ما وراء عاصفة اليمين المتطرف في بريطانيا
تاريخ النشر: 21st, October 2025 GMT
يبدو المشهد السياسي في بريطانيا أنه يوحي بتحولات عميقة في الخارطة السياسية، هي أشبه بالزلزال السياسي إن صدقت استطلاعات الرأي الصادرة تباعا خلال هذه الفترة. زلزال سياسي سيكون له ما بعده في بريطانيا، إلى جانب ارتداداته على الجوار الأوروبي القلق.
فقد أنجزت الأحزاب البريطانية الرئيسية مؤتمراتها السنوية، في إطار تقاليدها السياسية المعهودة، دون أن تغيّر هذه المؤتمرات، لا سيما المؤتمر السنوي لحزب العمال الحاكم ومؤتمر غريمه حزب المحافظين الذي يقود حكومة الظل، من المزاج العام للناخب البريطاني، الذي يوحي بتحول كبير بعيدا عن هذه الأحزاب التقليدية.
فرغم ما تمثله هذه المحطات السنوية للأحزاب الرئيسية من مناسبة لإعلان معالم سياساتها العامة للسنة السياسية الجديدة، اقتصاديا واجتماعيا، وفرصة للاتصال والتواصل للتأثير في الناخبين، فإن استطلاعات الرأي تؤشر لتدهور كبير في شعبية هذه الأحزاب، التي تصنّف كأحزاب وسط، لصالح قوى اليمين المتطرف.
وبات شبح اليمين المتطرف يخيّم على المشهد السياسي العام في البلاد. إذ تشير استطلاعات الرأي المتواترة إلى أن اليمين المتطرف سيكتسح الساحة السياسية بشكل غير مسبوق في تاريخ بريطانيا.
إذ تعطي استطلاعات الرأي الأخيرة لحزب "الإصلاح" اليميني المتطرف الذي يقوده نايجل فاراج أغلبية ساحقة في الانتخابات البرلمانية إن جرت اليوم، بحوالي 375 مقعدا، بينما لا يحوز هذا الحزب حاليا سوى 5 مقاعد.
مقابل ذلك يتراجع حزب العمال الحاكم الذي يقوده كير ستارمر من 411 مقعدا حاليا، إلى 90 مقعدا، ويتدحرج حزب المحافظين الذي يلقّب بحزب الحكومة (الحزب الذي حكم البلاد أكثر من أي حزب آخر) إلى المرتبة الرابعة بحوالي 41 مقعدا فقط، بينما يحوز حاليا 114 مقعدا، ويقود حكومة الظل باعتباره الحزب الثاني بعد العمال.
إعلانويبدو لافتا أن حزب العمال الحاكم الذي اكتسح نتائج الانتخابات البرلمانية قبل حوالي العام، وحصد خلالها الأغلبية الساحقة، يواجه اليوم تدهورا كبيرا في شعبيته وشعبية زعيمه كير ستارمر.
ففضلا عن الاستياء الشعبي المتزايد، بات ستارمر يواجه انتقادات واضحة داخل حزبه، وصلت حد التلويح بسحب الثقة منه، وتداول أسماء بديلة لخلافته في زعامة الحزب ورئاسة الحكومة، أبرزهم عمدة مدينة مانشستر أندي برهام الذي اعتبره مراقبون أنه سرق الأضواء من ستارمر خلال المؤتمر السنوي للحزب. ويواجه حزب العمال اليوم أزمة مركبة، تعاضدت فيها عوامل مختلفة.
فقد أظهرت عملية تقييم تجربة كير ستارمر رئيسا للحكومة وزعيما لحزب العمال، ضعفا واضحا في القيادة والأداء، جعلته الأضعف شعبية في تاريخ رؤساء الحكومات، خلال العام الأول في الحكم.
وبدا ستارمر غير قادر على ضبط فريقه الحكومي، ويعاني من ضعف اتصالي واضح، انعكس على شعبيته بشكل كبير، إذ ظهر كشخصية تكنوقراطية إدارية بالدرجة الأولى، لا يتقن ولا يبدو قادرا على التعبئة السياسية، لا لأنصار حزبه ولا للرأي العام البريطاني بصفة عامة.
كما عصفت أزمة داخلية بحزبه، بدأت مع الأسابيع الأولى للحكم بتلقي ستارمر وزوجته هدايا شخصية من أحد اللوردات، منح مقابلها امتيازات تشريفية غير مبررة.
ثم تفجّرت بعدها فضيحة وزيرة الإسكان التي اتهمت بالتهرّب الضريبي، واضطرت بسببها للاستقالة، عقبها بأيام قليلة أقال ستارمر السفير البريطاني في الولايات المتحدة الأميركية اللورد بيتر ماندلسون على خلفية علاقته بجيفري إبستين صاحب قضية الفضائح الجنسية التي تورّط فيها عدد من كبير من المشاهير، بينهم قادة سياسيون.
كما تبنى الحزب خيارات اقتصادية واجتماعية عمّقت المصاعب الاجتماعية، ومثّلت عبئا ثقيلا على قطاعات واسعة من المجتمع، رغم خلفية الحزب الاجتماعية. وتعترف الحكومة اليوم باتساع دائرة الفقر في البلاد، في ظل غلاء غير مسبوق للمعيشة، وارتفاع نسب التضخم، وتباطؤ ملحوظ للنمو، توقّع البنك الدولي أن يتواصل لبعض الوقت.
إلى ذلك تحوّلت قضية الهجرة والمهاجرين غير النظاميين إلى ملف ضاغط على الحكومة، في ظل مزاج عام أصبح بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مناهضا للمهاجرين، ويحمّل مسؤولية الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتراجع فرص التشغيل، للهجرة والمهاجرين.
وقد نجح اليمين المتطرف خلال السنوات الماضية عبر خطابات شعبوية من الترويج لهذه السردية التي تربط وتفسر الأزمة التي تعيشها البلاد بظاهرة الهجرة والمهاجرين.
وجدت حكومة العمال بزعامة ستارمر نفسها بوعي وبدون وعي تتساوق ضمنيا مع هذا المزاج المعادي للمهاجرين؛ لكي تثبت أنها بصدد حماية البلاد من "الغزو"، حسب وصف وزيرة داخلية حكومة المحافظين السابقة سويلا برافرمان.
بيد أن الإجراءات الحكومية المعلنة في ملف الهجرة، وبدل أن تعزّز صورة الحزب في صفوف الناخبين، أعطت مفعولا عكسيا، ورأتها قطاعات كبيرة من الناخبين المعروفين بتعاطفهم مع حزب العمال، انسياقا مع خطاب وأجندة اليمين المتطرف.
وإذ يمثّل الناخبون من أصول مهاجرة ثقلا انتخابيا معتبرا، كخزان انتخابي لحزب العمال، فإنهم باتوا لا يثقون كثيرا في سياسات الحزب. وتعمّقت أزمة الثقة هذه بسبب المواقف الحكومية المؤيدة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وعدم اتخاذ أي إجراءات جادة لوقف الإبادة في غزة.
إعلانهذا الوضع السياسي الصعب لحزب العمال، مع تراجع متسارع في شعبيته، وفق استطلاعات الرأي، لم يكن ليعني- كما هو معتاد- صعودا لغريمه ومنافسه التقليدي حزب المحافظين العريق.
إذ يعاني هذا الحزب بقيادة كيمي بادينوك من تراجع غير مسبوق في شعبيته، حتى إن زعيم اليمين المتطرف نايجل فاراج- والذي أطلق حزبا جديدا تحت اسم "الإصلاح"- بات يكرر في خطاباته أن حزب المحافظين انهار، وأنه حزب ميت، داعيا المحافظين للالتحاق بحزبه.
ويعاني حزب المحافظين منذ سنوات أزمة زعامة واضحة، جعلته يستبدل زعيمه ست مرات خلال سنوات قليلة جدا، وبات غير مقنع للجمهور.
وقد بدا واضحا في المؤتمر السنوي للحزب قبل أسابيع، مدى فقدان الحزب لإشعاعه، إذ تحدثت الصحافة البريطانية بشكل ساخر عن قاعات مؤتمر شبه خالية، إلى جانب عدم وجود شخصيات وازنة وذات ثقل في الحزب تساعد على إشعاعه واستقطاب الناخبين.
أما زعيمة الحزب الجديدة، وعلى رغم مرور أشهر قليلة فقط على انتخابها فإن كيمي بادينوك، المنحدرة من أصول نيجيرية، يبدو أن المجيء بها لها لزعامة الحزب، كان لمجرّد إدارة مرحلة ما بعد الهزيمة القاسية للحزب في الانتخابات البرلمانية، إذ تجري أحاديث كثيرة في الكواليس عن الحاجة لاستبدال بادينوك.
إذ إن الكثير داخل الحزب لا يراها قادرة على إنجاز الاختراق المطلوب في المشهد السياسي، ولم تلتقط فرصة تراجع شعبية حزب العمال، لتعزيز حظوظ المحافظين، بل إن الحزب يعاني من وضع أصعب وأكثر كارثية مما عليه العمال.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب المحافظين، الذي يعتبر يمين الوسط، ويطلق عليه لقب "حزب الحكومة"، سيتدحرج إلى المرتبة الرابعة، مسجلا أخطر تراجع له في تاريخه، من 114 مقعدا إلى 41 مقعدا فقط.
ويبدو واضحا أن حزب المحافظين فقد بريقه بعد أن اختار تزعُّم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، خاصة أن مرحلة ما بعد "البريكست" اعتبرت الأسوأ في البلاد، ففضلا عن الانكماش وتفاقم الوضع الاقتصادي والفشل في الحد من الهجرة، بدت بريطانيا فيما يشبه حالة عزلة على المستوى الدولي، وتبحث عن نفسها، وعن موقع لها في المشهد، في ظل وضع دولي صاخب، مليء بالتحديات والمخاطر.
ولم يشفع للحزب الذي بات يعاني من أزمة زعامة وسياسات رغم وجوده في المعارضة، وتبنيه خطابا أكثر يمينية ومناهضة للهجرة، وإعلان زعيمته أنها ستشدد قوانين الهجرة والإقامة وسترحّل حال وصولها للسلطة 150 ألف مهاجر في العام الأول من حكم حزبها، لم يشفع له كل ذلك لدى الناخب البريطاني.
إذ تشير استطلاعات الرأي إلى تراجع ملحوظ في شعبية الحزب بشكل غير مسبوق. بل واعتبر الكثير من المراقبين أن هذه السياسات المعلنة، كمن يسوق الماء لغير أرضه، وتعزّز شعبية اليمين المتطرف بقيادة فاراج والذي يحمل لواء مجابهة الهجرة والمهاجرين وبرؤية متطرفة، بينما لا تفيد هذه المواقف حزب المحافظين في شيء ولا ترفع من رصيده الانتخابي، بل تفقده موقعه التقليدي كيمين وسط، وتدفعه باتجاه أقصى اليمين، دون أن يكون قادرا على منافسة يمينية فاراج المتطرفة.
والحقيقة أن زعيم حزب الإصلاح اليميني المتطرف نايجل فاراج لم يتردد في انتهاز الفرصة، إذ إنه لا يفوّت اليوم مناسبة إلا ويعلن أن حزب المحافظين انهار وتفكك، وأن البديل عنه هو حزبه المتصدر استطلاعات الرأي.
فاراج الذي قاد حملة المؤيدين بقوة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وتحوّل بذلك إلى نجم "البريكست"، خفت نجمه بعد ذلك بعض الشيء، ولم يحصل إلا على 5 مقاعد في الانتخابات النيابية التي جرت في يوليو/تموز 2024، إلى أن فاز صديقه دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية، وكان فاراج قد شاركه حملته الانتخابية وحضر ضيفا في حفل تنصيبه، واستغل ذلك الزخم ليعود مجددا للواجهة في المشهد الحزبي البريطاني.
إعلانوقد أشرك فاراج عددا من الشخصيات المشهورة من المحسوبين على فريق ترامب، في اجتماعات نظمها هو في بريطانيا للدعاية لحزبه، كان أبرزهم إيلون ماسك، وستيف بانون، وبعض الشخصيات اليمينية المتطرفة في أوروبا.
ولم يفوّت فاراج موجة صعود اليمين والشعبويات في العالم، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا ليركبها، ويطلق حزب الإصلاح اليميني، بعد أن واجه اعتراضات وصدّا واضحا للانضمام لحزب المحافظين. وقد بدا اليوم وكأنه ينتقم لنفسه، ويعمِل معوله هدما في حزب المحافظين.
وبحسب استطلاعات الرأي، نجح فاراج في استدراج آلاف الأنصار من حزب المحافظين للانضمام إليه، وهو يتوقع انشقاق العديد من النواب المحافظين في البرلمان والالتحاق به، وانشق نائب برلماني من المحافظين، منضما لفاراج، معلنا في ندوة صحفية أن حزب المحافظين قد انتهى.
تبدو بريطانيا مفتوحة على أفق سياسي غير تقليدي، قد يكون عنوانه الأساسي؛ نهاية الأحزاب التقليدية، وصعود قوى جديدة تحل محلها.
وتبدو بريطانيا أكثر هشاشة وعرضة لعواصف الشعبوية واليمين المتطرف، لا سيما بعد أن عزلت نفسها بانسحابها من الاتحاد الأوروبي، فضلا عن أن العلاقة الحميمة، والدعم الذي يجده تيار اليمين المتطرف البريطاني من قبل الرئيس الأميركي وإدارته، يتجليان بوضوح في علاقات الصداقة بين نايجل فاراج وترامب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات من الاتحاد الأوروبی استطلاعات الرأی الیمین المتطرف لحزب العمال نایجل فاراج فی بریطانیا حزب العمال غیر مسبوق ما بعد
إقرأ أيضاً:
"حماس": "نتنياهو" يحاول التنكر لاتفاق وقف إطلاق النار بضغط من ائتلافه المتطرف
غزة - صفا
قالت حركة "حماس" إن محاولات رئيس حكومة الاحتلال "بنيامين نتنياهو" التنصل والتنكر من التزاماته، تأتي تحت ضغط ائتلافه الإرهابي المتطرف في محاولة للهروب من مسؤولياته أمام الوسطاء والضامنين.
وأكد عضو المكتب السياسي للحركة عزت الرشق في تصريح صحفي يوم الأحد، التزام الحركة باتفاق وقف إطلاق النار.
وشدد على أن الاحتلال هو من يواصل خرق الاتفاق واختلاق الذرائع الواهية لتبرير جرائمه.
وخرق جيش الاحتلال اتفاق وقف إطلاق النار 47 مرة منذ بدء سريانه.