يتحول المشهد اللبناني إلى الساحة الرئيسية لفرض الحلول الأمريكية في المنطقة، معلنًا أن الشرق الأوسط يتجه نحو “جبهة لبنان” بشكل كامل. الأجواء تشتعل، فبينما يطلق المبعوث الأمريكي توم باراك سلسلة من الإنذارات الصارمة تصدرت الساحة الإعلامية، اعلن فيها أن البلاد أصبحت تمثل “القطعة المفقودة” في فسيفساء السلام الإقليمي، خرقت مسيرات إسرائيلية سماء بيروت بشكل غير مسبوق ووصلت إلى محيط القصر الجمهوري.

هذا التصعيد ليس عسكريًا فحسب، فباراك يؤكد أن لبنان بات “رهينة هيمنة حزب الله”، وأن نفوذ الميليشيا أصبح العائق الأكبر أمام سيادة الدولة، وأن مفتاح الاستقرار الإقليمي يمر حتمًا عبر تفكيك بنية القوة الموازية.

 

المشهد دفع رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي وصلته رسائل نارية متعددة أقربها الغارات التي استهدفت المصيلح حيث قصره الصيفي، إلى لقاء عاجل مع الرئيس جوزيف عون في بعبدا وسط هدير الطائرات المسيرة، مما يؤكد أن لبنان دخل مرحلة تحديد المصير على وقع الإنذار النهائي الذي أشار إليه باراك بخصوص تاريخ 13 أكتوبر، الذي أرسى الدعامة الأولى لمشروع ترامب للسلام. المبعوث الأمريكي حذّر من أن المبادرات السخية، كعرض 200 مليون دولار لدعم الجيش، قد وصلت إلى طريق مسدود.

 

هذا التحرك الدراماتيكي تزامن مع وصول وفود أمريكية رفيعةالى “اسرائيل”، من بينها المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف ومهندس إعمار غزة و”صفقة القرن” جاريد كوشنير. تُؤشر هذه الزيارة لتل أبيب إلى عودة الأخير إلى الساحة الفلسطينية بعد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة. هذا الحضور يُفهم على أنه تمهيد للمرحلة التالية من خريطة ترامب، والتي قد تفتح الطريق أمام كوشنير لتنفيذ خطته الاقتصادية في القطاع، في إطار إعادة تشكيل الإقليم على أسس جديدة.

 

ترافقت هذه الزيارة مع خطوة عسكرية غير مسبوقة وفق المعطيات التي نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال” عن وصول نحو 200 جندي أمريكي إلى إسرائيل لإنشاء مركز تنسيق لمراقبة وقف إطلاق النار. إن وجود العين الأمريكية في الميدان يحوّل الهدنة إلى واقع خاضع لرقابة دولية مباشرة تُدار من واشنطن.

 

وقد بلغت الرسالة الأمريكية حد توجيه إنذار حازم لنتنياهو، الذي يستمر بالسعي لتمديد أمد الحرب، وذلك خلال اجتماعه بويتكوف وكوشنير. تؤكد هذه الرسالة أن واشنطن لن تسمح بعرقلة خطتها، وأن بإمكان إسرائيل الدفاع عن نفسها دون تعريض وقف إطلاق النار للخطر. كل هذا يؤكد أن “القرار الأمريكي الكبير “بات وشيكا ،خاصة وأن هذه الزيارات تزامنت مع الزيارة الأهم على الإطلاق،وصول نائب الرئيس الأمريكي جي ديفنس لى تل أبيب اليوم. هذه المعطيات جميعها تؤشر إلى أن المرحلة الأولى التي بدأت في غزة ستكون وجهتها الثانية هي لبنان، الذي يقف أمام خيار حاسم بين استعادة سيادته أو التخلف عن قطار التسويات الإقليمية.

 

وفي هذا السياق الملتهب، جاءت تصريحات المرشد الإيراني علي خامنئي لتضيف بعدًا إقليميًا مضادًا. فقد وصف خامنئي كلام الرئيس الأمريكي عن “تدمير الصناعة النووية” بأنه “أضغاث أحلام”، مؤكداً أن ما يُعرض على إيران هو إملاء بالقوة. هذه الرسالة تحمل تحذيراً ضمنياً لبيروت من مغبة الانخراط في تسويات تُضعف موقع حزب الله. هكذا، يجد لبنان نفسه محشوراً بين الإنذار الأمريكي القاسي والتحذير الإيراني الرافض، في لحظة اختبار سيادي حاسمة.

 

لقد تجاوز لبنان مرحلة الترقب، ليجد نفسه الآن مكبلاً بين نقيضين لا يقبلان الحلول الوسط. فالتحدي الأكبر ليس فقط في نزع سلاح حزب الله، بل في اتخاذ قرار سيادي نهائي يحدد موقعه في توازنات القوة الكبرى. هل يختار الانخراط في “قطار التسويات” الأمريكية مقابل الانتعاش الاقتصادي، أو التمسك بمحور “المقاومة” وتحمل تبعات “لحظة المحاسبة” القادمة؟ يبدو أن زمن المناورة انتهى بلا رجعة. بات القرار الحاسم إما أن يُتخذ داخليًا عبر استعادة الدولة لاحتكار سلاحها، وإما أن يُفرض عليها من الخارج بثمن باهظ وغير مضمون العواقب، مما يهدد بفتح صفحة جديدة وربما أكثر دموية في تاريخه الحديث.

 

المصدر: مأرب برس

إقرأ أيضاً:

من أوسلو إلى حرب غزة.. كيف انهار النموذج القديم للعلاقة الأمريكية–الإسرائيلية؟

يطرح أندرو ب. ميلر، الزميل الأول في الأمن القومي والسياسة الدولية بمركز التقدم الأمريكي والمسؤول السابق في إدارات بايدن وأوباما، رؤية نقدية عميقة للعلاقة الأمريكية الإسرائيلية، معتبرا أن “الاستثناء الإسرائيلي” الذي ميز هذه العلاقة على مدى ثلاثة عقود قد شارف على نهايته، وأن السياسة الأمريكية بحاجة إلى إعادة بناء جذرية تعيدها إلى المعايير الطبيعية في التعامل مع الحلفاء.

فعلى الرغم من الدعم الأمريكي الواسع للاحتلال الإسرائيلي خلال حقبة التسعينيات من عملية السلام، والانتفاضة الثانية، وسلسلة حروب غزة ولبنان، ثم هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وما تبعه من حرب على غزة؛ تكشف التجربة – بحسب ميلر – أن هذه العلاقة كلفت واشنطن كثيرا دون أن تفضي إلى تأثير فعال على سلوك الحكومة الإسرائيلية.

علاقة "استثنائية" خارج كل المعايير
يرى ميلر بمقاله المطول في مجلة "فورين أفيرز" أن العلاقة بين واشنطن وتل أبيب ليست “خاصة” كتلك التي تجمع الولايات المتحدة بالمملكة المتحدة، بل “استثنائية” إلى حد يجعل إسرائيل تتمتع بمعاملة لا يحصل عليها أي حليف آخر. فصفقات السلاح مع تل أبيب غالبا ما تستثنى من القوانين الأمريكية التي تطبق على بقية الدول. 

كما أن القادة الإسرائيليين يظهرون تفضيلا علنيا لحزب أمريكي دون أن يواجهوا تبعات، وتذهب واشنطن إلى حد حماية سياسات الاحتلال في المؤسسات الدولية حتى عندما تتعارض مع مواقفها الرسمية.
لكن هذه “الاستثنائية” – بحسب ميلر – لم تخدم أحدا: فقد أعطت الاحتلال الإسرائيلي ضوءا أخضر لسياسات توسعية ومغامرات عسكرية، وأسهمت في استفحال الاستيطان وعنف المستوطنين وسقوط أعداد هائلة من الضحايا المدنيين في غزة، إلى جانب المجاعة في بعض المناطق. كما قوض الدعم غير المشروط مكانة الولايات المتحدة وشوه صورتها في العالم.

تراجع التأييد الشعبي في الولايات المتحدة
تزامنا مع حرب غزة، سجل الرأي العام الأمريكي تحولا تاريخيا؛ إذ تراجعت شعبية الاحتلال إلى مستوى منخفض غير مسبوق عبر مختلف المكونات السياسية. ويشير ميلر إلى أن استمرار الوضع الحالي يهدد بعزل تل أبيب عن الشعب الأمريكي ذاته، وبإلحاق ضرر كبير بالمصالح الاستراتيجية لواشنطن.

يستعرض ميلر تاريخ العلاقة، مبينا أن الدعم غير المشروط لم يكن قاعدة دائمة. فحتى إدارة بيل كلينتون، كانت واشنطن لا تتردد في فرض عقوبات أو تجميد مساعدات لإجبار الاحتلال على تغيير سلوكه، بل دعمت في كثير من الأحيان قرارات أممية تنتقد السياسات الإسرائيلية.

لكن الإدارات التالية غيرت هذا النهج، إذ اعتقدت أن إسرائيل القوية المدعومة بلا حدود ستكون أكثر استعدادا للمخاطرة من أجل السلام. وبذلك، تخلت الولايات المتحدة تدريجيا عن أي أدوات ضغط فعالة.


نتنياهو.. استغلال الاستثناء بدل احترامه
يؤكد ميلر أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أعاد تشكيل العلاقة على نحو أحادي، إذ يستغل الالتزام الأمريكي بالعلاقة الاستثنائية لخدمة مصالحه السياسية الداخلية، كما حدث خلال مواجهته إدارة بايدن أو هجومه على اتفاق إيران النووي أمام الكونغرس في 2015. ويرى ميلر أن صعود اليمين الإسرائيلي المتشدد وتراجع الدعم الشعبي لحل الدولتين يعمقان هذا الخلل البنيوي.

تكشف الحرب التي اندلعت في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2025 – وفق تحليل ميلر – هشاشة النفوذ الأمريكي. فعلى الرغم من الدعم العسكري والدبلوماسي الواسع، فشلت واشنطن في تغيير مسار العمليات الإسرائيلية أو الحد من الخسائر المدنية. 

ويشير إلى أن الإدارة الأمريكية لم تستخدم أدوات الضغط المتاحة لها، بما في ذلك القوانين التي تمنع تقديم المساعدات للدول التي تعرقل دخول المساعدات الإنسانية.

ويقدم ميلر مثالين فقط استخدمت فيهما إدارة بايدن نفوذها بفعالية، حين هددت بخفض الدعم العسكري لتحسين تدفق المساعدات إلى غزة، فاستجابت إسرائيل بشكل مؤقت قبل أن تعود إلى القيود السابقة.

ترامب بين الاستثناء والبراغماتية
لم تختلف المقاربة الأمريكية كثيرا بعد عودة دونالد ترامب للرئاسة. فبعد بداية واعدة في الضغط على نتنياهو لقبول وقف إطلاق النار مطلع 2025، سرعان ما تبنت إدارته نهجا يقوم على تفويض إسرائيل حرية واسعة في العمليات العسكرية. 

وقد أسفر ذلك عن حصار شامل دام أكثر من شهرين، أدى إلى مجاعة واسعة النطاق في غزة، قبل أن تتدخل واشنطن لتعديل الآلية الإنسانية – وهي خطوة وصفت بأنها جاءت “متأخرة للغاية”.
كما منحت إدارة ترامب تل أبيب مساحة للتحرك العسكري في لبنان وسوريا وإيران، قبل أن تنخرط هي نفسها في ضرب مواقع إيرانية نووية، في استجابة يعتقد أن نتنياهو كان يسعى إليها منذ البداية.

نحو “علاقة طبيعية” وليس علاقة استثنائية
يدعو ميلر بوضوح إلى إنهاء مرحلة “الاستثناء الإسرائيلي”، ووضع إطار جديد للعلاقة يتضمن: ( توقعات وحدود واضحة - مساءلة حقيقية بشأن الامتثال للقانون الدولي والقانون الأمريكي - شروطا صريحة للدعم العسكري والسياسي - عدم التدخل في السياسة الداخلية الأمريكية - احترام المصالح الأمريكية بدل استغلالها).

ويرى أن هذا التغيير ليس مجرد خيار، بل “ضرورة استراتيجية وسياسية وأخلاقية”، وأنه السبيل الوحيد لمنع المزيد من التصعيد الإقليمي، والحفاظ على مكانة الولايات المتحدة، ووقف الانهيار الإنساني في غزة، وتفادي عزلة الاحتلال الإسرائيلي الدولية المتفاقمة.

يخلص ميلر إلى أن الاستمرار في النهج الحالي سيؤدي إلى كارثة لجميع الأطراف٬ الولايات المتحدة، إسرائيل، والفلسطينيين. أما إعادة العلاقة إلى إطار “طبيعي” يراعي المصالح المشتركة ويضع ضوابط واضحة، فهي الخطوة الوحيدة القادرة على حماية الاستقرار الإقليمي واستعادة التوازن الذي فُقد منذ ثلاثة عقود.

مقالات مشابهة

  • 10 ملايين دولار مقابل رأس الإيرانية فاطمة صديقيان.. ما الذي كشفته واشنطن؟
  • لبنان .. البلد الذي ليس له شبيه
  • لقاء بين بري ولودريان في عين التينة
  • فشل خطة السلام الأمريكية فى أوكرانيا
  • إصابة خطيرة... ما الذي جرى بين أطفال في مُخيّم عين الحلوة؟
  • السفير الأمريكي في لبنان: اتصالات قائمة لزيارة قائد الجيش اللبناني إلى واشنطن
  • أحمد الزرقة يكتب للموقع بوست عن: ما الذي يعنيه اليمن في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025؟ وما دور السعودية والإمارات؟
  • من أوسلو إلى حرب غزة.. كيف انهار النموذج القديم للعلاقة الأمريكية–الإسرائيلية؟
  • هل تُسهم الدبلوماسية الأمريكية في نزع فتيل الحرب في لبنان؟
  • السفير الأمريكي يؤكد دعم واشنطن لإعادة إعمار غزة