين الفيلسوف والمؤرخ حول المعنى الكلي للتاريخ، وطرحت أسئلة حتى حول جدية المقاربات التي قدمتها المدارس الفلسفية بخصوص رؤيتها الكلية للتاريخ وأيضا حول مركزيتها الغربية، كانت موضوع دراسة نوعية، وربما غير مسبوقة في العالم العربي، قدمها الدكتور طيب بوعزة في كتابه الجديد:" المؤرخ والفيلسوف: أسئلة الإسطوغرافيا وفلسفة التاريخ " الذي لم يكتف فيه بتتبع هذه الخصومة، وتحليل وجهات نظر المؤرخ ومقاربات الفلاسفة ومدارسهم في هذا الموضوع، بل مارس كثيرا من النقد على صنيع الاثنين، وانتصر لفكرة المعنى الكلي للتاريخ، لكن ليس من نفس القاعدة التي أسست لها المدارس الفلسفية التي اشتغلت على هذا الموضوع، وإنما بتقديم أطروحة أخرى، انطلقت من نقد المنجز الفلسفي بهذا الخصوص، والإفادة من الخبرة الفلسفية العربية الإسلامية، ومحاولة تغيير النظرة القدرية الحتمية في تأطير فلسفة التاريخ، واستبدالها بنظرة أخرى، تجعل من حاصل ومخرجات فلسفة التاريخ أو من القانون العام الناظم لحركيته د حافزا للحركة ودافعا نحو تكميل الإنسان.
المعنى الكلي للتاريخ والخصومة المعرفية بين المؤرخ والفيلسوف
يتنازع المؤرخ والفيلسوف سؤال إمكان تحديد المعنى الكلي للتاريخ القادر على تأطير ونظم التواريخ كلها وتفسير مبدئه ومسار وغايته، والأدوات المنهجية الكفيلة بتحقق هذا الغرض.
بالنسبة للفيلسوف، فَهَمه دائما، ليس قراءة التاريخ فقط، بل في سعيه لتأطير كل الموضوعات، أدبا كانت أم سياسة أم فنا أم أخلاقا أم تربية، بالبحث عن المعنى الكلي، فليس همه النظر في الجزئيات العارضة والظواهر المحكومة بسياقها الزمني، بل نظره معلق بإيجاد خط ناظم، يجمع الحوادث كلها، في إطار رؤية كلية مفسرة.
أما المؤرخ الذي تقوده مهمته إلى الاقتصار على توثيق الحدث ونقله بتفاصليه ومختلف سياقاته، فيرى في الفيلسوف كائنا طفيليا يتعدى على الحقول المعرفية للغير ويريد بمنزعه نحو "التعميم" والبحث عن المعنى الكلي إلى تأسيس شرعيته المتعالية على الجميع، مع أن عمله يفتقد ـ حسب نظر المؤرخ ـ إلى أبسط مقومات التنقيب والاستقصاء التي تتوفر في المؤرخ وبها تنطبع صنعته.
ينقل المؤلف أمثلة عن الاتهامات التي وجهها المؤرخون للفلاسفة ومنهم المسعودي في القرن الرابع الهجري، الذي وصف الفيلسوف بالطفيلي الذي يتطاول على صنعة لا يحسنها، وينقل آراء مفكرين معاصرين استمرت عندهم هذه النظرة، مثل أسد رستم، الذي اتهم الفلاسفة بالجهل بالتاريخ، والتعالي عن الاستشارة للمختصين في حقله، وارتكاب حماقات متعسفة في تحميل التاريخ ما لا يطيقه.
يقر الدكتور طيب بوعزة، أنه رغم انتسابه للحقل الفلسفي، فإن هناك ما يبرر استهجان المؤرخ لعمل الفيلسوف، فالمؤرخ يبذل الجهد المضنى في التدقيق والنخل والتحقيق والجمع والتوثيق في واقعة تاريخية مفردة، بينما لا يتورع الفيلسوف في أن يتحدث عن التاريخ في حركيته الطويلة والممتدة، مقدما فهمه الكلي لمساره وغايته وتعيين مستقبله.
لكن مع إقراره بشرعية هذه المبررات، فإنه يرجع هذه الخصومة بين الفيلسوف والمؤرخ إلى طبيعة نظر كل منها، والغاية التي تحكم السؤال المعرفي عندهما، فالفيلسوف ينشغل بسؤال المبدأ والنهاية ويعتبر ذلك الاهتمام الرئيس للوعي الفلسفي، بينما ينشغل المؤرخ بسؤال الكيف في مدلوله الوصفي، ويضع عينه على العلائق السببية في الأحداث الجزئية التي يوثقها ويدققها ويعاير صدقيتها.
وتبعا لذلك ينتصر الدكتور طيب بوعزة لفلسفة التاريخ، ويبرر الحاجة إليها، بالحاجة إلى تجاوز منهج التعليل الجزئي للأحداث التي لا يحصل منه طائل مالم يتدعم بالرؤية الكلية التوليفية التي تقوم على تفسير التاريخ بالمعنى الكلي والقانون الناظم لمبدئه مساره والغاية منه.
فإذا كانت مهمة المؤرخ ومكنته المنهجية متجهة إلى تحصيل الأحداث الجزئية، والبحث في سؤال الكيف والسبب ضمن السياق المفرد المخصوص، فإن مقدرته على إنتاج فلسفة التاريخ محدودة، ولا تسعفه في بلوغ شيء في تحصيل للمعنى الكلي للتاريخ، فالقدرة التوثيقية الهائلة التي يتمتع بها المؤرخ، لا تفيد إلا في فهم المعنى للحدث العرضي، ولا يقدم شيئا يذكر في تحصيل المعنى الكلي للتاريخ والقانون الحاكم لحركيته، وأن هذا ما يبرر الحاجة لفلسفة التاريخ، ولمهمة الفيلسوف في الحقل التاريخي، لأنه يمتلك القدرة والمكنة على لَم الجزئيات، ونظمها في خط جامع، يتمتع بمقومات التفسير الكلي للتاريخ.
يطرح الدكتور طيب بوعزة سؤال الإمكان والقدرة، وهل يستطيع الفيلسوف أن يقوم بهذه المهمة، وهل له الاقتدار على فعلها، ويستعرض مسار الفلسفة الإغريقية، ويلحظ غياب فلسفة التاريخ فيها، هذا في الوقت التي انشغلت فيه هذه الفلسفة بمختلف أنواع الفلسفة (فلسفة الكوسموس، وفلسفة السياسة، وفلسفة النفس، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة المعرفة، وفلسفة "الجسد، وفلسفة الجنس، وفلسفة الطبخ..." ويتساءل عما إذا كان العقل اليوناني قد عجز عن بلورة فلسفة للتاريخ؟
وبعد أن يقدم تفسيرات لسبب عدم انشغال العقل اليوناني بهذا السؤال، ونفي أرسطو إمكان قيام فلسفة التاريخ بسبب استحالة تحديد رابط يمكن أن يجمع وينظم التواريخ البشرية جميعها، يلفت الانتباه إلى أن فلسفة التاريخ لم تظهر إلا في الزمن الروماني، ويعزو ذلك إلى تأثيرات الدياية المسيحية سواء في عهدها الجديد أو في ميراثها التوراتي، وأنه من هذين المصدرين بدأت تتأسس فكرة الرؤية الجامعة للتاريخ الإنساني، وفكرة هندسة الزمن في شكل خطي ذي بداية ونهاية، وأن هذه التأثيرات المسيحية هي التي تفسر بروز فلسفة التاريخ بشكل مؤسس في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بما يعني في المحصلة أن جذور فكرة فلسفة التاريخ، أو المعنى الكلي له، تم استمدادها من الفكرة الدينية لا من الأصول الهندو -أوربية، وهذا ما جعل طيب بوعزة يخلص للقول بأن: "المبدأ الكُلِّي المفسر للتاريخ لم يظهر ابتداءً في إطار الوعي الفلسفي، بل في إطار الوعي الديني" وأنه تبعا لذلك، لا ينبغي بالمطلق فصل نشأة فلسفة التاريخ، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عن الرؤية الدينية لصيرورة الوجود، ويستشهد طيب بوعزة على ذلك، باستعمال فلسفة التاريخ في نشأتها الحديثة للاصطلاح الديني "الثيوديسيا" التي تعني في اللغ اليونانية "العدل الإلهي"، كما يستدل على ذلك باستعمال هذا الاصطلاح في الدراسات اللاهوتية المسيحية بالمعنى الذي يفيد بأن العالم يسير وفق خطة إلهية، فتم استعمال هذا الاصطلاح في فلسفة التاريخ، وتم تتطوير مفهومه، حتى صار يأخذ أبعادا أخرى ابتعدت به عن معناه ألأصلي في الفلسفات المعاصرة.
هل أجابت الفلسفة عن سؤال المعنى الكلي للتاريخ؟
في الواقع، وبعيدا عن سؤال تبرير الحاجة لفلسفة التاريخ، وبيان مشروعية عمل الفيلسوف في حقل التاريخ بمنهج مغاير لعمل المؤرخ، ومحاولة تفسير سبب الخصومة بينهما، ومحاولة تفهم منهج كل واحد منهما في النظر للتاريخ، فإن السؤال الذي يتجاوز ذلك، هو إلى أي حد قدمت فلسفة التاريخ جوابها عن إمكان وجود معنى كلي للتاريخ؟ وهل الإسهامات التي قدمت تناسب مستوى المقدمات المنهجية التي كانت تبرر الحاجة لتأسيس فلسفة التاريخ؟ وهل ما قدم من عطاءات في هذا الاتجاه تعطي شرعية معرفية وعلمية ومنهجية للمعاني الكلية التي تم إنتاجها في فلسفة التاريخ؟
واقع الأمر، يؤكد بأن الجواب عن هذا السؤال يكمن في تقييم عطاء المقاربات الفلسفية التي نشأت منذ القرن الثامن عشر، ومحاولة تقييمها ومعايرتها في ضوء المقدمات التأسيسية لفلسفة التاريخ.
بعيدا عن سؤال تبرير الحاجة لفلسفة التاريخ، وبيان مشروعية عمل الفيلسوف في حقل التاريخ بمنهج مغاير لعمل المؤرخ، ومحاولة تفسير سبب الخصومة بينهما، ومحاولة تفهم منهج كل واحد منهما في النظر للتاريخ، فإن السؤال الذي يتجاوز ذلك، هو إلى أي حد قدمت فلسفة التاريخ جوابها عن إمكان وجود معنى كلي للتاريخ؟ وهل الإسهامات التي قدمت تناسب مستوى المقدمات المنهجية التي كانت تبرر الحاجة لتأسيس فلسفة التاريخ؟ وهل ما قدم من عطاءات في هذا الاتجاه تعطي شرعية معرفية وعلمية ومنهجية للمعاني الكلية التي تم إنتاجها في فلسفة التاريخ؟قام الدكتور طيب بوعزة في هذا السياق باستقراء دقيق لما أنتجته فلسفة التاريخ من رؤى ومقاربات في هذا الاتجاه، وحصرها في ثلاثة أنماط متمايزة واستفاد في ذلك من جهود هنري ولش: نمطان أنتجهما اللوغوس الفلسفي هما "فلسفة التاريخ التأملية" ونمط "فلسفة التاريخ النقدية"، ثم نمط آخر نشأ في القرن العشرين، ومثل ما يسميه الكاتب بالمنعطف اللغوي في النظر الفلسفي للتاريخ.
النمط الأول، اتجه إلى تحديد معنى كلي للتاريخ، وضمنه يمكن أن ندرج المدرسة الهيجيلية. والنمط الثاني، نشأ بوصفه تجاوزا للهجيلية، ونقدا للعقل الفلسفي الثيوديسي.
يعلل الطيب بوعزة نشأة النمط الثاني بأزمة المعنى في الفكر الفلسفي المعاصر، ويرى أن تيارا جديد امتأثرا بالمنعطف اللغوي في القرن العشرين، أسهم في بروز نمط ثالث في فلسفة التاريخ، يرى طيب بوعزة أنه لم يستطع بنظريته حول "فلسفة التاريخ الجديدة" أن يحدث ثورة حتى في مجال اختصاصه، فبالأحرى أن يحدث انقلابا ثوريا في نظرية التاريخ وفلسفته، ويعلل ذلك بسببين اثنين، أن فلسفة التاريخ لم يكن من الممكن أن تستبدل بأدوات الشعر، والثاني أنه إذا كان مأزق الإسطوغرافيا العلموية يرجع بالأساس إلى الوهم النظري الذي يقوم على إمكان تعميم براديغم العلم الطبيعي على المعارف الإنسانية، فإن الجواب عن ذلك لا يكون بمجرد الاكتفاء بالنقد البلاغي على طريقة مؤسس فلسفة التاريخ الجديدة هايدن وايت.
في مبررات الاشتغال على فلسفة التاريخ.. وهل بالإمكان التأسيس من جديد لهذه الفلسفة؟
يرى طيب بوعزة أن هذه الأنماط الثلاثة، خاصة منها النمطين الأخيرين الذين جمعهما جامع النقد، لم تقدم شيئا كثيرا لنظرية التاريخ وفلسفته، وأن هذا ما برر اشتغاله على هذا الكتاب، هو محاولة إنجاز "ضبط أكثر دقةً لهذا النسيج الثري من الأنماط التصورية التي نظرت في مسألة التاريخ ومعناه".
ولتحقيق هذا الهدف وهذا الضبط بشكل استقرائي دقيق، حاول طيب بوعزة أن يتتبع كيفية تشكيل النظرية الإسطوغرافية في التراثين الإسلامي والغربي، وأن يمارس عملية النقد المعرفي والمنهجي على أطاريح فلسفة التاريخ، ويرصد تحولاتها، حيث توقف بهذ الخصوص على المحطة التي وصلتها، أي محطة النقد العدمي بسبب من تهجمات النقد ما بعد الحداثي، وما تلاه من تفكيك للمفاهيم المؤسسة للنظر الكلي.
وقد كان قصد الكتاب، أن يتجاوز المقاربة التوصيفية الاستعراضية إلى ما هو أكبر من ذلك مما يتعلق بجهد البناء والتركيب والتأسيس، إذ سعى خاصة في الباب السادس، إلى تأسس نموذج لفلسفة تاريخ جديدة، من خلال إعادة التفكير في "متعاليات الذات" من أجل استمداد معنى للتاريخ، ضدا على دعوى استحالة تأسيسه، وذلك لأن ضغط الزمن المعاصر يلح أكثر من أي وقت مضى على وجود فلسفة للتاريخ، وذلك بعد أن أصولت المقاربات النقدية والعدمية هذه الفلسفة إلى مربع الموت والزوال.
وقد ركز طيب بوعزة مشروعه التأسيسي على استحضار بعض ميزات الفلسفة الإسلامية، ومنها "مقولات الجهة" وذلك بالسعي بالانتقال بها من المبحث المنطقي، إلى مبحث الميتافيزيقا؛ وذلك حتى يتسنى له تأسيس الدليل الوجودي. ومنها أيضا "مفهوم كمال واجب الوجود"، الذي كشف عنه الفارابي وابن سينا (الضرورة الوجودية)، ومنها مفهوم "الكمال"، الذي استعمل في الفلسفة بوصفه أساسا للدليل الأنطولوجي، حيث اتخذه الكاتب مقدمة إلى فهم الوضع البشري وصيرورته في الزمن (التاريخ).
وقد قصد من توظيف واستثمار هذه المفاهيم تحقيق: "ثلاث نقلات تبدأ من المنطق (موجهات القضايا)، إلى الميتافيزيقا (واجب الوجود)؛ فالأنثربولوجيا (الكائن الإنساني بما هو وجود بالكامل للكمال)".
الفارق في طريقة اشتغال المؤلف لتأسيس فلسفة التاريخ من جديد، أنه ابتعد كلية عن فكرة القدرية والحتمية في قراءة التاريخ، وأن هناك مآلا حتميا سيصير إليه التاريخ، كما هي نظريات النظرة التأملية في فلسفة التاريخ، وإنما اتجه متجها آخر، عنوانه محاولة "رفع الكلي إلى مثال آفاقي، فلا يكون حاصلا حتميا لتلك الحركة، بل أفقًا جاذبا لها، يرتهن الاقتراب منه بالتحرك في اتجاهه، لا انتظار وقوعه قدريا، ولأن الكمال مثال غير متعين، فهو محرك؛ لذا نقدمه بوصفه قانون حركة التاريخ".
بين يدي الكتاب
يجمع هذا الكتاب بين الجهد التقييمي والتوصيفي والسجالي والنقدي والتركيبي التأسيسي، ويضم بين جنباته نقاشات علمية دقيقة ومستوعبة، وفضلا عن ذلك، فإنه يتضمن تصميما مرتبا بشكل منهجي دقيق، إذ ابتدأه، بباب أولي يخص المسألة الإسطوغرافية، حاول فيه المؤلف التمهيد بدراسة دلالة التاريخ والسبب الحافز إلى سرده، قبل الانتقال إلى دراسة القيمة العلمية لذلك السرد، ثم قام في الباب الثاني "الفيلسوف والتاريخ"، بدراسة كيفية إجراء النظر الفلسفي على التاريخ، ونوعية الفروض التي أنتجها فيما يخص هندسة الزمن، فيما خصص الأبواب الثلاثة الموالية لدراسة نماذج فلسفات التاريخ حسب تصنيفها للزمن التاريخي: الارتكاسي والدائري والتقدمي، ليأتي الباب السادس نقديا تأسيسا تركيبيا، حاول فيه الانتقال من المنجز في فلسفة التاريخ ونقده، والرد على دعوى نهاية فلسفة التاريخ وزوالها، إلى اختبار إمكان تأسيس جديد لـ"معنى للتاريخ"، وذلك انطلاقا من عدة مفاهيم استثمرها الكاتب من الفلسفة الإسلامية المعاصرة وأيضا من الفلسفة الغربية، محاولا تعديل وجهة فلسفة التاريخ المرتهنة لأفق الحتمية والقدرية، بأفق ارتيادي، يجعل من قانون التاريخ ومعناه الكلي هدفا محركا نحو الكمال والتكميل وحافزا لهما.