الشهادة السودانية.. من رمز للتفوق إلى مظاهرة عبثية
تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT
حسن عبد الرضي
لم تكن الشهادة السودانية مجرد امتحان نهائي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بل كانت حدثًا وطنيًا يملأ البيوت فخرًا، والقلوب رجاءً، والبلاد كلها تنتظر نتائجه كما تنتظر مولودًا عزيزًا. كانت معيارًا حقيقيًا للكفاءة والجدارة، ومدخلًا للتنافس الشريف بين أبناء الوطن، بغض النظر عن مناطقهم أو إمكاناتهم.
لكنّ الحال اليوم تغيّر تمامًا. فذلك المجد الأكاديمي الذي ارتبط بالشهادة السودانية أصبح أثرًا بعد عين. اختلّت المعايير، وانهارت منظومة القيم التربوية، وغابت العدالة بين الطلاب، حتى غدت الامتحانات مظاهرة عبثية لا علاقة لها بالتحصيل أو الكفاءة أو روح التنافس.
إنّ الامتحانات التي تعتمد على استفراغ المعلومات المؤقتة وحفظها بغرض اجتياز الورقة ثم نسيانها بعد أيام، أثبتت بالتجربة العملية أنها لا تُنتج معرفة، ولا تُنمّي مهارة، ولا تُؤهّل عقلًا. فالمناهج العقيمة التي تُغرق الطالب في كمّ هائل من المعلومات غير المفيدة، ثم تضع أمامه امتحانًا شكليًا، لم تعد تواكب روح العصر ولا حاجات المجتمع.
وقد كتب أحد الزملاء المهتمين بالشأن التربوي مقالًا عميقًا، أوافقه فيه الرأي تمامًا، حين قال إنّ امتحانات الشهادة الثانوية ليست معيارًا حقيقيًا للتنافس، بل هي مشبعة بالغش والتجاوزات. فهو ممن راقبوا هذه الامتحانات منذ منتصف التسعينيات، ويشهد أن ما يسمى بـ«البخرات» — أي أوراق الغش المصغّرة — أصبحت متوفرة لدى أغلب الطلاب، وأنّ ما يقدَّم اليوم على أنه تفوق، هو في كثير من الأحيان نتاج غشٍّ منظم تتواطأ عليه جهات مختلفة داخل وخارج قاعات الامتحان.
لقد تحوّلت بعض المدارس الخاصة إلى مراكز نفوذ تُباع فيها الأسئلة، وتُكشف فيها الامتحانات قبل الموعد، في ظلّ غياب الرقابة وتهاون الكنترول، حتى صارت الشهادة لا تعبّر عن مستوى الطالب بقدر ما تعبّر عن قدرته على الوصول إلى مصدر التسريب. أما الطلاب المجتهدون من المدارس الحكومية الفقيرة، فقد ضاعوا بين فوارق البيئة وضعف الإمكانات وسطوة المال.
الأخطر من ذلك أنّ حالات الغش التي يتم ضبطها في القاعات لا تُعالج وفق اللوائح، بل تُطوى الملفات في صمتٍ غريب. يتم سحب البخرة، ثم يُسمح للطالب بمواصلة الامتحان وكأن شيئًا لم يكن! وهكذا تحوّلت الجريمة التربوية إلى ممارسة مألوفة ومحمية بالصمت المؤسسي، حتى فقدت الشهادة معناها ومكانتها.
لقد آن الأوان لنقولها بوضوح: الشهادة السودانية لم تعد صالحة لتكون معيارًا للقبول الجامعي أو للتفاضل الأكاديمي. ما يجري اليوم هو نظام فاسد يُخرّج أجيالًا مشوّهة فكريًا وأخلاقيًا، لا تُجيد سوى تقنيات الغش والحفظ المؤقت.
إنّ الحلّ لا يكمن في زيادة المراقبة الأمنية أو تشديد العقوبات فقط، بل في إعادة تعريف الهدف من التعليم نفسه. يجب أن تُمنح شهادة إكمال المرحلة الثانوية لكل من أكملها بنجاح، على أن تتولّى الجامعات بنفسها إعداد الامتحانات الخاصة بها، وفق معاييرها الأكاديمية الصارمة. بهذا فقط يمكن أن نعيد الاعتبار للجدية والانضباط، وأن نفرز الحقيقي من المزيف.
لقد فقدت الشهادة السودانية روحها، ولكن يمكن أن تُبعث من جديد — لا بالشعارات ولا بالحنين إلى الماضي — بل بإصلاح جذري صادق يضع التربية قبل السياسة، والعقل قبل الحفظ، والمعرفة قبل الشهادة.
الوسومحسن عبد الرضي
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الشهادة السودانیة
إقرأ أيضاً:
قوات الامن الإيطالية تقمع مظاهرة داعمة للقضية الفلسطينية
الثورة نت/وكالات قمعت الشرطة الإيطالية، مساء الجمعة، مظاهرة داعمة للقضية الفلسطينية في العاصمة روما، مستخدمة الهراوات والمياه المضغوطة. وشارك العشرات في المظاهرة لدعم فلسطين، و للتنديد بجريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الإسرائيلي في غزة، رافعين لافتات مثل “الصهيونية خطر على العالم”، و”يجب طرد السفير الإسرائيلي من إيطاليا”. وحمل المتظاهرون الأعلام الفلسطينية، وأطلقوا هتافات مثل “الحرية لفلسطين”، و”جميعنا مناهضون للصهيونية”، و”من النهر إلى البحر.. فلسطين حرة”، “وإسرائيل دولة صهيونية إرهابية”. وحاول المتظاهرون المسير نحو موقع انعقاد مهرجان روما السينمائي، مرورا بالقرب من مقر السفارة الإسرائيلية، إلا أن قوات الشرطة اعترضت طريقهم. و تدخلت الشرطة مستخدمة الهراوات، ثم المياه المضغوطة، بذريعة عدم وجود تصريح مسبق بالمسيرة. وعلى مدار عامين، شنت “إسرائيل” حرب إبادة جماعية على قطاع غزة، قتلت خلالها نحو 68 ألفا و280 فلسطينيا، وأصابت 170 ألفا و375 آخرين، معظمهم أطفال ونساء، وطال الدمار نحو 90 بالمئة من البنى التحتية.