حالة الإنذار المبكر
تاريخ النشر: 26th, October 2025 GMT
د. عبدالله باحجاج
نقف في هذا المقال لافتين ومُلفتين لشيء خارج عن المألوف، لقضية لا تتوفر لها الاهتمامات المُستحقة حتى الآن، رغم ملامح خطورتها المقبلة، فما يظهر فوق السطح لا يُعالج من أسبابه، وإنما هو بين الإدارات الأمنية، وبين تركِهِ يتراكم، ما أفرز مجموعة تراكمات بنيوية، وهذه القضية هي مستقبل التعددية الطائفية والإثنية في منطقة الخليج؛ فهناك عدة عوامل داخلية وخارجية تدق ناقوس الخطر على تجانسها في كل دولة خليجية- مع التباين- وسواء التقت العوامل الداخلية مع الخارجية أو لا؛ فالمخاطر جسيمة، فكيف إذا ما التقت في حقبة العبث بخارطة المنطقة في مرحلة ما بعد غزة؟!
هنا ينبغي أن نطرح تساؤلات افتراضية من حيث المبدأ؛ منها: ما يتعلق بمستقبل تجانس التعددية في كل دولة؟ وهل السياسات الحكومية الجديدة تعمل على استدامة هذا التجانس، الذي يُطلق عليه الوحدة الوطنية، بوعي التحولات الجديدة، وأسباب انفجار التعددية في سوريا والعراق ولبنان واليمن مثلًا، وكيف تحول الصراع فيها إلى حرب أهلية ممزوجة بهويات مذهبية وإثنية مع استثمارها من قبل دول إقليمية.
وعندما نتعمق في تلكم الأسئلة من منظور اطلاعنا على خارطة التعددية في كل دولة خليجية، وجدناه واقعًا مُركَّبًا ومعقدًا جدًا؛ لأنه واقعٌ تتداخل فيها عدة عوامل وبنى وقوى اجتماعية واقتصادية وثقافية في آنٍ واحدٍ. ولما بحثنا في تاريخية صناعة تجانسها، وجدنا أن بعضها يقوم على الحد الأدنى من التجانس، وهذا يعني أنه أكثر احتمالات الانهيار؛ سواءً لأسباب داخلية أم خارجية، وقد تتقاطع الأسباب كلها في وقت واحد. وصناعة هذا التجانس وراؤه الإدارة السياسية في كل عاصمة خليجية، فقد وظَّفت الاقتصاد والتنمية لاحتواء واستيعاب التعدد المذهبي والقبلي، الاجتماعي والثقافي والفكري والجغرافي.
ونجاح الإدارة السياسية يكمن في جعل التعدد يتعايش ويتجانس داخل حدوده الوطنية، رغم امتدد بعض مكوناته مع الخارج، وأصبح العاملان الأمني والقضائي ضامنين لهذه التجانس، وحجتهما كانت أقوى على الفرد والجماعة أو الجماعات، عندما يحدث جنوح نحو الذات الإقصائية والاستعلائية؛ وذلك على اعتبار أن هناك حقوقًا اقتصادية اجتماعية، وحريات لكل مُكوِّن مُتعدِّد، ولو في الحدود الدنيا للبعض، تؤمِّن لهم الحكومات.
والملاحظ الآن تخلي الاقتصاد والتنمية في القيام بنفس الأدوار التاريخية المؤسِّسة للتجانس، بسبب الأزمات المالية والاقتصادية، وترسيخ سياسات وخطط الأزمات في إحداث نقلة استراتيجية في دور الدولة الخليجية، من الدور التدخُّلي إلى دور نيوليبرالي يعتمد على نظام الجبايات وكافة الأدوات الضريبية؛ ما أحدث تغيُّرات بنيوية في أركان استقرار المجتمعات وتوازناتها، وتحول التفاؤل إلى تشاؤم، ومن الاطمئنان إلى القلق. ومن ثم أصبحت معها التعددية ترتد على ذاتيَّتِها، وتُعيد تعريفها بخطابات "الأنا- نحن- هُم" مع الاعتداد بالهُوِيَّات الفرعية، وتستدعيها بسرديات قديمة، في ظل تنامي الوعي العام بحقوق المواطنة الشاملة؛ بما فيها السياسية، كاستحقاقاتٍ وليس كمنحةٍ. وهذا قد أصبح من كُبرى التحولات الاجتماعية والسياسية الآن في الخليج. فهل الفكر السياسي الخليجي على وعيٍ بهكذا تحولات ومآلاتها؟
انشغالات دول المنطقة الآن تنصب على تعزيز قوتها الخشنة، وقد أطلقت الإنذار المبكر نحو تعزيز أنظمة مواجهة الأخطار المتعددة؛ سواءً كانت عسكرية (مثل الصواريخ الباليستية) أو طبيعية وبيئية (مثل الكوارث المناخية والأوبئة)، وتحديث خطط الدفاع المشتركة، وتفعيل تبادل المعلومات بين الدول، وإعادة تحالفاتها الإقليمية والعالمية لدواعي شراء أسلحة ذات تقنية عالية. وأصبحت الدول المُصنِّعة لهذا السلاح تتسابق في الدخول مع دول المنطقة في تحالفاتٍ، استغلالًا للسيكولوجية السياسية لدول الخليج، بعد التوترات والحروب الأخيرة في المنطقة، وتتجاهل الحروب الداخلية التي قد يُنتجها انهيار التجانس.
لذلك نقول إنَّ تجاهل الحكومات أو تأخيرها في إدارة التعددية، سيكون من كبرى الأخطاء الاستراتيجية؛ فالمخاطر ستكون متعددة سياسية واجتماعية، وقد وجدنا بعض الدراسات المُستقلة تحصر هذه المخاطر في تصاعد الهويات الفرعية الضيقة، كما يغيب الإطار الوطني الجامع والضامن لحقوق وحريات الفرد والجماعة، وكذلك تفكُّك الثقة بين الحكومات والمجتمعات، وانفجار صراعات سياسية واجتماعية، مع استغلالها خارجيًا من قوى إقليمية ودولية. لذا لا بُد من إعادة النظر في الخيارات الاقتصادية والتنموية للدول الخليجية، وإعداد مشروع وطني مُستدام- بصورة عاجلة- يُعيد الأمل للمجتمعات، وخاصة جيل الشباب الذين يُشكِّلون هاجسًا مستقبليًا للتعدد في الخليج.
ولن نبالغ إذا ما قلنا إن المنطقة في مرحلة وجوبية إطلاق إنذار مُبكِّر مُماثِل للحفاظ وتعزيز مُكتسب تجانس التعدُّد في إطار وحدتها الوطنية، وذلك عبر عودة إدارتها السياسية لهذا الملف والتخلِّي عن أُحادية تركيزها على الجبايات، والاستمرارية الخاطئة في الدولة الريعية، دون انعكاساتها الاجتماعية؛ فهذا يُبدِّد أي استقرار اجتماعي مُكتسب طوال العقود الماضية، والضحية الكبرى سيكون مُكتسب التجانس بين المُكوِّنات.
هذا يعني أنه يستوجب على كل دولة أن تفتح عاجلًا هذا الملف لإدارتها السياسية الحصرية، ومن خارج صندوق تفكيرها الاعتيادي؛ لأن التعدُّد الطائفي والإثني قد أصبح مُستهدفًا في كثيرٍ من دول المنطقة، وقد قَلَبَ عاليها سالفها، ولا يبدو الحل فيها إلّا من خلال تشطُّرات جغرافية أو حكم ذاتي تحت وصاية إقليمية ودولية، وأيضًا لن نبالغ إذا ما ذهبنا بتفكيرنا الآن إلى القول إن الفكر التآمري قد انتهى من مرحلة التخطيط، ويترقَّب التنفيذ الذي سيكون إمَّا بمباركة دولية أو استغلالًا للتوترات الداخلية- لا قدر الله- في حقبة تحقيق الأجندات والمصالح الجيوسياسية بأدواتٍ ناعمةٍ، ولن تكون أي دولة في منأى عن الاستهداف إلّا وفق حسابات زمنية مُمنهَجة، أو بالقدر الذي يُؤخِّرها للاستفادة من وَهْمِها المُصطنع بأنها خارج الاستهداف.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الاتحاد الأوروبي تواطأ في حرب غزة ولا مهرب الآن من المسؤولية
ناتالي توتشي
ترجمة - أحمد شافعي
أثارت المرحلة الأولى من خطة دونالد ترامب لغزة تنهيدة ارتياح جماعية من القادة الأوروبيين. فبعد سنتين من المذابح، يأتي وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين والإسرائيليين وانسحاب الجيش الإسرائيلي الجزئي من غزة وإتاحة وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع لتبث أملا، ولتكون أيضا، ومن سوء الحظ، ذريعة لأوروبا كي تستمر في عمل لا شيء.
عندما يتعلق الأمر بحرب غزة، خلافا لغزو روسيا لأوكرانيا، أبدت الحكومات الأوروبية أسوأ ما فيها من سمات، فهي منقسمة، وانشقاقاتها السياسية أدت بها إلى شلل سياسي. لكن الأسوأ من القعود في الأطراف والاكتفاء بفرك الأيدي في قلق، هو أن من الممكن اتهام الحكومات الأوروبية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل بالتواطؤ في جرائم الحرب الإسرائيلية. فقد عزفت جميعا عن فرض أي ضغط على مقترفي هذه الجرائم، مع استمرارها في تعاونها الاقتصادي والسياسي والعسكري معهم. وقد أثارت انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي غضبا عارما واسع النطاق بين شعوب أوروبا، لكن حكومات الاتحاد الأوروبي ومؤسساته فقدت الصلة مع مواطنيها، وبخاصة الشباب منهم.
قبل خمس سنوات لا أكثر، ناصر الاتحاد الأوروبي أجندة المناخ، مستجيبا لمطالبة الكثير من الشباب الأوروبيين. وهؤلاء الشباب أنفسهم مصدومون من تقاعس قادتهم في أمر غزة. فقد استغرقت فرنسا وبريطانيا والبرتغال وبلجيكا ولوكسمبرج ومالطا سنتين من الحرب ـ التي يعدها الكثيرون إبادة جماعية ـ لكي تعترف بدولة فلسطينية، مقتفية في ذلك أثر أسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا في ما سبق أن فعلته في العام الماضي.
وفي الشهر الماضي فقط اقترحت المفوضية الأوروبية أول الإجراءات العقابية الخجولة لإسرائيل، فمن هذه العقوبات معاقبة الوزراء المتطرفين والمستوطنين العنيفين. غير أنه لم يجر تنفيذ أي من هذه الخطوات. فالإجراء الأول يستوجب اتفاقا بالإجماع بين حكومات الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين، وذلك مستبعد في ضوء معارضة أقلية جهيرة الصوت من البلاد من قبيل المجر وجمهورية التشيك. والإجراء الثاني كان يمكن أن يجاز بالأغلبية المؤهلة لولا أن هذه الخطوة المهمة ـ نظرا لمعارضة ألمانيا وإيطاليا ـ بقيت حبرا على ورق.
في يونيو تبين للاتحاد الأوروبي أن إسرائيل انتهكت التزاماتها المتعلقة بحقوق الإنسان المفروضة عليها بموجب اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل. لكن مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس أوقفت في يوم الاثنين الجهود الرامية إلى تعليق امتيازات الاتفاقية التجارية (ومن المرجح أن يتبنى رؤساء حكومات الاتحاد الأوروبي هو نهج نفسه عند اجتماعهم في قمة يوم الخميس). فيا له من تناقض صارخ مع حزم العقوبات الـ19 التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا. ففي حالة أوكرانيا، وقفت أوروبا وقفة حازمة للدفاع عن الديمقراطية والقانون الدولي، وفي حالة غزة، حطمت مصداقيتها في عيون العالم.
والآن جاءت خطة ترامب لتمد أوروبا بمهرب. فقد مكنت الحكومات والمؤسسات الأوروبية من الظهور بمظهر من يتبنى مطالب واشنطن، مثلما فعلت ـ وإن يكن بغير ارتياح ـ في حالة أوكرانيا وفي حالة الدفاع وفي حالة التبادل التجاري. فقد أتاحت الخطة لأوروبا أن تحتفي بفجر سلام يشرق على الشرق الأوسط، وأن تصرف الأنظار من الإجراءات العقابية تجاه إسرائيل إلى الدعم الأوروبي للخطة الأمريكية.
استطاعت أوروبا أن تنسحب إلى منطقتها الآمنة التي تلعب فيها الدور الثانوي تالية للولايات المتحدة. والواقع أنه في حين أن المنتظر من أغلبية البلاد العرب العربية والإسلامية أن تقوم هي بالعبء الثقيل في القوة الدولية المحتملة لإحلال الاستقرار في غزة، فإن الحكومات الأوروبية تحتشد للإسهام في المساعدات الإنسانية، وإعادة الإعمار، ودعم الحوكمة، ومراقبة الحدود. وتلاشى تقريبا الحديث عن الضغط على إسرائيل. فضلا عن ذلك، تصر إسرائيل على أنها لن تسمح للأوروبيين بلعب دور في إعادة إعمار غزة إلا في حال إسقاطها الإجراءات العقابية المقترحة في الاتحاد الأوروبي. وفيما تمضي أوروبا في هذا الطريق، يهنئ قادتها أنفسهم على تجاوزهم للسلبية، برغم أنهم رجعوا سيرتهم الأولى إلى أنماط مألوفة من السلوك.
وهذا كله مفهوم. فخطة ترامب هي الخطة الوحيدة المتاحة، وهي بالقطع الخطة الوحيدة التي تحظى بفرصة في النجاح، مهما بلغت هذه الفرصة من الضآلة. وليس هذا بسبب جدارة الخطة، فهي إشكالية في أحسن الأحوال، بل لأن الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد الذي يملك النفوذ اللازم لإجبار حكومة إسرائيل على أن تغير مسارها. ومن هنا فليس دعم الدبلوماسية الأمريكية ملائما للأوروبيين فحسب، بل هو أمر منطقي أيضا.
غير أن المضي قدما في تنفيذ الخطة بعد مرحلتها الأولى أسهل على المستوى النظري منه على المستوى التطبيقي العملي. فهناك الكثير من العقبات والمعضلات التي تعترض التنفيذ. إذ إنه من غير المرجح أن تنسحب إسرائيل انسحابا تاما من غزة ما لم تنزع حماس سلاحها. في حين أن حماس لن تنزع سلاحها تماما ما لم تنسحب إسرائيل.
والخطة تستهدف الانتقال نحو حكم ذاتي فلسطيني، وإعطاء دور للتكنوقراط الفلسطينيين في البداية، ثم لسلطة فلسطينية «بعد إصلاحها». لكن إصلاح السلطة له معان مختلفة اختلافا جذريا في أنظار الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية والفلسطينيين أنفسهم. وإسرائيل ترفض السلطة جملة وتفصيلا، وكذلك فكرة الدولة الفلسطينية.
ولقد كانت الحكومة الإسرائيلية قاسية الوضوح في تكرار هدفها الثابت ـ وهو القضاء على حماس ـ وحرصت على تجنب الحديث عن إنهاء الحرب. ولم تحترم إسرائيل وقف إطلاق النار احتراما كاملا: فمنذ دخوله حيز التنفيذ، لقي العشرات من المدنيين الفلسطينيين مصرعهم على يد إسرائيل. وما لم يفرض المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة وأوروبا، ضغطا أكبر بكثير على إسرائيل، فمن المرجح أن نشهد استئناف العنف الجماعي، وأن تبقى غزة - وكذلك الضفة الغربية - تحت الاحتلال. وباختصار، لن ترى بقية نقاط الخطة النور.
ولهذا يخطئ الأوروبيون حينما يرون أن دعم خطة ترامب والضغط على إسرائيل أمران منفصلان أو متناقضان. فقد يكون من الموائم سياسيا، وإن يكن من غير الصحيح عمليا، اعتبار الأمر الأول جزءا من نموذج السلام، واعتبار الأمر الثاني جزءا من نموذج الحرب المستمرة. فليس هذا بالوقت المناسب لأن يشعر الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء بأنهم تخففوا من المسؤولية، أو لأن يتراجعوا عن الخطوات الأولى الخجولة نحو اتخاذ الإجراءات العقابية وفرض الشروط. ففرض الضغط على إسرائيل هو السبيل الوحيد لتجاوز العقبات السياسية، وإذا ما تحقق ذلك، يمكن أن تقدم أوروبا أخيرا إسهاما بسيطا ـ ولكنه إيجابي على الأقل - في السلام في المنطقة.
ناتالي توتشي من كتاب الرأي في «الجارديان».